الثلاثاء 15 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

على هامش قضية متجددة وذكريات صحفية وشخصية

هل يدخل «حليم» الجنة؟.. حياة العندليب بين «إن الذى فرض عليك القرآن».. وأيقونة «سانت تريزا»

حليم
حليم

- كان عبدالحليم يعرف أنه قريب من الله بل أخبر المقربين منه بأنه سيدخل الجنة قبلهم جميعًا

- العندليب: أنا مقصر منذ سنوات فى الصلاة وفى الصيام ولكن عملت حاجات كتير كويسة

- وقال لى الناصرى المتحمس: إذا لم يدخل حليم الجنة.. فمن يدخلها؟ إنه حتمًا فى الفردوس الأعلى

- المنتمون إلى الإسلام السياسى أكدوا أن عبدالحليم حافظ فى النار وبئس المصير

- لم يسلم عبدالحليم حافظ من الاتهام بالكفر والخروج عن الدين فى حياته

- شهد غسل الكعبة وشارك فيه، وفتحت له الكعبة وصلى فى أركانها الأربعة

- لم يكن عبدالحليم حافظ بعيدًا عن الدين فى أى مرحلة من مراحل حياته

كنت طالبًا فى الصف الثالث الثانوى، مدرسة اللغة العربية ترتدى خمارًا لا يمثل زيًا معتادًا لنساء الفلاحين والموظفات، بقدر ما يعبر عن انتمائها الأيديولوجى، فقد عرفنا أنها زوجة لقيادى إخوانى فى مدينة الزرقا، حيث توجد مدرستى «إمام ناصف الثانوية»، وكانت هى أيضًا من الناشطات لصالح جماعة الإخوان. 

بعيدًا عن انتمائها الإخوانى كانت واحدة من مدرسات اللغة العربية الملتزمات بواجباتها، ولم يكن يعيبها بالنسبة لى إلا تعصبها الشديد لكل ما تمثله جماعتها، ومحاولتها أن تفرض آراءها وأفكارها علينا، وقد يكون ما فعلته سببًا فى نفورى المبكر من الجماعة التى لم أركن إليها أبدًا ولم أرتح لما تمثله، وهو ما جعلنى مناهضًا لها ولأفكارها طوال الوقت. 

دخلت الأستاذة سعاد- هذا اسم مستعار بالطبع- علينا الفصل، وكان أحد الزملاء يغنى أغنية عبدالحليم حافظ الشهيرة «جانا الهوى جانا»، ونحن نردد خلفه «ورمانا الهوا رمانا»، ألقت بحقيبتها وكراساتها على أول تختة صادفتها، وصرخت فينا: إنتم بتعملوا إيه.. إنتم مجانين.. حرام عليكم.. حرام عليكم.. هتدخلوا كلكم النار. 

ألزمنا صراخها الصمت، بدأت فى استعادة هدوئها، استغفرت الله، وبدأت تنظر لنا وهى صامتة، وفى عينيها عتاب شديد وغضب مما فعلناه. 

بدأت الأستاذة سعاد حديثها بهدوء، قالت: إنتم تعرفوا إن عبدالحليم حافظ دخل النار ولا لأ؟ 

كان سؤالها التقريرى صادمًا، إذا ما الذى يجعلها على علم بمصير ميت؟ من أين عرفت أنه دخل النار؟ وهل أطلعها الله على مستقر عبدالحليم؟ 

تجرأ أحد زملائنا وسألها: وحضرتك عرفت منين.. هو حضرتك دخلتى النار قبل كده؟ 

عادت إلى صراخها بتأثير السؤال الساخر: يا كفرة يا ملاعين.. اسمعوا كلامى للآخر. 

بدأت الأستاذة سعاد تحكى لنا. 

قالت: كنت أعرف صديقة مغرمة بجلسات تحضير الأرواح، وكنت لا أصدقها فى أى شىء تقوله، فلا يملك أحد للأرواح شيئًا أو يتحكم فيها فى حياتها أو بعد موتها إلا الله، فأصرت على أن تصحبنى إلى إحدى تلك الجلسات.

حضرت الأستاذة سعاد واحدة من تلك الجلسات، وتصادف أن الروحانى الذى يشرف على الجلسة، كان يستحضر روح عبدالحليم حافظ. 

وقالت سعاد: بعد أن انتهى من الدجل الذى يقوم به، وبعد أن قال بلهفة: لقد حضرت روح العندليب، سمعنا صراخًا عاليًا جدًا، كان عبدالحليم يتألم بشدة، وهو يقول: حرام عليكم.. حرام عليكم.. هو أنا ناقص.. مش كفاية النار اللى أنا باتعذب فيها.. عايزين منى إيه.. سيبونى فى حالى... وقبل أن يختفى الصوت سمعناه وهو يقول: ابعدوا عنى الله يخرب بيوتكم. 

