الثلاثاء 15 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

انفراد

أوراق مسلسل «أرابيسك» بخط أسامة أنور عكاشة

حرف

- بخط يده.. أسامة أنور عكاشة يحاكم حسن أرابيسك

على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا على عرض رائعة مسلسل «أرابيسك» للكاتب والسيناريست الكبير أسامة أنور عكاشة، إلا أن المسلسل الأيقونى ما زال يبوح بأسراره وكواليسه التى تليق وبحق برواية حفرت أحداثها أثرًا من ذهب فى تاريخ صفحات الدراما المصرية، وكان آخر ما نضحت به حواديت أرابيسك، ما حصلت عليه «حرف» للمعالجة الدرامية الكاملة للمسلسل بخط يد الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة.

أرابيسك والذى عُرض فى الموسم الرمضانى من العام 1994، نجح فى تحقيق نسب مشاهدات وصفت بالتاريخية، سواءً بين جموع المصريين أو فى الوطن العربى، حيث نجح المسلسل فى تقديم صورة حية من داخل الحارة المصرية الأصيلة، كما هى دون رتوش أو تشويه، صورة جسدها الفنان الكبير صلاح السعدنى «الأسطى حسن أرابيسك»، والفنانة القديرة هدى سلطان «أم حسن»، والفنان القدير أبوبكر عزت «الأسطى عمارة»، وهالة صدقى «توحيدة»، وسهير المرشدى «عدولة»، وكرم مطاوع «الدكتور برهان»، ونخبة من أسطوات الفن المصرى سطروا بمهارتهم أسطورة كتبها أسامة أنور عكاشة وأخرجها جمال عبدالحميد، وزين تترات المقدمة والنهاية صوت الفنان الكبير حسن فؤاد فى رائعة من كلمات شاعر العامية سيد حجاب، لتبقى «أرابيسك» علامة فارقة فى تاريخ الدراما.

حسن النعمانى.. من الغورية

لا يوجد فى الغورية من لا يعرف حسن النعمانى! رغم أنه بالقطع ليس أغنى الناس أو أكثرهم نفوذًا أو وجاهة..

حسن ابن الأربعين له ماضٍ مشرف.. وحاضر لا غبار عليه.. فأما عن ماضيه فهو من أبطال حرب أكتوبر.. وكان واحدًا من مجموعة العبور الأولى بعد الحرب وتقلد نوط الواجب العسكرى الذى يحتفظ به فى إعزاز شديد بدولاب الفضية بورشة فى- خان دويدار- ويعلق براءته فى إطار مذهب بورشته.. وهو لا يتحدث أبدًا عن بطولاته التى أهلته لهذا التكريم.. وإنما يتناقلها أبناء حيه وأولاد «حتته» ويكتفى هو بابتسامة وتعليق عابر.. «كانت أيام حلوة»!

- كان الماضى حلو يا حسن!.. طيب الحاضر؟..

- زى مانت شايف!

لا تستطيع أن تتبين حقيقة ما يعنيه حسن بهذه العبارة! ولكنك تحس إنه غير سعيد وله حق!..

ليست المسألة شخصية رغم أنه يعانى- على المستوى الخاص- من شجون كبير ليس أقلها ما حدث منذ سنوات حين أصرت مديحة زوجته وحبه القديم على الانفصال، ثم اصطحبت وحيده «أيمن» وسافرت مع زوجها الجديد خارج مصر!..

وشجون حسن مخبوءة داخل نفسه فقط.. وهو يرفض رفضًا قاطعًا وصارمًا أن يناقشه فيها أى من أهله أو أصدقائه أو أبناء «حتته».. حتى أغلى إنسان فى حياته.. «أم حسن»..

ولا يجب أن يدفعنا هذا إلى الظن بأن حسن وفى قلبه ما به من جراح يبدو إنسانًا مكتئبًا أو مكفهر السمات أو خشن المعاملة.. بل ربما كان العكس صحيحًا وعلى طول الخط..

فعلاقات حسن «غنية» ومتعددة وتمنحه محبة الجميع.. فقد استطاع بأسلوبه الذى يعكس كل تراث أولاد البلد الأصلاء أن يكون أخًا للجميع وشريكًا فى كل مناسبات الأهل والجيران.. ورجل المشورة.. وحامى الضعفاء.. إلخ..

مع ذلك فلا يخطر بالبال أنه «سوبر مان» أو نموذج ورقى من نماذح الخير المطلق فى الروايات..

