السبت 04 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

وثائق خاصة.. بهاء وغانم والعالم يحتفلون بأول ديوان لصلاح جاهين

حرف

محمود أمين العالم: كلمة سلام

هى مجموعة من الشعر الشعبى كتبها الفنان صلاح جاهين وأخرجتها دار الفكر وقدم لها الشاعر د. محمد كمال عبدالحليم بمقدمة طيبة حلل بها الديوان تحليلًا رائعًا ربط فيه بين تطورات الشاعر وتطورات الواقع الاجتماعى الذى يعيش فيه وحدد القيم الإنسانية التى تنبض بها هذه الأشعار الشعبية.

مقال محمود أمين العالم

والحق أن هذه المجموعة الشعرية تقدم لنا باقة من التجارب الحية الصادقة لطائفة من المشكلات الإنسانية الكبرى، فالمقطوعة الأولى فى الديوان تبرز مشكلة التوفير فى المصنع..
أنا لوحدى مفيش حاجة
مجرد اسم متشخبط على ورقة
فى إيد واحد مدى أصله قومسيونجى
يقدمها لتركى ولا لخواجه
لا يعرف عربى ولا شفقة
يروح ماضى بقلم باركر بلا إفرنجى
أروح مرفود
كنت باشرب عصير قصب من مدة
والمعلم واقف قصاد العدة
شفت تقل القصب وشفت الزباين
اللى معروض واللى جميع عضمه باين
كلنا مهلوكات عدد ومكاين
كلنا ممضوغين على ضبة فاجرة
وفى مقطوعة روزنبرج يعرض لنا حقيقة قضية روزنبرج ومراته أيتل والعصابة الأمريكية العالمية...
مش بتسرق ميه والا خمسين
لا
دى بتقشط شعوب م الإنسانية 
والسلاح ذرة وقنابل مكروبية
واللى يفضح جرايمها يتقتل
زى روزنبرج ومراته أيتل
وفى مقطوعة «زى الفلاحين» يعرض لنا معلنى الحقيقى للقمح.
القمح مش زى الدهب
القمح زى الفلاحين
عيدان نحيلة جدرها بياكل فى طين
زى إسماعيل
ومحمدين
وحسين أبوعويضة اللى آسى وانضرب علشان طلب
حفنة سنابل ريها كان بالعرق
وفى مقطوعة «ششارلى شابلن» يعرض لنا لقطات سريعة لامعة من أفلام شارلى شابلن.. ولكفاح شابلن من أجل السلام ثم لمنعه من دخول أمريكا..
ومن أنصع مقطوعات الديوان وأعمقها مقطوعة بكرة أجمل من النهارده التى يعرض فيها للزمن باعتباره حركة وإنتاجًا وعملًا ومشاركة..
يا زمن.. آه يا زمان...
ياللى طابع رسم كفك على الحيطان
أنا شفتك وانت ماشى فى الغيطان
خطاوبك هيا السنابل على العيدان
خطاويك هيا لدرة هى الكيزان هيا
صوت الفاس بيفتح فى الحيضان
 


وفارق كبير من حيث المضمون الاجتماعى بل والصياغة الفنية بين هذه المحاولة فى الشعر الشعبى وبين المحاولات السابقة ليبرم والسعيد عبده وغيرهما، فمحاولة صلاح محاولة زاخرة بالثقافة والوعى وفيها استبصار.. وضى بقيم إنسانية لم يتضمنها من قبل الشعر الشعبى.. وكان من الطبيعى لصلاح جاهين أن يخرج على حدد الشعر الشعبى المعروف.. وأن يضيف إليه شكلية ليست فيه حتى يتمكن من أن يعبر تعبير سليمان الدقيق عن فلسفة الإنسانية المستنيرة، والواقع أن صلاح جاهين فقد سبق بمحاولتين من هذا الطراز الأول للدكتور لويس عوض فى ديوانه «بلتولاند وقصائد أخرى.. إلا أن محاولة لويس عوض كانت مجرد محاولة وتنقصها التجربة العميقة إلى جانب أن مضمونها رومانطيقى خالص. 
أما المحاولة الثانية فكانت للشاعر الشعبى العظيم فؤاد حداد فى مجموعته الشعرية «أحرار وراء القضبان»، وتجربة فواد حداد وصلاح جاهين تكونان فى الشعر الشعبى المصرى مدرسة جديدة قائمة بذاتها تضيف إلى الوجدان الشعبى حيوية جديدة ووعيًا متقدمًا.
وعلى الرغم مما تتميز به مجموعة صلاح جاهين الشعرية من بساطة وانطلاق وحيوية وصدق، إلا أن بعض مقطوعاتها يضعف منها النسيج الفنى إلى حد الركاكة أحيانًا.. فمثلًا عندما يصف الولد الجرىء، فى مقطوعة الزمن.
رأسه تشبه للشاكوش
والوحوش ماتخفوش
والجبال ماتوقفوش
والزلازل والجيوش ماتكسروش
إلا أن هذا لا يقلل من القيمة الفنية العامة للديوان فهى أسطر محددة للغاية فى المجموعة..
وتعد هذه المجموعة الشعرية لصلاح جاهين- بصورة عامة- تعبيرًا رائعًا عن المساهمة الجادة التى تسهم بها ثقافتنا الوطنية الراهنة فى معركة السلام والحرية.