نظرت سعاد إلينا وهى تحرك عينيها بيننا جميعًا، رأيت فى وجهها ملامح الارتياح، فقد شعرت بأنها انتصرت علينا، وأننا بعد ما قالته لن نعود مرة أخرى لترديد أغانى عبدالحليم حافظ، إذ كيف نردد أغنيات مطرب أكدت هى لنا وبالدليل أنه دخل النار، فنحن لو فعلنا ذلك فحتمًا سيكون مصيرنا النار مثله. 

توقف عدد كبير من الزملاء عن سماع عبدالحليم حافظ.. لكننى لم أتوقف أبدًا. 

فى غرفتى بالمدينة الجامعية الأم مبنى ١٣، بين ملل وزهق ومطاردة لأحلام مؤجلة، يحين موعد تحقيقها بعد شهور قليلة حتى وإن لم أكن مستعدًا لذلك، فهذا هو الترم الأخير لى فى الكلية، وكنت قد بدأت عملى فى جريدة «الدستور»- الإصدار الأول من ديسمبر ١٩٥٥ حتى فبراير ١٩٩٨- وعرفت أنهم يجهزون ملفًا ينشر فى ذكرى وفاة عبدالحليم حافظ التى يمر عليها عشرون عامًا. 

أمسكت بالفكرة، لم أفلتها من بين أصابعى، عدت بذاكرتى إلى الأستاذة سعاد مدرسة اللغة العربية، وقررت إعادة طرح السؤال من جديد، وهو: هل يدخل عبدالحليم حافظ الجنة؟ 

بدأت التنفيذ على الورق، وضعت قائمة بأسماء المصادر التى سأستعين بها، وكان فى مقدمتهم رجال دين، وقررت أن يكون سؤالى موجهًا لسياسيين وفنانين أيضًا، لكننى على الفور مزقت الورقة التى دونت فيها أسماء المصادر، وقررت أن أستنطق المصادر بالإجابة التى تناسبهم. 

كتبت تحقيقًا مطولًا، وجهت خلاله السؤال إلى أسماء بعينها، وكان كل اسم منها يعبر عن تيار دينى وسياسى، وصغت الإجابات بمنطق أن كل تيار له وجهة نظر، وبناء على وجهة النظر هذه تأتى الإجابة، والخلاصة أن كل تيار يرى الأمور من زاويته الخاصة، وهو ما يؤدى إلى الاختلاف والتناقض والتضارب.. ويولد الصراع أيضًا. 

لا أملك نسخة من التحقيق، ضاعت ضمن ما ضاع من أوراقى خلال رحلة السنين بين صالات تحرير الصحف ومكاتبها، لكننى ما زلت أتذكر ملامحه جيدًا. 

أتذكر مثلًا أننى وضعت على لسان منتمٍ إلى الناصريين حديثًا عاطفيًا رائعًا عن عبدالحليم الذى غنى لعبدالناصر أجمل وأروع أغانيه، وكان يمجده ويعظمه ويمدحه كما لم يفعل مطرب مع رئيس من قبل، وقال لى الناصرى المتحمس: إذا لم يدخل حليم الجنة.. فمن يدخلها؟.. إنه حتمًا سيكون فى الفردوس الأعلى. 

على الضفة الأخرى وبتأثير الصورة التى يرسمها الناصريون لعبدالحليم وأنه لم يغنِ للسادات، وحتى عندما غنى أغنيته الخالدة «عاش اللى قال» كان يقصد بها ناصر وليس السادات- هكذا قالوا.. وهكذا سمعت من يردد ذلك- المنتمى إلى تيار السادات تحفظ على السؤال، وقال غالبًا لن يدخل الجنة. 

طفت بعد ذلك على منتمين إلى أنصار السنة المحمدية والجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد وبالطبع جماعة الإخوان المسلمين، وجميعهم أجمعوا- وقد تمثلت خطابهم- على أن عبدالحليم حافظ فى النار وبئس المصير، وقد وضعت على لسان المنتمى لجماعة الإخوان ما يؤكد كراهيتهم الشديدة لعبدالحليم حافظ وكل ما يتعلق به، بل نقلت دعاءه ورجاءه من الله أن يجعل منه عبرة لمن يعتبر. 

