الإثنين 06 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فى حديث تليفزيونى نادر وغير مكتمل.. عندما قال يحيى حقى: أنا سعيد إن مصر فيها صلاح جاهين

حرف

فى عام 1968، كان الشاعر الكبير فاروق شوشة يقدم برنامجه «شريط الذكريات» على شاشة التليفزيون المصرى، فى كل حلقة كان يستضيف واحدًا من كبار عالم الفكر والأدب والثقافة، وبينما كان يعد حلقته مع الأديب الكبير يحيى حقى، وجده يطلب منه أن يكون الفنان متعدد المواهب صلاح جاهين ثالثهما فى الحلقة. 

فى مقاله بجريدة الأهرام فى 3 يونيو 2001، كشف فاروق شوشة عن كواليس هذه الحلقة. 

يقول: حين دعوت الأديب الكبير يحيى حقى ليكون ضيفًا فى إحدى حلقات السهرة التليفزيونية «شريط الذكريات»، كانت المفاجأة فى إصرار يحيى حقى على أن يكون صلاح جاهين ضيفه فى هذه السهرة، وأن أترك لهما الكاميرا والميكروفون ليتحاورا معًا دون حاجة إلى تدخل منى أو من غيرى، وهو ما حدث بالفعل، حيث تبادلا موقف المذيع والضيف، كل منهما يسأل، وكل منهما يجيب، فى فقرة تعد كنزًا من كنوز التليفزيون النادرة. 

كان ما طلبه يحيى حقى غريبًا، ما جعل فاروق شوشة يبحث وراء دوافعه. 

ولأنه لم يكن يمتلك يقينًا يفسر ما جرى، فقد اكتفى بطرح التساؤلات، فهل فعل يحيى حقى ذلك واستجاب صلاح جاهين؛ لأن لدى كلًا منهما رغبة فى أن يفضى إلى الآخر دون عائق؟، وهل كان يرى كل منهما فى الآخر مرآة نفسه وصدى لاهتزاز عقله ووجدانه، فلم يشأ للمرآة أن تعكس غير ذاته، ولا للصدى أن يضيع فى تلافيف المداخلات والمقاطعات؟ 

لم يعثر فاروق شوشة على إجابات لأسئلته، لكنه وبعد أن انتهى الحوار بين حقى وجاهين، أدرك أن هناك سرًا يجمع بينهما، وضع يده على حالة الاهتمام الأسطورية التى كان يبديها يحيى تجاه صلاح، فقد كان هو أول من بشّر برباعيات جاهين الشهيرة، ثم بشّر بكل ما كان يقدمه الفنان الذى كان يحلو لمن يحيطون به أن يقولون عنه: سبع صنايع.. والبخت ساطع. 

بعد أن أنهى شوشة حواره مع يحيى حقى، وكما سبق واتفقا، دخل صلاح جاهين عليهما فى سهرتهما التليفزيونية، بعد أن قال شوشة: أعتقد أنه حان وقت جلوسنا مع الشاعر الكبير الفنان صلاح جاهين الذى طلبت استضافته فى هذه السهرة. 

خرج فاروق شوشة من الكادر التليفزيونى تمامًا، وبدأ الحوار بين يحيى حقى وصلاح جاهين ينساب بعزوبة وعفوية شديدة، وهنا ننقله لكم كما جرى تمامًا، لا نتدخل فيه، فهو وثيقة مهمة من وثائق حياتنا الثقافية والفكرية. 

يحيى: أهلًا وسهلًا.

جاهين: أهلًا بك يا فندم.

يحيى: يعنى لازم ما نتقابلش إلا فى بروجرام تليفزيون، وأنت تعلم كم أحبك، وأنا يوم لا أجد رسمك فى الأهرام كأنى مش عايش اليوم ده، كلامى مش تبادل ثناء، مش عاوز أمدح فيك عشان تمدح فيا، ولكن ثق أننى أريد أن أشهد لك أنك تعد من أبرع رسامى الكاريكاتير فى العالم، لأننى تتبعت رسم الكاريكاتير فى تركيا وفرنسا وإنجلترا، وأرى خطك فى رسم الشخصيات شيئًا مدهشًا، وتشاركنى هذا الرأى، أيضًا، زوجتى الفرنسية. 

فأنا الحقيقة سعيد جدًا أن مصر فيها صلاح جاهين، وساعات أسأل نفسى وأنا أفكر فيك: هل الفنان له سمة جسمانية؟، هل تستطيع فى الشارع وأنت ماشى أن تقول: الله.. الجدع ده باين عليه فنان، أنا أقول ليس فى مصر شخص ينطبق عليه هذا الوصف إلا صلاح جاهين، سواء كان وزنه ١٠٠ كيلو أو ٧٧. 

والحقيقة أنت تمثل انبعاث الفن وبهجة الفن عندنا فى مصر. 