فتحى غانم: شاب صغير السن عمره آلاف السنين 

احتفل شاعر مصرى كبير بعيد ميلاده الخامس والعشرين منذ ثلاثة أيام، هذا الشاعر الصغير السن- ما زال مجهولًا- لم يقرأ له أحد بيتًا واحدًا من الشعر ولكنه نشر أشعاره أخيرًا، منذ أيام قليلة، ليقرأها المصريون والشرقيون، ولتترجم إلى العالم أجمع.
اسمه صلاح جاهين- اذكروا هذا الاسم وارقبوه، فأنتم وحدكم القادرون على أن ترفعوه إلى أعلى قمم الفن، وأنتم وحدكم القادرون على أن تهيلوا عليه تراب النسيان والموت..

مقال فتحي غانم


وأشعار صلاح جاهين باللغة العامية التى يتكلم بها المثقفون من أبناء الشعب، هى ارتقاء باللغة العامية، والتقاء فى الوقت نفسه باللغة العربية، أما موضوعاته فهى أحداث مصر فى الفترة ما قبل ثورة ٢٣ يوليو، وهى تسجيل فنى للاستعمار فى مصر، والجنود الإنجليز فى أرضنا، ومعركة القنال، ومأساة فلسطين، واللاجئين المشردين فى الصحراء. والإقطاع وأصحابه من الأمراء الأتراك وأنصاف الآلهة الذين يسكنون القصور الباذخة، ثم صور أخرى عن الجريمة التى تفشت بين الشباب، والفلاحين فى الحقول، والصيادين فى البحر، والعمال فى المصانع.
وتحس وأنت تقرأ هذه الأشعار أن صلاح جاهين ولد منذ ربع قرن، ولكن عمره الحقيقى- كمصرى- هو آلاف السنين.
 

أحمد بهاء الدين: أقدم لكم صاحب فلسفة البساطة

صلاح جاهين شاب موهوب، أكبر ميزاته البساطة.. بسيط فى سلوكه الشخصى، وفى إنتاجه الفنى على السواء.
كان المفروض أن يدرس القانون فى كلية الحقوق. ولكن للقانون قواعد وقيود وحدود. فهو لا يلائم طبيعة صلاح، الذى فر من حظيرة القانون لكى يدرس الفنون.. ثم لكى ينتج بالريشة والقلم، ويعبر عن نفسه وعن مجتمعه وبيئته.. رسمًا وشعرًا. 