الصوفيون، وكما تمثلتهم، كانوا أكثر رقة وحبًا وعطفًا على عبدالحليم حافظ، مدحوه وأثنوا على ما قدمه، وأكدوا أنه الآن فى مقعد صدق عند مليك مقتدر. 

ممثلو المؤسسات الدينية الرسمية- الأزهر والإفتاء والأوقاف- وقفوا موقفًا معتدلًا، وتحدثوا كثيرًا عن أن الجنة والنار بيد الله، ولا يجب أن يتطرق أحد إلى هذا الحديث، لأنه ليس فى مقدور أحد أو من صلاحياته أن يقول إن هذا فى الجنة أو هذا فى النار، ولو على سبيل التوقعات. 

انتهيت من كتابة التحقيق، وبعد أقل من ساعة كنت أقف أمام إبراهيم عيسى رئيس التحرير وقتها، كان يجلس فى بوفيه الجريدة الضيق فى مقرها الأول فى شارع قصر النيل، دون أن أتحدث وضعت بين يديه الأوراق، وخرجت لأجلس فى صالة التحرير التى كانت عبارة عن غرفة متوسطة بها بعض المكاتب والكراسى المتهالكة. 

بعد دقائق سمعت صوته ينادى علىّ، ولما ذهبت إليه، قال بحماس: الفكرة عظيمة.. عظيمة.. لكن إيه رأيك لو عملنا التحقيق بجد؟ 

سألته: يعنى إيه بجد؟ 

قال: يعنى نسأل الناس دى فعلًا، نكلمهم ونعرف رأيهم.. بلاش نصيغ رأيهم بناء على مواقفهم.. اعمل كده. 

بإحباط شديد قلت له: مينفعش طبعًا، هى الفكرة كده، وبعدين كل واحد منهم هيقول وأنا مالى، وبكده الموضوع يبوظ من بابه، لا هيبقى فيه فكرة ولا تحقيق من الأساس. 

كانت وجهة نظر إبراهيم صحيحة من الناحية المهنية بالطبع، لكننى تمسكت بوجهة نظرى فى الفكرة التى اعتبرتها مختلفة فى مولد الاحتفال بذكرى عبدالحليم كل عام فى الصحف المصرية، ولما وجد أننى متمسك بما فعلت، قال لى: طيب سيب لى الموضوع.

صباح الأربعاء، وهو اليوم الذى تصدر فيه «الدستور» التى كانت وقتها تصدر أسبوعيًا، نزلت مبكرًا من غرفتى فى المدينة الجامعية، وتوجهت إلى كشك الكابتن مسئول التثقيف فى المدينة وبائع الصحف والكتب القديمة والحديثة الأشهر لدى طلاب جامعة القاهرة من أبناء الأقاليم. 

وجدت الجريدة فى واجهة الكشك- وضعها الكابتن على حبل مشدود- وعلى ما يقرب من مساحة نصف الصفحة الأولى صورة لعبدالحليم حافظ، وعنوان تحقيقى كما كتبته، اندفعت ناحية الجريدة، تصفحتها حتى وصلت إلى الصفحة المنشور فيها التحقيق.. وكانت الصدمة. 

كل ما أخذه إبراهيم كان العنوان فقط، أما التحقيق فقد نفذه كما أراد هو، كلف به زميلًا آخر يعمل فى قسم الفن. 

كان ما حدث محبطًا جدًا، بدأت فى قراءة التحقيق، وكان رأيى فيه أنه ليس أكثر من نكتة، وما زلت أذكر رد الدكتور محمد سيد طنطاوى، وكان وقتها مفتيًا للجمهورية، فقد رد على سؤال: هل يدخل عبدالحليم الجنة؟ بقوله: هو حد قال لكم إنى بواب الجنة؟ ولا يكون معايا كشوف اللى هيدخلوا الجنة والنار وأنا مش عارف. 

اعتبر إبراهيم أن التحقيق بالصورة التى نُشر بها حقق هدفه تمامًا، وتمسكت برأيى، فقد ضاع الهدف منه تمامًا، الغريب أننى لم أسأله حتى هذه اللحظة رغم تكرار لقاءاتنا: لماذا فعل ما فعل؟ احترمت فقط قراره، فقد كان هو رئيس التحرير، وهو المسئول عن جريدته، القرار قراره، ولا راد لقرار رئيس التحرير. 