فالوجه الآخر لحسن النعمانى.. هو وجه المبذر.. البوهيمى.. مخروق الكف 

الذى لم يستطع أن يستثمر أو يدير بنجاح ما تركه له والده سلامة النعمانى!!.. وما تركه ليس بالقليل..

لم يترك المعلم أو الأسطى «فتح الله» عمارات أو أطيان أو أرصدة فى البنوك.. ولكنه ترك «صنعة».. ترك «فنًا».

ترك «ورشة» لأعمال «الأرابيسك»! وترك فيها مجموعة من «الأسطوات الصبيان» الذين علمهم ودربهم على فنون الصنعة وحرفياتها.. وعلى رأسهم «ابنه حسن» الذى أظهر منذ نعومة أظفاره ولعًا شديدًا بفن أبيه ومهارة فى تقليده.. وما كان ليحصل على دبلوم الصنايع حتى تفرغ للعمل فى الورشة وبعد سنوات قلائل ذاع صيته حتى تخطى صيت الأب.. والتصقت باسمه مهارة الفن الذى برع فيه.. حتى عرف بين الجميع باسم «حسن أرابيسك».. وصار كالعلامة التجارية المسجلة.. وبات كل من يريد تحفة من تحف أو مشغولات «الأرابيسك» يسمع عبارة واحدة:

مفيش غير حسن أرابيسك بتاع الغورية..

ومازالت هذه العبارة تُقال حتى الآن.. ولكن.. الأمور لم تعد كما كانت..

ولام الناس حسن لأنه فرط فى «صبيان» وفنانى الصنعة..

يدافع حسن عن نفسه بأنه لم يفرط فى أى منهم. ولكنها «الظروف» و«الوقت» والتحولات التى شدت «الأولاد» إلى مصانع الموبيليا الجاهزة.. والسفر خارج مصر للبحث عن «المعاش».

يلوم الناس حسن لتبديده الوقت على «مزاجه» بين «ماتشات الكورة وجلسات الكوتشينة مرابعة» على قهوة «شوشة».. وسهرات الأنس مع الشلة..

وكذلك كل التصرفات الأخرى التى صنعت مبررًا وحجة قوية «لمديحة» حين هجرته!

وأحيانًا كان حسن ضاربًا المثل بأبيه المعلم «فتح الله» الذى كان أكثر منه جريا وراء «المزاج» والحياة المنطلقة «المليئة» ومع ذلك لم يتأثر ولم تخنه «الصنعة»!

لام الناس حسن لأنه يتعامل مع صنعته ورزقه بتكبر وعنجهية.. فيرفض العمل إلا «للزبون» الذى «يوافق مزاجه».. وكانت النتيجة أنه باستمرار يعانى من ضائقة مالية.

هو أنا شكوت إليكم همى يا عالم؟.. «هكذا يرد «حسن»، موضحًا أنه يحترم صنعته فيبخل بها على من لا يقدرها.

الذى يعطيهم الحق فى النفاذ إلى مشاكله كما يعطيه الحق فى مقاسمتهم أفراحهم وأحزانهم والتدخل أحيانًا بالفعل المادى المباشر الذى طالما عرضه لمغارم شخصية كثيرة.

ولكنه فى النهاية.. رجل سعيد بناسه.. وإن غضب منهم أو عليهم.. وكثيرًا ما شدد عليهم النكد وأغلظ لهم وعنفهم إذا لم تعجبه أحوالهم.. وهى نادرًا ما تعجبه!

«الناس هنا يا خال نايمة فى العسل.. عايزين الدنيا تروق وتحلا وتيجى لحدهم.. عايزين يغمضوا عنيهم ويفتحوها يلاقوا الفقر راح لوحده بقدرة قادر.. طيب عملوا إيه عشان يغيروا حياتهم؟..».

كان هذا السؤال الذى يتردد دائمًا على لسان حسن ويبدو شديد الرغبة فى العثور على جواب!!..

وينبع من هذا السؤال تلك النظرة إلى المستقبل الغامض.. 

«طيب نعمل إيه عشان بكرة؟».. سؤال 

سؤال آخر.. 

ولكنه سؤال ينبع من أعماق رجل يحلم.. وحلمه معلق بأستار ضباب يحاول جاهدًا أن يزيحه ليرى ما وراءه..

وتأتى الفرصة...

الرجل القادم من بلاد بره!

«شريف جادو» مهندس ديكور يعرف طريقه جيدًا إلى ورشة «حسن أرابيسك» وقد جاءه صباح ذلك اليوم وبادر.