أريد يا صلاح أن أسألك فى مسألة مهمة جدًا تتعلق بالكاريكاتير، أولًا: هل تتبعت نشأة الكاريكاتير فى مصر؟، يعنى تذكر الجماعة الأتراك، وصاروخان، والأمريكان تيس، والجماعة دول؟ 

جاهين: أذكر.. وأذكر كمان بعض الصحف اللى ظهرت فى القرن التاسع عشر. 

يحيى: كان أبوالنضارة.. والجماعة دول.

جاهين: كانوا بيسترسموا بعض الرسامين فى باريس، وكان الواحد بيشوف تقريبًا نفس الرسام فى مجلة فرنسية ويلاقى برضه نفس الخطوط. 

يحيى: لا.. أقصد جوه مصر.

جاهين: ما هو الجماعة دول وصاروخان برضه كانوا مش مصريين، وكانوا ناس بيعرفوا يرسموا، فلما ظهرت حاجة إلى الرسوم الكاريكاتورية، قالوا: مين هنا يعرف يرسم؟، فقالوا: فيه الراجل ده والراجل ده هاتوهم، أنا عايزك ترسم لى فلان باشا بيقول لفلان باشا كذا.

يحيى: حسن يس له شعر فى رجليه وحاجة زى كده، يعنى أنا بحثت الحقيقة إن الكاريكاتير السياسى ماشى بصعوبة شوية، لكن ما تلكأش كتير، يعنى الزعماء يمكن زعلوا فى الأول شوية وبعدين فى الآخر خدوها قضية سهلة، وهذا يدل على طبيعة كويسة جدًا. 

فى الآخر أنا أريد أن أسألك بقى، أنا اتكلمت عن ثورة ١٩ وإنها فجرت الشخصية المصرية فى الأدب فى المدرسة الحديثة، وفى الفن فى مختار، وفى الموسيقى، أنا مليش دعوة بأدوار السيد درويش ومسرحياته، إنما أنا أريد حقيقة فى بعض أحكام تُطلق هكذا، وتؤخذ كأنها قضية مسلم بها وهى لا تستحق مثل هذا التسليم، من ذلك قولهم إن أغانى الطوائف بتاعة سيد درويش بتاعة الشيالين والسقايين، وإحنا يا فندم تجار العجم وإحنا الأبوكاتية، كل هذه الأغانى التى اندلعت فى شوارع مصر زى الحريق، أنا حضرتها لأن أنا مولود سنة خمسة، فحضرتها فى صالة كباريه كانت بترقص فيها بت اسمها دينا، وكشكش بيه واقف فى المسرح، ويدخلوا عليه وفود، مين دول؟ وفود الشيالين، ومين دول؟ الملوك البرابرة، وهكذا.. فالجو جو مرح وانبساط.

ليست هناك وطنية ولا خطب ولا مواعظ، بل بالعكس، سيد درويش فى هذه الأغانى أراد أن يداعب هذه الطوائف مداعبة ظريفة ويضحك وياهم، والعجيب أن هذه المداعبة لم تتعدَ أبدًا إلى حد أن تقول إنها جارحة، بل بالعكس، أصحاب هذه الطوائف حينما شعروا بأن الذى يحدثهم رجل يحبهم، قبلوا هذه الأغانى وهم نفسهم يمكن، ما رأيك فى هذا؟ 

جاهين: ده كلام مظبوط، وأنا متهيألى برضه إن فيها بعض نواحى سياسية، لأن الجو العام فى ذلك الوقت كان جو سياسى كان جو مسيس، فاللى ما كانش يتكلم فى السياسة كان يبقى ناقصه حاجة، ولذلك كانوا دايمًا يشيروا إلى بعض القضايا زى الصناعة الوطنية ورأس المال الوطنى، وهكذا يعنى، كانوا بيحسوا إنهم لما يتكلموا عن القلل القناوى أو الصعايدة، وهكذا يعنى، كانوا إذا ما جابوش قضية اجتماعية أو كان يبقى العمل ناقص.

يحيى: أيوه.. إلا إذا كنت ترى أن أسلوب الأغنية يتحول إلى نوع من الحماس؟ 

جاهين: لأ.. ما هو ده الظرف، والحقيقة ثورة ١٩ كانت ثورة شعبية، وكانت تعتمد حتى فى أغانيها الوطنية على الروح الشعبية، يعنى مثلًا حتى الواحد لما يشوف بلادى بلادى اللى هى قمة ثورة ١٩، يجد فيها حاجة كده شرقية شعبية موجودة، يعنى كأن الناس فى قعدة من القعدات بيغنوا بطبيعتهم يعنى، مش مارش عسكرى يعنى. 

يحيى: ويا عزيز عينى.. أنا بدى أروح بلدى 

جاهين: هى كانت الحقيقة فيها الجانب الشعبى وفيها الجانب الوطنى. 

