«شطرنــج».. مفارقات طارق محرم الساخرة
-يعد الحوار جزءًا مركزيًا من بنية القص فى المجموعة، من قبيل حضوره الواعد فى قصة «شطرنج» التى تحمل المجموعة
إحدى وثلاثون قصة قصيرة تشكل المتن السردى للمجموعة القصصية «شطرنج» للقاص طارق محرم، الصادرة فى القاهرة حديثًا عن دار «أطياف».
تبدأ المجموعة بقصة «ابن ناس»، وتنتهى بقصة «استغناء»، وكلا النصين يُعد مؤشرًا على تيمة الاغتراب التى يمكن تلمسها فى قصص عديدة أخرى داخل المجموعة، حيث انفصال الفرد عن البنية الاجتماعية المحيطة به.
الذات الساردة فى القصة الأولى «ابن ناس» تعانى عدم قدرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية المحيطة، ما يدفعها للذهاب إلى مدرسة لتعليم الوقاحة للمبتدئين فى فكرة فانتازية لا تخلو من طرافة.
وتعزز من الحضور الواعد للحس الساخر داخل المجموعة الذى يمكن تلمسه فى نصوص عديدة أيضًا: «فى يوم ما صادف أن رأى تعقيبًا ساخرًا فى الفيسبوك على إنشاء مدرسة لتعليم الوقاحة للمبتدئين، وهى فرع لمدرسة دولية فى السويد. من توه قام بالبحث عن هذه المدرسة على جوجل حتى وجدها، فقرأ على صفحتها الرسمية أن سبب إنشائها هو أن الكثير من البشر لا تسمح أخلاقهم بالرد على من يعاملهم بفظاظة ووقاحة، فيحزنون داخليًا مما قد يتسبب فى أمراض نفسية وعضوية، ومن هنا فالمدرسة ظهرت لتعين هؤلاء على أفضل الطرق للرد على مثل هذه الوقاحة مع إضافة كل بلد للمستها المحلية».
بحث «طاهر» عن فرع هذه المدرسة حتى وجده، وبالاتصال بهم فهم أنهم سوف يفتتحونها فى القريب العاجل. سارع طاهر بالمشاركة حتى يستطيع أن يتوازن فى هذه الدنيا اللعينة.
المكان يوحى بالسجون، نوافذه ضيقة مفتوحة على حارة ورائحته كرائحة ما تحت الكوبرى. الوجوه حائرة تلتقى لأول مرة، ولكن يبدو عليها أنها وجوه «ناس طيبين».
«المكان مقصود أن يكون بهذا الشكل والرائحة، لأنكم بعد انتهائكم من هذه الدورة سوف تخرجون وقد اعتادت أعينكم وأنوفكم وآذانكم على كل ما هو كريه» قالها شخص دخل عليهم يبدو أنه المسئول، واستطرد: «إن تغيير طبائع الإنسان ليس بالأمر الهين، وهو مثل القيام بالتمارين الرياضية يجب أن تعتادها، رغم مشقتها، حتى تحصل على النتيجة المرجوة».
ثمة موظف كلاسيكى هنا، مهذب للغاية، يريد التغلب على سخافات هذا العالم. ويقرر تعلم الردود الوقحة فى مفارقة ساخرة، يستعين فيها الكاتب أحيانًا ببعض المرويات المعرفية مثل قصة بيتهوفن الذى قرر الدخول إلى بيت يعزف سكانه نغمة نشازًا ترهق أذنه قبل إصابته بالصمم. لكن المفارقة أنه بعد إصلاحه الآلة الموسيقية، يعود إليه أصحاب البيت فيما بعد طالبين إعادتها لسابق عهدها!.
وفى «استغناء» ثمة رجل لا يفعل شيئًا، استراح لفكرة التقاعد الطوعى، يضع همه فى الطعام ومشاهدة التليفزيون، ويجعل باب شقته مواربًا لدخول عمال الديليفرى، وعندما تأتيه مكالمة تستنفر لديه طاقة الخروج من عزلته الاختيارية بشأن وفاة ابن عمه، وضرورة حضوره بوصفه كبيرًا للعائلة يلعن الحظ الذى جعل هاتفه مفتوحًا، وحينما يهم بالقيام متثاقلًا ومتكاسلًا عن تنظيف ثيابه يجد نفسه غارقًا فى النوم بعد لحظات وقد اشتعل صوت الهاتف رنينًا!.