- المرة دى مش حاتقدر تقول لأ يا حسن!..

- هات م الآخر!

وحكى له «شريف» حكاية الدكتور «برهان الخولى»!

............

استقر الدكتور «برهان» أخيرًا فى القاهرة بعد طول طواف فى مشارق الأرض ومغاربها.. فقد عمل أستاذًا للطبيعة بمجموعة من الجامعات العربية طوال خمسة عشر عامًا وتلاها بالعمل فى منظمة العلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة خمس سنوات أخرى، ثم قرر أخيرًا أن يعتزل العمل ويستقر فى القاهرة بين أسرته وأولاده الذين حرم منهم وحرموا منه سنوات طويلة.. ومن حصيلة الغربة اشترى فيللا بأحد الأحياء الراقية «المهندسين»...

الفيللا فخمة وجميلة ولكن طراز ديكوراتها «المودرن» لا يعجبه.. فهو «بلا شخصية» كما يقول.. ويريد أن يغيرها إلى طراز أكثر أصالة.. وقد تردد طويلًا بين «الطراز الفرعونى» وبين الطراز «العربى» ثم استقر على «الطراز العربى».. وأهم ما يميز هذا الطراز مشغولات «الأرابيسك» الخشبية.. وقد صارحه المهندس شريف على الفور:

- يبقى مفيش غير حسن «أرابيسك»!

وها هو قد جاء لحسن بعرض لا يقاوم:

- الراجل عايز بيته يبقى تحفه يا حسن.. والميزانية مفتوحة.. اللى انت عايزه!

ونحى حسن مبسم النرجيلة جانبًا.. وأجاب:- أشوف الراجل والمطرح وبعدين أرد عليك!

.. و... ذهب حسن للفيللا!

فوجئ الدكتور برهان «بالصنايعى» الذى جاء «ليعاين» مكان «الشغل» كما تصور يناقشه ويسأله وكأنه يخضع لاختبار شخصى.. وليس هو فقط.. بل معه أيضًا أفراد أسرته..

حدث الصدام منذ أول لقاء.. واستفز كل من الطرفين الطرف الآخر.. وانتهت المحاولة بالفشل الذريع..

ثار الدكتور «برهان» على شريف لأنه لم يجد فى مصر كلها «صنايعى أرابيسك» غير هذا المخبول الذى يظن نفسه «بيكاسو»..

وتهكم حسن فى سخرية لاذعة على كل ما رآه قائلًا لشريف:

- يابا دول عالم «أونطة».. بتوع «ذواق».. مالهمش دعوة «بالفن».. وكانت هذه «عقدة» حسن.. أن يتعامل مع «الزبون» على «إنه صنايعى» أو «بتاع خشب»..

وكان من الممكن أن تنتهى العلاقة هنا.. ويذهب كل لحال سبيله.. لولا أنها كما يقال «كبرت فى دماغ الاثنين»..

تضايق الدكتور برهان لدرجة الغليان من رفض هذا «الصنايعى» المقترن بالسخرية وتسفيه الأفكار..

واستفز حسن ما تصوره عنهجية لدى الدكتور وأسرته.. قرر كل منهما فى داخله أن «يخضع» الآخر..

بدأها «برهان» بطريق ملفوف حين اقترح عليه شريف أن يعود لفكرة الديكور الفرعونى ولكنه رفض مصرًا على أن يكون الطراز «عربيًا».. وهنا كرر له شريف: يبقى مفيش غير حسن!

تظاهر برهان بالرفض وطلب من مهندس الديكور أن يقلب «الدنيا» على صنايعى «أرابيسك» آخر.. وهنا واجهه شريف:

- لو صنايعى.. فيه كتير.. أجيب لك بكرة عشرة! لكن «فنان» تخرج أصابعه التحف مفيش غير حسن!

- الأمر لله.. ولو إنى مش عايز أشوفه!

- المشكلة إن هو اللى مش عايز يشتغل عندكم!

.............

ولكن شريف بمعرفته الطويلة بحسن اتبع معه وسيلة ناجحة.

.............

مر عليه عرضًا وأخبره أنه اتفق مع «رمضان زيكو» لينفذ عملية الفيللا... وثار «حسن»...

كان الجميع يعرفون ما بين حسن ورمضان من تنافس...

كان رمضان فى الأصل عاملًا فى ورشة النعمانى وتعلم الصنعة على يد المعلم الكبير مع حسن يومًا بيوم، ولكنه اشتغل بمشروعه الخاص وفتح ورشة بالقرب من خان الخليلى.