مقال أحمد بهاء الدين


وبساطة صلاح جاهين تتجلى فى أنه لا يحاول أن يقنعك بأنه فنان، ولا يتحذلق حذلقة الفنانين، ولكنه يرسم ويقول الزجل وكأنه يعلن خواطره لا أكثر ولا أقل.
ليس معنى ذلك أن صلاح لا يدرك تمامًا أهمية ما يرسم أو ما يقول، فهو شاب مثقف مؤمن بأن الثقافة لها رسالة وليست مجرد زينة أو زخرفة، ولكنه لا يحب أن يستعرض ثقافته. إنما يؤثر أن يقول الحقائق التى يصل إليها من أقرب طريق، وببساطة البديهات.. وهو منطق فى معالجة الأمور، أقوى- فى رأيى- من منطق التعقيد والغموض والمصطلحات.
والقصائد الزجلية التى جمعها صلاح فى ديوانه «كلمة سلام» تنم عن هذا الجمع الموفق بين الثقافة السليمة وبساطة الأداء.
إن قصيدة «دموع وراء البرقع» صورة رائعة لعامل يفقد عمله.. وهى فى سطورها البالغة البساطة تعرض لك أمورًا بالغة الأهمية: الأزمات الاقتصادية التى تؤدى إلى تسريح العمال. الضمانات التى يجب أن تتوفر للعامل. النظام القضائى المرهق الذى لا ينفذ إلى صميم المشكلة المعروضة عليه، فالعامل صاحب هذه المأساة يعبر عن إحساسه قائلًا: «وأنا مجرد تلات كلمات».. فهو ليس رجلًا، وقلبًا ينبض، ومعدة تجوع، ونفسًا تزخر بالعواطف، وبيتًا وزوجة، وإلى جانب ذلك ترى الصورة الإنسانية الكاملة لأسرة صغيرة يهزمها الفقر، وترى الجو المصرى الكامل فى ختام هذه القصة:
وأصبح اسم يتكفن بكل لسان من السكان 
بعيد عن بيتكو يا أم فلان 
خلاص بيبيعوا عفش فلان 
وتمشى مراتى بعيالها 
عشان تاكل فى بيت أبوها 
هناك فيه ناس يحبوها أوصلها 
وفى السكة تقول ربك يعدلها 
وأشوف كل الدموع بتنور وبتلمع ورا البرقع 
أقول لازم نعدلها 
وتدخل هيّه بعيالها 
وأنا أرجع 
أنا لوحدى!
وهكذا كل الصور التى التقطها صلاح من الريف حيث يعرق الفلاحون، ومن شوارع القاهرة حيث يعبث المراهقون ويضيعون إمكاناتهم، ومن القنال حيث كان الإنجليز يحرقون الزرع، ومن نيويورك حيث ينشط مكارثى!.. 
وبعد..
إننى لم أقدم لكم صلاح تقديمًا كافيًا، ولكنكم ستعرفونه أكثر من «صباح الخير»!..

محمد كمال عبدالحليم: ابن الحرب الذى عاش من أجل السلام

عام ١٩٤٦ كانت مدافع الحرب قد سكتت.. ولكن سحاب القنبلة الذرية كان يلوث الأرض والبحار، وينتشر فى الفضاء.
عام ١٩٤٦.. كانت مصر تغلى بالثورة على الاستعمار وأعوانه، والاستعمار وأعوانه يفتكون بالشعب ويلقون بالطلبة الثائرين من فوق كوبرى عباس إلى النيل.
عام ١٩٤٦.. كان صلاح طالبًا فى المنصورة الثانوية، والمنصورة ثائرة تحتج على مذبحة كوبرى عباس.. وسقط شهيد، ووقف يرثى الشهيد.
«كفكفت دمعى فلم يبق سوى الجلد
ليت المراثى تعيد المجد للبلد
صبرًا فإنا أُسود عند غضبتنا
من ذا يطيق بقاءً فى فم الأسد»
عام ١٩٤٦.. وكان فى السادسة عشرة، وكانت هذه أولى قصائده.
عام ١٩٥١.. مرت سنوات خمس، قضاها الشاعر فى التحصيل والتفاعل مع الناس واختزان التجارب والأحاسيس.. سنوات خمس، والشعب المصرى يثور على طاغية بعد طاغية، ويُسقط خائنًا بعد خائن.. ثم انفجر الشعب.. وانفجر الشاعر:
«ليام دى عالجسر بيفوت إنجليز أنجاس»
«سايبين بلادهم وجايين يدبحوا فى الناس».
......... 
ثم يواصل الشاعر وهو يخاطب الفلاح:
«لو كنت عايز تعيش فى سلام وحرية
لو كنت عايز تعيش للزرع والميه
لو كنت عايز تعيش وتربى ذرية
قوم طهر البر بالخنجر وبالمدفع
من جنس دودة إنجليزى فى أرض مصرية».
كان مطلع هذه القصيدة:
«القمح زى الدهب بينادى شرشرتك»