قد تكون هذه الذكريات مدخلًا لنقاش حول قضية مهمة، وهى هل من حق أى إنسان مهما علا شأنه فى الدين، سواء كان عالمًا أو متدينًا- الفارق بينهما كبيرًا- أن يحكم على أحد بالجنة أو بالنار؟ 

إننى أعتبر هذا الأمر من بين ما اختص الله به نفسه، لم يمنح لبشر شيئًا من ذلك، ولذلك فإننى أعتبر الذين يتقولون بذلك، يمنحون من يشاءون صك دخول الجنة، ويحجبونه عمن يريدون، مجترأون على الله، يتعدون على صلاحياته واختصاصاته، ويرفعون أنفسهم إلى درجة الألوهية، ورغم أننى أعتبر ذلك جرمًا كبيرًا، إلا أننى أترك حسابهم على الله، لا أحكم عليهم بشىء، لأننى لو حكمت عليهم بمصير محدد سأكون مثلهم تمامًا، لن يفرق بينى وبينهم شىء، وأنا أعوذ بالله أن أكون منهم. 

لا يمنعنى ذلك بالطبع من الاقتراب من المساحة الروحانية عند عبدالحليم حافظ، وهى مساحة لها فى حياته ما يدل عليها ويؤكدها. 

كان عبدالحليم يعرف أنه قريب من الله، بل أخبر المقربين منه بأنه سيدخل الجنة قبلهم جميعًا. 

لم يكن عبدالحليم يقول ذلك من باب الجرأة على الله، ولكنه قاله بمعرفته عن حاله، قال لهم: بسبب ظروفى الصحية المتلخبطة أنا مقصر منذ سنوات فى الصلاة وفى الصيام، ولكن أنا عملت حاجات كتير كويسة.. ومؤكد أنا هدخل الجنة قبلكم كلكم. 

من بين ما أعتبره رصيدًا روحيًا لعبدالحليم الأدعية الدينية التى أداها بصوته، وكتبها له الشاعر الصوفى الكبير عبدالفتاح مصطفى ولحنها محمد الموجى. 

يعتقد كثيرون أن هذه الأدعية أداها عبدالحليم فى سنواته الأخيرة، مدفوعًا إلى ذلك بإحساسه باقتراب الموت منه، فقرر أن يتقرب بها إلى الله، لكن الواقع يقول عكس ذلك تمامًا، فقد انتهى عبدالحليم من إعداد هذه الأدعية فى نهايات العام ١٩٦٤، وكان أول ظهور لها فى سهرة دينية بمسرح البالون، حيث قدمها لأول مرة فى حفل أقيم فى شهر رمضان وتحديدًا فى ٢٦ يناير من العام ١٩٦٥. 

كلمات الأدعية التى اختارها عبدالحليم من كلمات عبدالفتاح مصطفى تفيض عذوبة ورقة وروحانية. 

اسمعه وهو يقول: أنا من تراب/ والإرادة هى سرك فيه/ تنوره بحكمتك وبرحمتك تهديه/ تراب وسرك إذا مس التراب يحييه/ الهمنى حب الخير حب الجمال والحق/ خلينى أقول للشيطان مهما غوانى لأ/ علمنى أثبت ولو زال الجبل وانشق/ الهمنى يا رب/ علمنى يا رب/ يا رب سبحانك. 

واسمعه وهو ينشد: يا خالق الزهرة فى حضن الجبل من فوق/ لونها ومنظرها آية للجمال والذوق/ تطلع وتدبل على دمع الأمل والشوق/ لا يدرى بيها ولا يعلمها غير الله/ يا رب سبحانك. 

واسمعه وهو خاشع: على التوتة والساقية/ ألمح كل يوم عصفور/ فرحان يغنى ويرقص للندى والنور/ لا مال ولا جاه ورزقه فى الغيطان مبدور/ ماله كفيل أو معين فى الملك غير الله/ يا رب سبحانك. 

واسمع حالته المتفردة: نفضت عنيا المنام/ وقمت والناس نيام/ وقفت أرتل كلامك/ أغلى وأحلى كلام/ اهدينى يا رب بالقرآن لما يرضيك/ خلينى أحبك وأحبب كل خلقك فيك. 

واسمعه فى «أدعوك يا سامع» وهو يقول: يا رب اجعلنى صادق/ وأقول الحق لو كان مر/ خلينى ما سمعش إلا صوت ضميرى الحر/ بسمة وعزيمة وعمل نافع ما يضر/ يا رب. 

وفى «رحمتك فى النسيم» اسمعه وهو يتغنى: يا رب.. يا رب سبحانك يا رب/ ورحمتك فى النسيم والظل والمية/ وبتفيض على الناس رأفة وحنية/ قدرة على كل شىء. 