وقال حسن:

- ما حدش حايعمل الفيللا دى غيرى!..

ونجحت خطة شريف!

رحلة حسن النعمانى فى مصر الأخرى!

لم يدر بخلد حسن لحظة حين قرر أن ينفذ عملية «فيللا الدكتور برهان» أنه مقدم على رحلة أسطورية كرحلة «أليس فى بلاد العجائب».. ولم يتصور أبدًا أن هناك مدنًا أخرى غير التى يعرفها ويعيشها فى الغورية والجمالية والمغربلين وكل هذا المربع الممتد من باب الشعرية إلى السيدة زينب ومصر القديمة..

نعم كان يعرف الأحياء الراقية.. يراها ويمر عليها ويعمل بها أحيانًا.. بل «ويرى أهلها من خلال أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون.. ولكنه لم (يعشها).. لم يخترقها أو ينفذ إلى أحشائها ولم يتصور أن الحياة والناس فيها يشكلون وجهًا آخر للقاهرة.. للبلد.. لمصر».

كان المصريون فى تصوره.. هم أولاد البلد والناس المستورين والفلاحين والصعايدة الذين حارب أولادهم معه فى ثلاثة وسبعين.. وها هو يرى «صنفًا آخر» لم يضعه فى حسبته..

«مجتمع أولاد برهان الخولى».. ومشاكل هذا المجتمع التى تختلف وتتناقض تمامًا مع مشاكل أبناء شارع «خان دويدار».

ويهمس له شريف فى جزع:

- مالك ومال الناس.. أنت جاى تركب أرابيسك.. خليك فى شغلك!

.. يخليه فى شغله؟.. حسن أرابيسك؟.. هيهات!

.............

على المستويين جرى الصراع..

فى ظاهره هدم تدريجى لكل ملامح الفيللا.. «فالطراز» العربى لا يتفق مع أشياء كثيرة.. والمسألة ليست مسألة شكل أو واجهة.. والواجهة الجميلة لا يجب أن تخفى خلفها جوهرًا فاسدًا.

ويردد حسن باستمرار

- على نضافة.. على ميه بيضا.. كله يتفور ويتعاد على أصوله!

وفى الباطن كان حسن- رسول أحياء القاهرة القديمة- يحاول أن يجعل من الناس أولاد الدكتور برهان صالحين لما يشير إليه جوهر الطراز الجديد..

ولقد ارتطم حسن بلا شك بقوانين ومفردات عالم مختلف يتصادم مع عالمه تمامًا وحدثت مفارقات تضحك الثكلى، وتدمى القلوب فى آنٍ واحد..

ومن خلال هذا «الارتطام».. اكتشف حسن أن مجتمع السطح أو «القشرة» ومجتمع العمق أو «الكتلة» يحتاجان لنفس ما يفعله هو فى «الفيللا»!!

.............

وكانت رحلة المصرى العادى.. الفهلوى.. المدرك لجوهر الحقائق بفطرته وبروح الفنان بداخله.. المحب لأهل بلده وإن غضب منهم.. هى رحلة حسن النعمانى.

.............

هل أحب حسن «أولاد برهان الخولى»؟.. وهل أحبوه هم؟

وهل استطاعت تجربته أن تجيب على الأسئلة المطروحة منذ زمن فى شارع واحد؟

هل استطاعت عملية فيللا برهان أن تضيف إحدى الإجابات فى مسألة «الأصالة المعاصرة».. فى «الشكل والمضمون»؟

ليس حسن أرابيسك مفكرًا ولا منظرًا ولكنه يضع أصابعه ببساطة على اللب والجوهر..

هو يكتشف الحقيقة.. ولكنه يدفع ثمنها..

تُرى.. أكان هذا الثمن هو اتهامه بتدمير الفيللا؟

وقصة حبه الغريبة مع «رولا» البنت الكبرى للدكتور؟

أو مشاكل «رولا» وأخيها «شادى» التى ألقت به فى أحضان الدبابير من مجرمى آخر «مودة»؟

ثم يأتى السؤال الأهم....

.............

من من أهل ضفتى النيل يستطيع أن يُصلح.. ويقود؟

.............

هل يعود حسن أرابيسك إلى قواعده فى الغورية خاوى الوفاض مثخنًا بجراح مغامرته الكبرى؟

أم يعود وقد أصبح أكثر فهمًا.. وأقدر على العمل.. وأكثر استشراقًا للمستقبل وقدرته على إجابة السؤال القديم: «طيب بكرة حانعمل إيه؟».