وفى «على المعاش» ستجد حالة التقاعد القسرى لموظف ما بعد الستين، وهى هاجس داخل المجموعة، ويصبح حضورها هنا مقترنًا بمحاولة استحضار عوالم أخرى مثل عالم الموسيقى الذى يجد ظلالًا عديدة فى المجموعة، بحيث يمكنك أن تشير إلى ما يسمى «سردية الموسيقى» داخل المجموعة، ومثل معظم النهايات التى تقوم على تكنيك المفارقة الساخرة، يذهب الموظف المتقاعد إلى الأوبرا للاستماع إلى حفل موسيقى، فينام فى أوله، ويصبح صوت شخيره عائقًا أمام العازفين الذين يتوقفون عن العزف ليفر سريعًا من المكان قبل طرده.
ثمة استحضار للتدوينات اليومية فى «على المعاش»، وهنا مثلًا المذكرات كانت يجب أن تمثل نصًا مصاحبًا، أو ما نسميه «Companied Text»، وليس تكرارًا لبعض المتن السابق ذكره حتى لو بلغة أكثر فصاحة، أو عبر مستوى لغوى كلاسيكى.
وفى قصة «إبراهيم علوى» يصبح السؤال الذى يتبادر الى ذهن المتلقى، من هو إبراهيم علوى؟ سؤال بدهى تفرضه طبيعة هذا النمط من العناوين.
وفى عوالم الموظفين أو العالم الوظيفى الذى يتردد صداه كثيرًا فى المجموعة كما أشرنا، سيقابلنا هنا فى قصة «إبراهيم علوى»، الموظف الماكر عادل صبحى الذى يخترع اسمًا وهميًا هو إبراهيم علوى يريد من خلاله تمرير رسائله الغاضبة لرئيسه فى العمل.
يستخدم الكاتب تكنيك الشخصية الغائبة المحركة للسرد، فإبراهيم علوى شخصية مختلقة بالأساس، وليس له أى حضور فى الواقع ولا الشركة التى يعمل بها، موظف فى اليوم الأخير لمهمته فى عمله قبل التقاعد مباشرة. فيقرر أن يذهب لمديره فى الشركة ليسمعه رأيه فيه ولكن على لسان إبراهيم علوى الذى لا يعرفه أحد. وعندما يسأل المدير غاضبًا ومقررًا التنكيل بعلوى نكتشف فى اللحظة ذاتها التى يكتشف فيها المدير أن الأرشيف به شخصان فقط، أحدهما عادل صبحى صانع ملهاة إبراهيم علوى المتخيلة.
وفى «المترجم» يدفع رءوف ثمن مبالغاته البائسة فى تمكنه من الترجمة، وعندما يوجد فى قلب الموقف السردى الذى يفترض أن ينهض فيه بمهمته التى يدعى إتقانها يحول بترجمته التعيسة المصنع إلى مكان ينتج المخدرات!، وحيث تصبح النهايات الساخرة حاضرة دومًا فى قصص المجموعة: «قام الوفد الأجنبى عن بكرة أبيه ورفض إكمال الاجتماع، فقد تم سبهم، كما أنهم لن يقوموا بالمشاركة فى افتتاح مصنع للمخدرات، فأخذوا يصيحون ويلعنون..
أحس فاروق بكهربة الجو، ولم يعلم ماذا يفعل ولكنه شاهد الوفد الأجنبى وهو يشير إليه غاضبًا، وبدأت الأنظار تتجه إليه من جميع الجهات.
شعر بأنه فى مرمى النيران لسبب لا يعلمه، وبرغم حرمانه من نعمة البداهة، فإن الله قد أنعم عليه بنعمة البصيرة التى تستشعر المشكلات عندما تلوح فى الأفق.
فى هذه اللحظة قرر أن يطلق ساقيه للريح، على أن يعود غدًا لأخذ أجرة الترجمة!».
يلوح عالم الموظفين من جديد فى قصة «العهدة»، حيث أمين المكتبة الذى يفقد أحد الكتب ويصبح على شفا التحقيق الإدارى أو الفصل، وليس السجن بالطبع كما نصت القصة، فهى مبالغة فى غير محلها، لأنها تتناول عالمًا واقعيًا بالأساس.
