الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الزائر

الزائر
الزائر

منذ سنوات انتقلت مع أمى إلى هذا المنزل الذى نعيش فيه، تحدثنى أمى دائمًا عن منزلنا القديم وكم كانت تحبه، لا أذكر هذا المنزل، وكلما غضبت لعدم مشاركة أمى تلك الذكريات الجميلة، تبتسم ابتسامتها الودودة وتخبرنى بأن السبب هو حداثة عهدى.

بيتنا هادئ، لا يزعجنا جيراننا فى الأعلى إلا ما ندر، وأمى هى أجمل ما فى البيت؛ لا تتوقف أحاديثنا أبدًا، ننام متجاورتين لا يفصلنى عنها إلا شبر، لا أمِل من النظر إلى وجهها المنير، هى قمرنا ليلًا، وشمسنا نهارًا، ما يثير حماستى كطفلة أمران؛ أولهما: وعد أمى بانتقالنا يومًا إلى منزل أكبر وأجمل، والثانى هو زائرنا الذى يأتينا أسبوعيًا فى نفس اليوم والساعة، وفى كل صباح لهذا اليوم أطلب من أمى أن تصفف لى شعرى القصير قبل حضوره، فتجيبنى بلسان لهفتها لحضوره وبوجه لا تفارقه الابتسامة: 

أنتِ جميلة يا طفلتى فى كل وقت. 

أسعد بقولها؛ طالما أخبرتنى بأنى أشبه حبة اللؤلؤ المستنير، يحضر الزائر ملقيًا سلامه علينا، حفظت كلماته التى لم أكِل من الاستماع إليها، أرقب فرحة أمى عند وصوله، تشع ابتسامتها، يتوهج نور قلبها، فى كل مرة أشك فى فرار دمع عينيها لكنها لا تفعل أبدًا. 

يبدأ حديثه: حضرت بحُلتى الرمادية التى تحبينها، أرجو ألا تكونى مللتِ منها.

ترد عليه مومئة برأسها: «أعشقها يا حبيب قلبى».

لا أدرى سر إعجاب أمى بتلك الحُلة التى لا تناسب قوامه الذى يزداد نحولًا فى كل مرة. 

- وحشتنى يا زهرتى، أشتاق إليك كل يوم، أعد الأيام حتى أحضر لزيارتك، ادعى لى أن يقرّب الله بيننا حتى يمكننى الانتقال بقربك. 

لا تعلق أمى على كلماته، ألمس حيرتها الشديدة بين رغبتها فى انتقاله معنا وتمنيها ألا يفعل. 

يمسك باقة الزهور التى أحضرها، ترتعش يداه وهو يمدها، لقد شاخ كثيرًا، تزداد حيرتى؛ كيف تعلقت أمى التى لم تقرب الثلاثين برجل تخطى الستين. حين أرى لهفتها وسعادتها بباقة الزهور يعاودنى الصمت الذى لم أتجاوزه، تحين الآن فقرتى، يحدثنى بصوته الحنون: 

عصفورتى الصغيرة، قرة عينى، أحضرت لك دميتك، سيأتى اليوم الذى لن نمل فيه من اللهو واللعب والمرح، كيف حالك؟ ما يثبتنى على الفراق هو وجودك مع أمك، أعلم أنكما لا تتركان بعضكما، أدعو الله فى كل سجدة أن يقرب لقاءنا.

يبكى، دموعه تنهمر كالسيل العرم، تبلل ثيابه، تنسكب قطرات دمعه فوق بتلات الزهور التى جلبها، فلا أدرى هل تميتها أم تحييها، ينفضها بكلتا كفيه، يلوم نفسه ألف مرة ودميتى تسقط من يده، يعتذر، يتضرع، يناجى ربه، ثم يودعنا بعد وعده أن يأتى فى الأسبوع المقبل بنفس الموعد ما لم يجد جديد.

قبل رحيله؛ يربت بيده النحيلة المنكمشة التى برزت عروقها فوق بابنا، تقترب أمى، تسمع همساته وأنينه تمد راحتها عساها الوصول، لا تهتز ملامحها رغم حزن كلماته؛ تبتسم، تتمتم هامسة: سنتقابل فى بيتنا الجديد.

يتركنا راحلًا، أرتمى بحضنها بعد أن لمستنى كلمات زائرنا، تربت علىّ بكفها الحنون، أسألها: لمَ لا يسمح لأبى بالدخول فى كل مرة يزورنا؟

تجيبنى بنفس ابتسامتها: لم يحن الوقت بعد، سيكون معنا ببيتنا الجديد؟

- متى سنذهب إليه؟

- قريبًا يا طفلتى.

- وكيف عرفتِ أنه أجمل من بيتنا؟ 

تربت علىّ هامسة لى ألا أصدر صوتًا يزعج جيراننا من حولنا، أكرر تساؤلى، تبتسم وهى تخبرنى: هو بيت جدير بامرأة فارقت الحياة وهى تضع طفلتها.