الخميس 19 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الحلم.. «حلمى» التونى.. المُرابط فى معركة الهوية المصرية

حلمى التونى
حلمى التونى

فى السابع من سبتمبر الجارى انتهت مسيرة فنية حافلة برحيل واحد من أعمدة الفن التشكيلى المصرى؛ الفنان حلمى التونى، الذى أثرى الفن المصرى بأعمال تشكيلية تحمل بصمته ورؤيته الخاصة التى لا ينازعه فيها أحد. فعلى مدار ما يقرب من ستة عقود ظل التونى متشبسًا بالإبداع ليكون معرضه «يحيا الحب»، الذى أُقيم فى مارس الماضى، آخر ما خطته أنامله من إبداع. 

لم تكن مكانة حلمى التونى، المولود بمحافظة بنى سويف عام ١٩٣٤، فى المشهد التشكيلى المصرى مستمدة من فراغ، فأعماله الفنية تحمل بصمته الواضحة التى لا يمكن أن ينازعه فيها أحد. وعلى امتداد سنوات حياته التسعين، شارك فى العديد من المعارض المحلية والدولية، واستقطبت أعماله النقاد والجمهور من مختلف التوجهات والأعمار، وحصل على العديد من الجوائز والتكريمات. وبعمله الفنى الثرى والواعى ظل مرابطًا فى معركة الحفاظ على الهوية المصرية فى مواجهة تيارات تزييف الهوية المختلفة سواء تلك التى حملتها العولمة طامسة روح مصرية أصيلة أو التى قادتها تيارات أصولية متشددة ترى فى الجمال خروجًا عن الدين. 

حملت أعمال التونى روح التراث الثقافى المصرى، ففى أعماله المختلفة، حرص على استلهام الأساطير الشعبية والتقاليد الفنية القديمة، وارتكز على عدد من الموتيفات المستمدة من الحضارة المصرية القديمة دامجًا إياها بالأساليب الحديثة، فمنح لأعماله العمق والرمزية التى من خلالها استطاع الاحتفاظ بملامح الهوية المصرية، فظلت ألوانه الزاهية المكللة للوحاته دالة على أسلوبه الفنى شديد الإصرار على الاحتفاء بالجمال والبهجة والتعبير عن المشاعر الإنسانية العميقة، لا سيما حين جعل المرأة المكون الأهم فى لوحاته ليواجه عبر فنه محاولات تهميشها وتسليعها معًا، مستعيدًا الزى المصرى القديم فى حنين للمرأة الشعبية بصورتها القديمة النابضة بالحيوية والمعبرة عن التراث الأصيل. 

لقد كانت كلمة الناقد والفنان كمال الجويلى، فى حديثه عن حلمى التونى عام ١٩٩٥، خير تعبير عن أثر الفنان الذى سيبقى بعد رحيله، إذ يقول عنه: لا ينضوى التونى تحت لواء مدرسة فنية بعينها هو يعزف على سطح اللوحة أنشودته، ولأنه يبدأ بالإنشاد لنفسه فإنه يمس مشاعرنا وحواسنا بذلك الناى الحامل أجواء السحر فيجعلنا شركاء فى إبداعه.. حينما تتأمله تقفز إلى الذهن كلمتان بغير انفصال بينهما «التعبيرية الغنائية»؛ تعبيرية شجية تغنى لأحزان البشر دون أن تفقد الحلم، فيختلط فى لوحاته الواقع بأحلام اليقظة.. بالأمل. هو لا يقدم شكلًا فقط كما يفعل بعض مستعيرى ملامح وموتيفات التراث، لكنه غاص فى أعماق ذلك التراث بكل أشكاله ومضامينه ودلالاته واختار «مسرحه التصويرى» بنفسه ولنفسه.

وفى إبداع موازٍ بعالم أغلفة الكتب، قدّم التونى معادلًا بصريًا للعديد من الأعمال الروائية البارزة، وكانت أغلفته لروايات نجيب محفوظ أحد أبرز هذه الأعمال. أبدع التونى فى بلورة ملامح الشخصيات الروائية من خلال تحديده لخطوط رسم كل جسد ليعبر عن طبيعة تطلعات الشخصية ومواقفها، فقد عبّرت اللوحات التى رسمها التونى للشخصيات النسائية بروايات نجيب محفوظ عن عمق استيعابه ملامح الشخصية وسماتها كما قدّمها محفوظ فى عمله، واستطاع تحقيق ذلك باستخدام مختلف العناصر التشكيلية وتطويعها لخدمة السمت العام لكل شخصية. 

ففى ملف نشرته مجلة «العربى» الكويتية عن نجيب محفوظ عام ٢٠٠٦، تحدّث القاص البارز محمد المخزنجى عن الإبداع التشكيلى الذى قدمه التونى للشخصيات النسائية بروايات نجيب محفوظ قائلًا: أدركت الروح المشتركة بين عملى الكاتب والفنان، وهى عمق التعاطف مع الشخصيات الإنسانية موضوع المعالجة فى الحالتين، وهذا التعاطف هو الذى أعطى هذه الشخصيات شجنها الساحر فى نصوص الكاتب، وهو الذى أشعّ بالفرح الساحر أيضًا فى لوحات الفنان.. الفرح المُنجز بأدوات التشكيل.. لقد ابتعث نجيب محفوظ شجنًا بديعًا من قلب المأساة، وأمسك حلمى التونى بخيوط هذا الشجن، لتنسج منها روحه المبهجة.. بهجة بصرية.

سيظل رحيل حلمى التونى خسارة كبيرة لعالم الفن، لكنه إرثه الفنى الغنى سيبقى حيًا فى قلوب محبيه، وستبقى أعماله شاهدة على روح الإبداع والتجديد، وملهمة لأجيال قادمة ربما قد تجد فيها ما يعيدها إلى أحضان هويتها وأعماق تراثها.