وبينه وبين الناس يغنى عبدالحليم: يا رب يا رب سبحانك يا رب/ بينى وبين الناس فى دنيتك أحوال/ وإنت اللى عالم بضعفى يا ذا الجلال والكمال/ خلينى عبدك لوحدك لا عبد جاه ولا مال/ واحمينى من الحقد من نفسى من قالوا وقلنا وقال. 

وفى لحظة تأمل يقول: يارب.. يارب سبحانك/ والحبة فى الأرض اجعلها شجر وغصون/ والكلمة تنقال مدن تعمر وتعلى حصون/ وطفل يصبح بطل يحمى الحمى ويصون/ كل الوجود معجزة تشهد بسر الله. 

وفى رجاء يقول: خلينى كلمة تصحى الناس وتهديها/ خلينى رحمة تمس جراح وتشفيها. 

و«بين صحبة الورد» يقول: بين صحبة الورد شوف أجمل عيون وخدود/ حسان ومتجمعة فى مهرجان مشهود/ لون وعطر وندى ربنا المعبود/ كانت براعم وصحاها جمال الله. 

لا نسمع من هذه الأدعية فى الإذاعة أو التليفزيون إلا القليل، وقد يكون مهمًا أن نوثق كلمات أدعية عبدالحليم جميعها هنا، والتى هى ليست أدعية فى حقيقتها بقدر ما هى تأملات، صحيح أن عبدالفتاح مصطفى هو من كتبها، لكن عبدالحليم هو الذى اختارها ومنحها ما أصبح فارقًا بصوته وإحساسه، وقد يكون سر ذلك أنه عبّر عن حقيقته من خلال هذه الكلمات دون أن يدّعى إيمانًا أو سباحة فى الروحانيات.. فهو أدى هذه التأملات بهذه الصورة لأنه كان كذلك. 

هناك إشارات عابرة إلى أن عبدالحليم لم يكن صاحب القرار فى اختيار هذا الكلمات وغنائها، بل استجاب للإذاعة التى كلفته بذلك، وهو ما يخالف الواقع، فقد جرى ما هو أكثر، حيث كان هو من اختار الكلمات وغناها وسجلها على نفقته الخاصة وأهداها مجانًا إلى الإذاعة، فقد كان يعتبرها عملًا يتقرب به إلى الله. 

هذه الروح المحلّقة فى الروحانيات كانت لها جذور. 

لم يكن عبدالحليم حافظ بعيدًا عن الدين فى أى مرحلة من مراحل حياته، والدين هنا أقصد به الحالة المصرية المميزة البعيدة عن التشدد والتطرف، الحالة التى يختلط فيها حب الله وحب الحياة، الحالة التى تعتبر أن العبادات أمر خاص بين الإنسان وربه، أما التدين الحقيقى فهو الذى يبدو فى سلوك الإنسان بعيدًا عن المظاهر الشكلية. 

اقترب عبدالحليم من القرآن بشكل خاص، حفظه فى طفولته بقرية «الحلوات»، صحيح أنه فعل ذلك ليهرب من عقاب عصا شيخ الكُتّاب الذى كان يتردد عليه، فقد كان عقابه شديدًا، لكنه عرفه بعد ذلك بقلبه، عندما كان يصلى خلف جده الشيخ شبانة واستمع منه آيات القرآن، واستحسن صوته، فمن سمعوا جده وهو يقرأ القرآن وصفوه بأنه «مقرئ تسكت له الطير». 

وإذا أردنا تلخيصًا لحالة عبدالحليم مع القرآن فيمكن أن نجدها فى قوله: أخى إسماعيل هو من علمنى كيف أقرأ القرآن الكريم بفهم وتمعن لتقوية لغتى وتحسين نطق مخارج الحروف، وقد وجدت فى القرآن راحة نفسية لا توصف، كنت أشعر وقت قراءة القرآن أو الاستماع إليه أن آياته الكريمة تصعد بى إلى أعلى، وتنزع من نفسى الكراهية، وتعمق فىّ المحبة، وفهمت فى صغرى أن الله يحب الإنسان، وأن الحياة سعى ورحلة كفاح جميلة وعذبة. 

قبل سفره الأخير إلى لندن فى مارس ١٩٧٧، وهو السفر الذى عاد منه فى صندوق إلى القاهرة، أراد كعادته أن يكتب شيئًا على الحائط، وكان يفعل ذلك دائمًا، كانت هناك آية قرآنية محددة أراد حليم أن يكتبها، وهى «إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد»، لكنه هذه المرة لم يجد قلمًا بالقرب منه، فوقف بين أقاربه، وبدأ يكتب الآية فى الهواء، مؤكدًا لهم أن الله سيصدق معه وعده.. لكن أقدار الله كان لها رأى آخر. 