يحيى: لكن ألا ترى أننا نركز أكثر من اللازم على الجانب الوطنى من قبيل الاعتدال، يعنى المفروض إظهار جانبى الصورة، أيضًا نذكر أن هذه دعابة، وأن هذه مضاحكة ومباسطة لهذه الطوائف. 

جاهين: صحيح.. يعنى هى فعلًا مداعبة ومباسطة وفيها روح واقعية طبعًا كبيرة جدًا.

يحيى: حتى يعنى لما تسمع أغنية «إحنا أفندم تجار الأعاجم»، ده جزء كأنك قاعد مع عجم، والبرابرة كأنك قاعد ويا برابرة، والخواجات حتى الأغانى الأخرى، هو طبعًا فضل السيد درويش إنه نقل الموسيقى والتلحين من التطريب إلى الوصف والتعبير، يعنى أغنيته كوكايين يا مناخيرى، ومش عارف الحاجات دى، كلها فيها وصف لحالة الراجل اللى بيشرب الكوكايين، وحتى فى بعض أغانيه يقول لك: إيه من زمان، تبص تلاقى مد فى هذه الكلمة، فهو أحال التلحين من التطريب إلى الوصف.

جاهين: اسمح لى سيادتك يعنى، إنه هو كان المسرح فى الوقت ده، كان تشخيص، يعنى كان الممثل كويس، يقولك تعرف تعمل نفسك شامى، تعرف تعمل نفسك تركى، تعرف تعمل لى نفسك مش عارف إيه مغربى، حتى بيقولوا إن عبدالله النديم لما كان هارب، أعانه فن التمثيل اللى هو كان بدأ به على التنكر، لأنه كان يستطيع أن يقلد لهجات ناس من مناطق مختلفة، فكان يستطيع أن يتقمص شخصياتهم، فهو الحقيقة يعنى برضه الواحد بيقدر يلمح فى أغانى سيد درويش حتة التشخيص القديم.. التشخيص القديم المصرى اللى هو فيه تقمص لشخصيات من مناطق مختلفة. 

يحيى: عاوز أكلمك يا أستاذ صلاح على اتنين كانوا بيكتبوا الأغانى اللى نقدر نقول عليها شعبية، هو الغريب إن هما لا يمتان إلى الأصل المصرى مية المية. 

بديع خيرى تركى، بيرم التونسى تونسى، هل أنت تتأمل هذا؟، يعنى بيرم نشأ فى إسكندرية كأحد أبناء الإسكندرية، وبديع أيضًا نشأ فى القاهرة كأحد أبناء القاهرة، لكن على الأقل الانتساب فى عرق آخر، أنا بتأمل كلام بليغ خيرى، وأجده مثلًا ظاهرة غريبة جدًا، وهى إن الشعوب الطارئة على الشعب المصرى تستظرف وتستلطف بعض تعابير شعبية لا تسمعها إلا فى الحوارى والأزقة، زى «أكمنه» و«كدهون»، هذه الكلمات تستلفت نظر الواحد منهم ويستطعمها ويحب يكررها. 

وأنا أجد أن بديع وقع فى هذا، وإنه أدخل فى أغانيه مثل هذه التعبيرات، خصوصًا كمان اختيار بعض الأسامى، لذلك أنا عاوز رأيك فى كلمة مثلًا «شفتى بتاكلنى»، قال لى هتسلم على خدك، أو كلمة فاكر وإيديا تحت بطاطى، أنا لا أظن أن فلاحة تقدر تقول كلمة زى دى، إنما هو اخترع هذا التعبير للتندر بأن اللغة العامية فيها تعبيرات حلوة جدًا لا يقدر عليها الراجل التركى.

جاهين: لأ.. بس الفلاح هيقول لك وخده بالباط. 

يحيى: هو يقصد الفلاحة إنها خدته بيضة، دى بتقول إيديا تحت بطاطاه مش خدته بالباط. 

جاهين: يعنى هو كان يقصد إن هو يعمل مشهد ساخن شوية.

يحيى: مفهوم، لكن يعنى اختيار مثل هذه الألفاظ العامية الصميمة عند بديع خيرى. 

جاهين: طبعًا هو كان عنده آلاف الاختيارات يوميًا يعنى، فبيختار بعض اختيارات بتكون مظبوطة، وبعض الاختيارات بتكون يعنى مبالغ فيها شوية. 

انتهى الحوار المتاح بين يحيى حقى وصلاح جاهين عند هذا الحد، وقد تلمح فيه حالة مزاجية رائقة جدًا، فقد نسيا الكاميرات والميكروفون، وجلسا يتحدثان وكأنهما يجلسان على مقهى بلدى، لا يعوق تفقدهما شىء، رغم أنها كانت تقريبًا المرة الأولى التى يجلسان فيها وجهًا لوجه.