وبعد الكد الشديد يأتى بكتاب مدرسى لمادة الأحياء، ويمنحه غلافًا مكتوبًا عليه مادة الدراسات الاجتماعية فى مفارقة عبثية جديدة، تتغافل عنها لجنة الجرد.
وفى «تائه» يبرز ذلك البطل الموزع بين اليقظة والغفلة، الانتباه والنوم، التذكر والنسيان، ويبدو العنوان دالًا على حالة التأرجح تلك، وفى «ليلة فرح»، تظهر القصة على نحو ساخر جلافة الزوج الذى يحيل العرس إلى ملهاة مأسوية.
وفى «المصلحة» يصبح حصار العائلة للحاج مسعد ثقيلًا على روحه المنهكة، وتحت دعاوى مصلحة الرجل المسن، يتم عزله عن محيطه الاجتماعى، ليقرر فى لحظة مباغتة أن يسترد حريته، حتى لو كانت النهاية موته.
يعد الحوار جزءًا مركزيًا من بنية القص فى المجموعة، من قبيل حضوره الواعد فى قصة «شطرنج» التى تحمل المجموعة اسمها، والتى تتكئ على توظيف تكنيك المفاجأة، حيث يغلق باب الحمام على لاعب الشطرنج، ويظل يصرخ حتى يأتى النجار الذى لم يكن سوى اللاعب الآخر الذى يفوز فى المباراة لغياب المنافس!: «يبدو أن قفل الباب كان عصيًا على الفتح. حاول عدة مرات دون جدوى. بدأ بعدها فى الصراخ حيث إن المسابقة صارت على وشك البدء، وقد صادف أن سمعه أحد العمال:
- مين إللى جوّه؟
- يا سيدى افتح الأول وبعدين أبقى أقولك مين.
- إنت بتعمل إيه عندك، ده القفل بايظ.
- يا سيدى عرفت خلاص، ممكن تخرجنى؟ الماتش بدأ.
- طيب خلينى أبعت أشوف نجار.
- تشوف نجار؟ اكسر الباب، الماتش هيروح منى.
- مش هقدر يا فندى، دى مسئولية.
- والنجار ده فين؟
- هشوف تليفونه وأكلمه.
رن التليفون، ورد النجار.
- كنا عاوزينك يا أسطى. باب الحمام عملها تانى والقفل مش راضى يفتح.
- أنا مشغول يا عم مصيلحى دلوقتى، قدامى ساعة كده.
عاد له العامل:
- معلش يا فندى، النجار قدامه ساعة.
- يعنى إيه؟ خسرت خلاص؟
- معلش يا فندى.
أخذ يسب ويلعن، وفى النهاية استسلم للأمر.
بعد ساعة، جاء النجار، وفتح الباب.
- معلش، كان عندى ماتش تحت والحمد لله كسبت؛ أصل اللى قدامى ما جاش!».
ثمة حالات إنسانية تتوزع على قصص «انكشاف/ اشتهاء/ أرق»، وغيرها، ولا يتخلى القاص عن الحس الساخر، والمفارقة خاصة فى «انكشاف» التى يتحول فيها موقف رومانسى بين حبيبين يسيران معًا فى الشارع إلى حالة من السباب والشتائم القذرة لسائق السيارة المسرعة التى أوحلت ملابسهما، الشوارع خالية إلا من يدين متشابكتين، تتلامس أكتافهما، فيهمس فى أذنها بكلام عذب يذيب قلبها، وهى تكاد تسمع ماجدة الرومى وهى تغنى «يسمعنى حين يراقصنى، كلمات ليست كالكلمات».
تأتى سيارة مسرعة شاقة طريقها وسط المياه الراكدة، فيأخذان نصيبهما من المياه. الملابس مبتلة، وهو يجرى وراء السيارة متلفظا بأقذر الشتائم والألفاظ المتعلقة بالأم. فغرت فاها، وتحولت كلمات ماجدة الرومى إلى لكمات فى أذنها. توقفت تاركة إياه يركض وتخطت الشارع المقابل، مشيرة إلى سيارة أجرة لتعود إلى منزلها حاملة معها أحلامها.
فى «شطرنج» ثمة قاص موهوب، يعاين الواقع الاجتماعى من زوايا إنسانية، وساخرة، يكتب عما يعرفه، بلا تثاقف، ولا افتعال.