كانت الحياة قاسية على عبدالحليم حافظ. 

لم يعش كثيرًا، ٤٨ عامًا فقط كانت هى سنوات عمره، كان المرض فيها رفيقًا مزعجًا له، وكان الموت يطل عليه كثيرًا ويطارده فى الطرقات، لكنه كان يتعامل معه تعاملًا خاصًا، ففى كل مرة كان يدخل فى أزمة صحية ويخرج منها يشعر بأنه يخدع الموت، يناوره، ويضحك عليه، كانت لديه فلسفة خاصة، يرى من خلالها أن الموت ليس قويًا ولا قادرًا ولا مسيطرًا ولا مستبدًا، ولكنه أداة بيد الله، وما دام الأمر بيد الله، فيجب على الإنسان ألا يخاف أو يجزع. 

كان عبدالحليم يتقرب إلى الله بالصلاة التى كان يمارسها بشكل خاص، فمن بين ما عرف عنه صلاته بركعات غير محدودة، كان عندما يتعب من البروفات الطويلة، يترك أعضاء فرقته ويدخل إلى حجرته، يصلى ما شاء الله له أن يصلى، لم يكن يعد الركعات التى يقوم بها، كان يصلى ركعتين وراء ركعتين ولا يترك سجادة الصلاة إلا بعد أن يشعر بالتعب الشديد الذى لا يمكنه من مواصلة صلاته. 

أما القرب الأكثر من الله وإليه، فقد كان من خلال الفقراء والمحتاجين، كان يسميهم «سفراء الله»، فكل محتاج أو فقير يطرق بابه ليطلب منه شيئًا هو رسول من الله إليه، ويشهد المقربون منه أن بيته كان لا يخلو من الفقراء وأصحاب الحاجات، لم يكن يضيق بهم أبدًا، بل كان يستقبلهم بنفسه، يتحدث معهم ويلبى طلباتهم، وفى أيام غيابه عن بيته كان يوصى أهله بهم خيرًا، ويقول لأهل بيته: هؤلاء شفعائى عند الله.. فلا تردوهم ولا تغلقوا الباب فى وجوههم. 

كان عبدالحليم صادقًا فيما يقوم به، وعندما تعرف معنى التدين الحقيقى عنده ستتأكد من ذلك، يقول: التدين الحقيقى قائم على حب الناس ومساعدتهم، وفعل الخير سرًا وجهرًا. 

لم يكن تدين عبدالحليم حافظ مغلقًا، ففى الوقت الذى كان قلبه معلقًا بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وآل البيت، كان قلبه مشغولًا أيضًا بالسيدة مريم العذراء والقديسين. 

فى جلساته الخاصة كان عبدالحليم يغنى «روحوله روحوله المدينة/ روحوله وشاهدوا وباركوا وعاهدوا نبينا/ محمد نبينا». 

لعبدالحليم أغنية على نفس وزن هذه الكلمات، كتبها مرسى جميل عزيز ولحنها كمال الطويل، وتقول: قولوا له قولوا له الحقيقة/ قولوا له بحبه بحبه من أول دقيقة. 

وما جرى أن عبدالحليم كان يزور مولد السيد البدوى، واستمع لأحد المنشدين ينشد: «روحوا روحوا له المدينة»، فحفظها، وكان يحلو له أن يرددها فى جلساته الخاصة، اعتبرها أغنية خاصة به، وعندما كتب مرسى جميل عزيز كلمات على وزنها لم يمانع فى غنائها، بل كان يتفاءل بها جدًا. 

وعندما اشتد عليه المرض لأول مرة فى العام ١٩٥٦، رأى أحد الأطباء المعالجين له أيقونة إلى جواره لـ«سانت تريزا»، سأله عنها، فقال حليم: رأيت فى منامى سيدة نورانية، وأخبرتنى أننى سوف أتجاوز أزمتى الصحية، ومرت بالفعل على الجانب الذى يوجد فيه كبدى فشعرت بالراحة، وقبل أن تمضى سألتها عن اسمها، فقالت: اسمى تريزا. 

لم يكتفِ عبدالحليم حافظ بما قاله لطبيبه، بل ذهب إلى كنيسة «سانت تريزا» بشبرا، وأهداهم لوحة رخامية كتب عليها: إلى روح القديسة الطاهرة تريزا.. مع شكرى العميق، عبدالحليم حافظ ١٩٥٧. 