 


وثار الشاعر على نفسه..! فالفلاحون شىء وعصابة الإقطاعيين شىء آخر، فهؤلاء يقفون مع الاستعمار ويستعبدون الفلاحين.. الملايين.. لا.. وصاح الشاعر صيحة الوعى بالطبقات:
«القمح مش زى الدهب
القمح زى الفلاحين
عيدان نحيلة جدرها بياكل فى طين
زى إسماعين
......... 
أما اللى فى القصر الكبير»
 


وظل الشاعر مرتبطًا بالشعب.. واتسعت رقعة هذا الشعب.. وقصيدته «دموع ورا البرقع»- وهى قصة عامل مرفوت- من أروع قصائده، وتمتاز ببناء فنى مركب من صور حية نامية متكاملة، فى خطوط حادة وألوان قوية.
وظل الشاعر مرتبطًا بالواقع.. واتسعت رقعة هذا الواقع كذلك- فهو فى قصيدته «الزباين» يحول التجربة البسيطة اليومية، تجربة الوقوف أمام بائع عصير القصب، إلى صورة مجسمة رائعة للرجل الذى يعصر ويبيع، والزباين الذين يشترون، والأعواد التى تتحول إلى «تفل»، ويدفعك إلى أن تخلق شيئًا جديدًا من مجموع هذه الأشياء..
يدفعك إلى أن تصعد إلى قمة لم يصعدها هو ولم يصل إليها هو لا فى «دموع ورا البرقع» ولا فى «الزباين»، ولكنه اكتفى بأن حملك إلى آخر الطريق، حيث تشارف القمة، ثم تركك لتواصل السير وحدك.. إلى هذه القمة..

ثم اتسع الأفق أمام الشاعر.. ولم تعد مصر وحدها النطاق الذى يحس ويعمل فيه، فقضية مصر، وحرية مصر وسلامها ورخاؤها، جزء من كفاح الشعوب.
وخرج الشاعر من الحدود الجامدة المتعصبة للقومية، وصور لنا فى «لاجئ»، مأساة فلسطين، وفى «روزنبرج» انفعاله عندما أعدم دعاة الحرب فى أمريكا، شهيدى السلام روزنبرج وزوجته إيتل.. وهو فى هاتين القصيدتين يأخذنا معه إلى القمة.. فهو يخاطب فى الأولى زميله الشاعر الفلسطينى معين، فيقول:
«اصرخ فى شعبك وقول له
ساعة خلاصك قريبة
انهض وكافح وطهر
البرتقان راح يزهر».
وفىالثانية ينتقل بنا من الكرسى الكهربائى.
«للسنابل والمناجل والزهور
......... 
والسما حا يسدها جيش الحمام
فوق أراضى مصر وجبال فيتنام
وف أمريكا نفسها والناس تقول
إن روزنبرج عايش على طول»
ولكنه فى هذه المرة يأخذنا إلى قمة فكرية، عبر طريق من الأفكار، وجهد قليل فى التعبير.

