ليلة الدبابات
اشتد هدير الدبابات، وأخذت تدور وهى تطحن بجنازيرها بلاط الرصيف الفاصل بين مساكن الموظفين وشارع النهضة، وتناور للدخول كى تتوارى بين العمارات.. وما لبثت أن زمجرت عاليًا بمواتيرها قبل أن تستقر وتصمت، بعدما أثارت فى المكان سحبًا كثيفة من الدخان والغبار، أخذت تنتشر وتتصاعد فى الهواء حتى بلغت الأهالى الذين وجموا فى ذهول وهم يستطلعون ذلك المشهد الفجائى، وقد ازدحم الكبار والصغار منهم فى شبابيك وشرفات العمارات المتقابلة.
لا أحد يدرى من أين جاءت تلك الدبابات؟، ولماذا تدخل بين مساكنهم؟ وهل جاءت لتحميهم أم لتحمى بيوتهم؟ وماذا لو أصبح العدو الآن على مرمى المدفع من المدينة؟
ظنها البعض دبابات عربية جاءت لنجدتهم بعد ضياع الجيش فى سيناء، واعتقد آخرون أنها حامية العاصمة جاءت لتدافع عن آخر الخطوط، بل منهم الموسوس الذى أخذته الريبة أن تكون دبابات معادية تسللت للمدينة كخديعة الإنجليز حين دخلوها قبل عشر سنين حتى وصلت دباباتهم إلى شارع محمد على القريب منهم و هى ترفع علم روسيا الأحمر، وبعدها أصبح يسمى شارع الشهداء.
وقبل أن ينقضى وقت طويل من تلك الدقائق البطيئة، بدأ الرجال يخرجون من أبراج الدبابات وفتحاتها السفلية لا تكاد تميز بين الجندى والضابط منهم فى تلك الأفرولات الملطخة كلها بالشحوم والزيوت مع التراب.
يشبهون دباباتهم المتربة التى بدت وكأنها تخرج من أبراجها القلب والحشاء وليسوا مجرد رجال يبدو عليهم الهزال والتعب. فلا تكاد تفرق بين الحى والجام، ولا بين الرجال ودباباتهم، التى التفت حركتهم حولها وهم يمدون شباك التمويه فوقها، وبعض أغصان الأشجار، يساعدهم بعض الأولاد تطوعوا بإحضارها إليهم، ومن الأولاد عرف الناس أنهم جنود مصريون جاءوا من اليمن بدباباتهم بعد أن وقعت الواقعة.
كانوا يختلفون بالفعل عن أولئك الجنود الفارين من جحيم سيناء بعد انكسار الجيش التى امتلأت بهم المدينة، وهم يتراجعون بكثرة، مهلهلين مذعورين يهرولون إلى مدنهم وقراهم وكأن بهم مسًا من خبل، وكنت تراهم يتلقون عطف الناس فى الشوارع والأسواق وهم فى خجل بعد أن فقدوا السلاح والكرامة.
أما هؤلاء الجنود فلا يبدو عليهم شىء من ذلك، بعد أن اطمأن الجنود إلى وضع دباباتهم استراحوا بجوارها يتسامرون فيما بينهم، وقد بدا عليهم أنهم يتحاشون النظر إلى الأهالى أو الحديث معهم.
كان الجو مفعمًا بالأسى، هم يدركون أنهم كل ما تبقى من الجيش المهزوم، والأهالى يشعرون بهم، وكأنهم الأمل الأخير للنجاة، ومع ذلك ظل الصمت قائمًا ولم يسمح لى وقتها سوى بالانضمام إلى أفراد الدفاع المدنى، وكنت بالكاد قد جاوزت السادسة عشر من العمر، وكان معى «سامى» زميلى فى المدرسة.
نضع الشارات على أكتافنا، لا نجد ما نفعله سوى مراقبة إطفاء الأنوار وقت الظلام، فكنت غالبًا ما أمر على سامى فى مساكن الموظفين أثناء النهار لنقضى بعض الوقت معًا، ويطمئن كل منا للآخر.
وكنت أقف تحت بيت سامى وأنادى عليه. وأنظر ناحية الدبابات، وكان الجنود ينفضون الغبار عن دباباتهم بخرق من القماش، وما أن بدأوا فى ذلك حتى سارع الأولاد بإحضار جرادل الماء فسمح لهم الجنود بالاشتراك فى غسل الدبابات، ومع المزيد من جرادل المياه أحضر لهم الأولاد أيضا أكواب الشاى وقامت نساء الحى لطهى الطعام الساخن للجنود.
وذهبت مع سامى لندخن سيجارة بعيدًا عن أعين الكبار، وحين عدنا كان الأهالى قد تحلقوا حول الدبابات المتوارية يتحدثون مع الجنود، وبقى الشباب معهم يؤنسونهم وقت من الليل، وهم يحكون عن معاركهم فى اليمن، وعن رحلتهم الطويلة إلى بورسعيد، وفى اليوم التالى حين كنت أنادى على سامى، كانت أفرولات العسكر منشورة مع ملابس الأهالى على مناشر الغسيل.