ولأن للحكايات روايات كثيرة، فحكاية عبدالحليم مع «سانت تريزا» لها رواية أخرى أيضًا. 

عبدالرحمن الأبنودى

الحكاية حدثت فى هذه الرواية فى العام ١٩٥٨، عندما كان عبدالحليم فى رحلة علاج بلندن، وكان يستعد لإجراء جراحة، وشعر بآلام حادة فى أمعائه، تواصلت الآلام للدرجة التى لم يعد يحتملها، فأرسل برقية إلى شقيقه إسماعيل فى القاهرة، طلب منه فيها أن يزور كنيسة القديسة تريزا ويرسل له منها أيقونة صغيرة، وعندما وصلته الأيقونة فى لندن وضعها إلى جانبه فى الفراش فهدأ الألم، وعندما عاد حليم إلى القاهرة زار الكنيسة وأضاء هناك شمعة.

وبعد أن أطلق عبدالحليم أغنيته الشهيرة «المسيح» التى يبدأها بـ«تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب»، من على مسرح قاعة «ألبرت هول» فى لندن، استوقفته سيدة وأهدته دبوسًا به أيقونة للسيدة مريم العذراء، ظل محتفظًا به وكان يعلقه على بدلته كلما غنى بعد ذلك، وكان يشعر أن هذه الأيقونة تخفف كثيرًا من آلامه. 

فى منتصف العام ١٩٧٦، وقبل وفاة حليم بشهور، قرر أن يؤدى العمرة، سافر إلى مكة، ومن المصادفات القدرية أنه شهد غسل الكعبة وشارك فيه، وفتحت له الكعبة وصلى فى أركانها الأربعة، وبعد عودته أسرّ إلى شقيقته الكبرى «الحاجة علية» بأنه رأى أشياء جميلة فتح الله عليه بها بعد أن صلى فى الكعبة. 

سألته الحاجة علية عنها، فقال لها: مش هقدر أحكى يا علية.. دى أسرار بينى وبين ربنا. 

لم يسلم عبدالحليم حافظ من الاتهام بالكفر والخروج عن الدين فى حياته. 

فى أغنيته «لست قلبى»، التى كتبها كامل الشناوى وقدمها حليم فى فيلمه الشهير «معبودة الجماهير» فى العام ١٩٦٧، غنى جملته الشهيرة: قدر أحمق الخطى/ سحقت هامتى خطاه»، لم يتعامل أحد مع صناع الأغنية على أنهم يتجاوزون فى حق الله، فالمعنى مجازى، لكن الشيخ محمد الغزالى، الذى كان ضيفًا على أحد البرامج الإذاعية بعد إذاعة الأغنية، هاجم عبدالحليم حافظ، وقال: لا يجوز أن نصف القدر بالحمق، وأن هذا مخالف للدين. 

أنصار الشيخ محمد الغزالى ذهبوا إلى أن ما قاله وصل إلى عبدالحليم الذى غيّر فى كلمات الأغنية، وعندما كان يغنيها على المسرح استبدل «قدر أحمق الخطى» إلى «قدر أحكم الخطى»، وهو ما لم نجد دليلًا واحدًا عليه، فلا يوجد أى تسجيل للأغنية بها «أحكم الخطى»، لكن ما جرى أن بعض الإذاعات وبعد المد السلفى كانت تكتفى بحذف هذه الجملة من الأغنية، حتى تريح وتستريح. 

بعد عقود من حديث الشيخ محمد الغزالى عن أغنية «لست قلبى»، عاد إليها الدكتور على جمعة فى أحد برامجه التليفزيونية. 

كان جمعة يتحدث عن الفن بين الحل والحرمانية، وقال فى معرض حديثه: عبدالحليم حافظ رحمه الله قال فى أغنية «قدر أحمق الخطى»، وفى الإسلام لا يوجد قدر أحمق لأن الله صاحب القدر، عبدالحليم عندما قالها هل كان يعنى فسادًا فى الأرض؟ أم كان يريد أن يغنى قصيدة الشعر؟ وقد اعترضنا وطلبنا تغيير ذلك. 

لم يوضح الدكتور على جمعة متى وأين اعترض وممن طلب التغيير، وأى تغيير كان يريده، لكننا نفهم من سياق كلامه أنه اعترض على ذلك لدى الإذاعة والتليفزيون، وقد يكون هذا سببًا من أسباب حذف الكلمة من الأغنية. 

ويوضح على جمعة موقفه أكثر عندما يقول: عبدالحليم لو كان عايش كان هيصلحها، إذا قال له أحدهم إن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية، كان سيكون حريصًا على إصلاحها. 