ثم قدم لنا الشاعر فى «كلمة سلام» شارلى شابلن.. وعمد فى هذه القصيدة إلى أسلوب شعبى فيه حكاية، وكان فيها أقدر على إقامة بناء فنى للقصيدة، كحياة شارلى ذاتها، فيه بدء وفيه استمرار وفيه كهولة، وفيه القمة.. وفيه خلال كل ذلك شخصية واضحة، ضاحكة مضحكة، باكية مبكية معًا، ومكافحة دائمًا من أجل السلام.. هى «شارلى شابلن».
وهكذا أصبح شاعرًا قوميًا وشاعرًا عالميًا فى نفس الوقت، فهو قومى إلى الحد الذى لا يتناقض مع إنسانيته، وهو عالمى دون أن يتجرد من قوميته أو يهرب منها أو يزدريها.. ولعل هذا الميدان الفسيح الذى تمترج فيه الشعبية بالإنسانية العالمية، هو الذى جعله يختار العامية الشعبية أداة للتعبير.. وهو لم يرفض الفصحى عن عمد، وهو لم يتكلف العامية تطبيقًا لنظرية من النظريات، ولكنه اختارها لأنها أقرب إلى أداء أفكاره الشعبية، ولأنها أطوع وأكثر مرونة وأقرب إلى فهم الجماهير الشعبية.
والشىء الذى تكلفه والذى تعمده والذى ركز عليه جهوده، هو أن يطور هذه العامية لتعبر عن هذه المادة الجديدة عليها... فهو شاعر يؤمن برسالة، ويأخذ بفلسفة، ويعيش حياة واسعة ويتفاعل مع جماهير عريضة، ويغوص إلى أعماق أحاسيسها الجماعية، كما يستبطن أعماقه هو، ولهذا كان عليه أن يأخذ اللغة العامية ببعض الجهد، وبعض الخلق، لتكون على غير ما أراده لها المتعصبون للغة الفصحى لتكون أداة للتعبير الفنى الجماعى والفردى، ولِتعبر عن الفكرة الواعية المتطورة.
وهو فى ذلك يلتقى أولئك الذين يخوضون نفس الميادين باللغة الفصحى، يجهدون أنفسهم لتبسيطها وتوسيعها والخروج بها من حدودها الجامدة التى ترفض التطور.
وهم فى ذلك يخلقون معًا لغة جديدة أو حدودًا جديدة للغة ليس فيها إسفاف وليس فها تقعر، إنما هى جهود مخلصة لتخليص اللغة من تسلط الرجعية والاستعمار والجهل.
ولشعر صلاح ميزة أخرى من ناحية الشكل، فهو لا يلتزم القافية، وهو لا محافظ على البحر كاملًا بل يجتزئه. إنما هى تفعيلات مطردة مختلفة فى عددها تحكمها موسيقى لا تحد من اطراد ولا تعوق تلوين الصورة كما يحدث أحيانًا للذين يلتزمون البحر الكامل، وكما يحدث للذين يلتزمون قافية واحدة.
ولشعر صلاح ميزة ثالثة من ناحية الشكل، هى أنه لا يعالج الشعر حسبما ينفعل به، وإنما يبنيه بناءً متتاليًا متداخلًا متحركًا إلى نهاية.. وإن كان لا يهتم أحيانًا بهذه النهاية.
ومع ذلك، وهو إن لم يلتزم فى قصيدة من قصائده السير حتى النهاية إلا أن مجموع شعره يعبر عن موقف واضح من قضية الشعب وقضية السلام العالمى.
ولعل خصائص شعره تبدو مكتملة فى قصيدة «بكرة أجمل م النهارده» ومجموع شعره يسير إلى قمته فى هذه القصيدة. فهو فى عاميته الجميلة البسيطة، الغنية، ودون أن يلتزم البحر الكامل يصور قصة الحياة والتطور..

«والزمن فات.. فات.. سنين
تحبل النسوان وتولد..
ملايين 
والغيطان..
ترمى غلة وفول تلول فى كل رمية
ترمى توم وخيار وبامية
والشجر يطرح جوافة وبرتقان
والعنب تحت الورق لا خضر يعنقد
والبلح فوق النخيل يظهر ويعقد
لما تبقى الشمس حامية
والزمن فات.. فات.. سنين
السنة تسحب سنة
لما حصلنى أنا...».
وكم كنت أود أن أنقل أكثر أجزاء هذه القصيدة.. كم كنت أريد أن أسجل هنا له هذه المعجزة التى حققها فى العامية، عندما جزأ الزمان إلى لحظات خلق ونمو، وصور هذه اللحظات مركزة كأنها عدسة سينمائية تسجل تقدم الحياة.
إن الزمن يتدفق فى الحقول.. ومع العمال فى الشوارع.. ويتشكل بنتًا عسلية العينين، تغسل بيديها القلب الجريح.. «والقميص والهدمتين».. أو ولدًا أسطوريًا لا يهزم.. والزمن يتحول إلى شعب كبير.. والشعب يؤثر بدوره فى الزمن.
والشاعر لا يقف ليراقب الزمن وهو يسير، وإنما يسير فيه مع السائرين فى المظاهرة الإنسانية الكبرى، فى حلم كبير، ولكنه حلم له أرجل يقف بها على أرض صلبة من الواقع الذى حققته الإنسانية.


