الثلاثاء 08 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أريج عراق تكتب: قيـود الدخــــان

حرف

«فقط، امنحنى ملامح لوداع واضح»، كان هذا هو رجاءها الأخير عندما قرر أن ينهى علاقتهما فجأة ودون مبررات، لم يكن مجرد قرار، لكنه شرع فى تنفيذه بالفعل، بهدوء شديد أخذ يختفى من حياتها، غابت صورته عن عالمها الافتراضى، ولم يعد هاتفها ينطلق بتلك النغمة المميزة التى اختارتها له، كان يتعمد أن يمزق كل الخيوط التى تصلهما وتنسج ما بينها شباكًا للحلم، حيث يمكن لسرهما أن يحيا ويتنفس.

فى البداية لم تعر الأمر اهتمامًا كبيرًا رغم كونه مؤلمًا، سيعود، تعرف أنه سيعود، فعلها من قبل، ولم يحتمل أكثر من أيام ثلاثة، إلا أن إحساسها بالخطر بدأ فعلًا مع تواتر الأيام دون أن تظهر أى إشارة توحى بأمل فى الرجوع، انتابها ذلك الشعور الطاغى بأنه يسعى بجدية للتخلص منها هذه المرة، يحاول أن ينتزعها من تحت جلده، ويخرجها من بين أنفاسه، كان ذلك مرعبًا، مجرد التفكير فى ذلك الخاطر، وتصورها لجسديهما ينفصلان إلى الأبد كخيوط دخان تائهة فى الأفق، كان يورثها شعورًا قاسيًا بألم لا تعرف مصدره، ألم ينتشر فى روحها وليس جسدها، كانت تحبه بجنون، نعم، لم يكن صعبًا عليها أن تعترف بذلك، لكنها قررت- فجأة- أن تقف أمام نفسها، ربما كمحاولة لتصديق ما يخبرها به الآخرون من كونها قوية، ويمكنها أن تعبر كل الأزمات برأس مرفوع وظهر لا ينحنى، «ما الفائدة فى أن تمنحى مشاعرك لمن يقاوم مشاعره نحوك، ويسعى جاهدًا للتخلص منها ومنك؟»، «يمكنك أنت أيضًا التخلص منه، الأمر ليس بتلك الصعوبة»، «ولكنه بالفعل كذلك، خاصة عندما اختار أن يختفى فجأة، دون أن يمنحنى- حتى- وداعًا»، «وما فائدة الوداع؟ سيزيدك تعلقًا به ليس إلا، وسيربطك بحبال الذكرى بشكل أقوى، الأفضل أن تنتهى من الأمر هكذا، بلا وداع أو تفاصيل تبقيه حيًا بما يكفى لقتلك أنت»، «ولكن .. لا أحب النهايات الضبابية، أفضل أن تكون الأمور واضحة محددة، فقط كما هى، فيمكننى أن أصنفها يومًا، هكذا أحببته، هكذا تركته، هكذا كنا، هكذا كان»، «لا تنسى أن النهايات الضبابية تحمل بداخلها أملًا ما بتجدد اللقاء»، «بل هى تأسرك إلى الأبد بقيودها الدخانية، حيث لا فكاك أبدًا، فى باحة الانتظار السرمدية».

الانتظار، ذلك الوحش القاتل الذى ينهش فى الروح والجسد على حد سواء، لا تفيق منه إلا على ألم تآكل بعض منك، أما الخروج من دائرته فهو معركة أخرى أكثر شراسة واستنزافًا، قررت أنها لن تبقى أسيرة الانتظار، وأنها لن تسمح لقيود الدخان أن تكبل روحها إلى الأبد، ستحصل على ما تريد، ليس أكثر من وداع له ملامح، ليس طلبًا عويصًا، وستقاتل من أجل تحقيقه أى شخص، حتى هو، أو نفسها.

فى الصباح كانت أكثر إشراقًا وحيوية، ارتياحها للقرار انعكس فورًا على ملامحها وخلّصها من ذلك التشنج، بهمة ونشاط حضرت فطورًا خفيفًا، وشرعت فى إجراءات التجميل كما رتبتها فى رأسها بالأمس، فتخلصت أولًا من كل ما يفسد جمالها، ثم تركت جسدها يسترخى تحت رذاذ الماء البارد، قبل أن تبدأ فى إضافة ما يجب إضافته، لا يحب الكثير من المساحيق فى وجهها، فاكتفت بإبراز جمال عينيها وشفتيها، مع القليل من العطر الذى يثيره، شعرت بأنها تتزين لحتفها، لكنها كانت منتشية بذلك، واختارت نفس الملابس التى ارتدتها فى أول لقاء لهما، عندما باحت عيناه بما عجزت عنه شفتاه، «النهايات أيضًا جميلة، وتستحق أن نبذل فيها من الجهد ما نمنحه للبدايات من شغف».

أمام الباب كان التردد هو سيد الموقف، وقفت طويلًا دون أن تجرؤ على قرع الجرس، حاولت أن تتراجع، إلا أن قدميها تسمرتا فى الأرض دون حراك، وتيبست يدها فلم تتمكن من رفعها، فأخذت نفسًا عميقًا حبسته بين أوردتها قليلًا، وحانت منها التفاتة لمعصميها، فرأت خيوط الدخان قد بدأت تتشكل فى هيئة سلاسل قوية أخذت تلتف لتقبض عليها، وشعرت بها تنتقل لعنقها وقفصها الصدرى، فزفرت فى عنف ودقت الجرس.

لم يكن للأسئلة من معنى، لم يكن للكلمات من معنى، بين ذراعيها شعر بأنه قبض على الريح، وبداخلها شعر بأنه ملك هذا الزمان، «كل هذا البراح تحملينه فى أحشائك، ليتك تلديننى من جديد»، عندما انهار رأسه على صدرها قتيل النشوة، ارتسمت على شفتيها تلك الابتسامة السعيدة، ومنحته قبلة انتصارها.

أمام الباب، حاول ألا يفلتها من بين ذراعيه، وسألها بشغف «متى سنلتقى مرة أخرى؟»، أفلتت نفسها، ومدت يداها الحرتان لتحيط وجهه بكفيها، نظرت طويلًا فى عينيه، ومنحته قبلة ناعمة لا أثر للأسى فيها، وانصرفت بهدوء.