محمد الغزالى

رفض على جمعة الحكم على عبدالحليم بشىء، فبالنسبة له التدخل فى نيات الناس والتفتيش فيها نهى الله عنه شرعًا. 

لم تكن هذه هى المشكلة الأولى التى واجهها عبدالحليم. 

كانت هناك مشكلة أخرى تسببت فيها أغنية «لست أدرى» التى غناها فى فيلم «الخطايا»، وهى من كلمات إيليا أبوماضى، ويقول فيها «جئت لا أعلم من أين.. لكنى أتيت»، وكان الاعتراض عليها من باب أنها تمثل تحديًا كبيرًا للمشيئة الإلهية، وقد تكرر هذا مع أغنيته «على حسب وداد قلبى»، التى كتبها عبدالرحمن الأبنودى، ويقول فيها «لا هسلم للمكتوب: ولا هارضى أبات مغلوب»، على اعتبار أن التعبير تجاوز فى حق الله وتجاوز فى حق معتقد المصريين الشعبى، الذى يعتبر أن الرضا بالمقسوم عبادة. 

لم يتعرض عبدالحليم لفتاوى تكفره أو لمحامين جرجروه فى المحاكم، كما حدث مع بعض الكتّاب والمفكرين بسبب ما يكتبونه أو يقولونه، ولكنه تعرض للتشهير، وكان ذروة هذا التشهير على يد وبلسان الشيخ عبدالحميد كشك. 

لا يزال كثيرون حتى الآن يتندرون على سخرية كشك من عبدالحليم، فمن بين ما قاله عنه إنه حقق معجزتين، الأولى أنه «مسك الهوا بإيديه» فى إشارة إلى أغنية حليم «زى الهوا» التى كتبها محمد حمزة ولحنها بليغ حمدى، والثانية أنه الوحيد «الذى تنفس تحت الماء» إشارة إلى أغنيته «رسالة من تحت الماء» التى كتبها نزار قبانى ولحنها محمد الموجى. 

كان لدى كشك منطقه الذى يبرر به ما يفعله حتى لو كان باطلًا- وكثيرًا ما كان يأتى الباطل فى الحقيقة- وفى حواره الأخير الذى أجراه معه حسن عبدالله، ونشرته له مجلة «نصف الدنيا» قبل شهور قليلة من وفاته، سأله محاوره: ما الذى يضير الإسلام إذا ما أعلن عبدالحليم حافظ أنه يتنفس تحت الماء؟ 

قال كشك: هذه معانٍ قبيحة على أصل مرفوض من الأساس، والأهم أن عبدالحليم حافظ ليس سمكة، ولم يكن غطاسًا، أو معه جهاز أكسجين يعينه على التنفس تحت الماء كى يقول إنى أتنفس تحت الماء. 

رد عليه محاوره: هذه مجرد أخيلة شعرية أو مجاز؟ 

فقال كشك: لا يلجأ من الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى، وعبدالحليم حافظ عندما يقول ذلك فهو غير صادق، مثله مثل الذى يقول «جئت لا أعلم من أين؟» فهذا رجل غير صادق أيضًا، لأن عنده أولاد ويعلم كيف جاء بهم، وبالتالى فإنه مثلهم جاء من نفس الطريق. 

ما قاله محمد الغزالى كان سطحيًا، وما ذهب إليه على جمعة لم يكن دقيقًا، وما تفوه به كشك كان ساذجًا، والدليل أن كل كلامه راح أدراج الرياح، ولا تزال أغنيات عبدالحليم موجودة، يغنيها ويسمعها الناس بل ويرددونها معه. 

المشهد الأخير فى حياة عبدالحليم كان دالًا. 

توفى فى ٣٠ مارس ١٩٧٧، ووقتها كان الشيخ الشعراوى وزيرًا للأوقاف.

عاد جثمان حليم من لندن الساعة الثالثة فجرًا، وكان من المقرر أن يوضع فى مستشفى بالمعادى، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مسجد عمر مكرم فى الصباح للصلاة عليه، وعندما عرف الشيخ الشعراوى ذلك أصدر قرارًا بفتح مسجد عمر مكرم من اللحظة التى يصل فيها جثمان عبدالحليم إلى القاهرة وحتى الصلاة عليه. 

وعندما سُئل الشيخ الشعراوى عن ذلك، قال إنه تكريم للفنان الراحل، فقد كان يقدر فى عبدالحليم قدرته على مواصلة مشواره الفنى رغم ما يعانيه من ألم فى رحلته مع المرض.