والزمن يسير.. والشاعر يسير.. ويكافح..
ويتقبل الوردة الحمراء من بنت صغيرة، ويقول فى هدوء وثقة وتفاؤل «بكرة أجمل م النهارده».
ولعل التفاعل الكامل المتفائل بين الشاعر والزمن، هو الذى حقق التفاعل الكامل بين الموضوع والشكل فى هذه القصيدة، فى وحدة نامية سائرة إلى الغد الذى هو أجمل من اليوم.

وهكذا يطلق الشاعر «كلمة سلام» كلمة بيضاء، كلمة جديدة فى الشعر الشعبى، ودعامة من دعامات الحركة الأدبية الشعبية، وهو لا يسير وحده، وإنما يسير معه كل الفنانين المصريين الذين يؤمنون ويعملون لتحرير بلادهم وإسعادها ولسلام العالم.
وهو إن كان ينبع من أشعار بير - التى كانت خطوة طيبة فى تطوير العامية وفى البناء الفنى الشعبى- وينبع من كثيرين من أصحاب التراث الذى نعتز به، وإن كان يسير مع فؤاد حداد ساعدًا فى ساعد، وصرخة مع صرخة، ويتأثر به، ويسير مع كثيرين من أصحاب الموقف الجديد من الشعب ومن الشعر.. إلا أنه يتفاعل معهم ويؤثر بدوره فيهم، بهذه البساطة وهذا العمق.. وهذا الموضوع الواسع العريض «كلمة سلام».

ولن أتساءل أين كانت هذه الأشعار.. ولماذا لم تنشر واحدة واحدة، ولماذا لا تتسع لها دور النشر المتعددة لتخرج للناس الذين كتبت من أجلهم، فيكتمل خلقها الفنى.
ولماذا يروج الأدب الرخيص الذى يخدر عواطف الثورة والوطنية والسلام فى الشعب، ويرتكب الجرائم فى حق الشعوب الأخرى.. لن أتساءل.. فهى المحنة التى واجهت وما زالت تواجه الفنانين الثائرين ويكفى أننا أصبحنا قادرين على إطلاق هذا الصوت، فخورين، وعزاؤنا أنه صوت شاعر لم يتم بعد عامه الخامس بعد العشرين يسير فى أول الطريق، ولكن بقوة، لأنه يعرف الطريق.

لقد ولد صلاح سنة ٣٠ فى أحضان الأزمة العالمية وبين يدى عالم يحضر للحرب وكانت مصر المحتلة تعانى أقسى عهود الإرهاب والطغيان.
وحين مشى سنة ٣٦ كانت الحرب هى الأخرى قد مشت على قدمين استعماريتين فاشيتين إحداهما إيطالية فى الحبشة، والثانية يابانية فى الصين.. وكانت قبضة الاستعمار قد تمكنت من رقبة مصر فى معاهدة الشرف والاستقلال!
وحين اتسعت خطواته وتفتحت مداركه وبلغ العاشرة كانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت..
وأكلت الحرب صباه وشبابه، ولونت ربيعه بلون قاتم، وانتهت الحرب وهو لم يزل فى الربيع.
ولكن الحرب حين انتهت تركت وراءها أسباب الحرب وخطر الحرب من جديد. والفاشية التى هزمت تركت وراءها الإمبريالية الأمريكية وأعوانها ليحاولوا بث الفاشية من جديد.
وكان وطن الشاعر لا يزال محتلًا.. ولكن وطن الشاعر كان يكافح الاستعمار ويرفض مشاريعه العدوانية التى يقدمها فى شكل أحلاف عسكرية، واندفع الشاعر مع الفنانين الوطنيين ومع الشعب يقدم فى هذه المعركة المقدسة جهده وحياته وشعره «كلمة سلام».
حتى لا تظل سحابة القنبلة الذرية تلون حياته بلون قاتم.. حتى لا يعصف خطر الحرب بربيعه.. حتى لا تعصف الحرب بحياته وحياة الآخرين.. وحتى يرى مع الناس البسطاء.. مع الملايين، ومع الأطفال الذين سيولدون.. الربيع، ربيع الإنسانية.. عندما يسود السلام.