الأحد 05 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أسامة ريان يكتب: مقامات الغضب.. البحث عن الخلاص بالكتابة

حرف

- لم يكن ممكنًا المرور على هذا النص بخفة لعمق التناول والتأكيد على مقومات الفعل الثورى

- فى «المقامات» تقود الفتاة الطموحة «أروى» مجريات أحداث «الغضب» فى النص بما تتمتع به من ثقافة عالمية

ربما كان لدقة ورهافة «العارفين» ببواطن الأمور النصيب الأوفر فى اختيار الأديبة صفاء النجار مفردة «مقامات» لتتصدر عنوان روايتها فى تعبيرها عن غضبة عامة، تؤصل هنا لجذورها، وإن كان الغالب عليها خصوصية الشخوص، إلا أنها تشير بدقة إلى تضافر حالة الرفض المؤدى إلى الوصف الشائع «ثورة»، بالرغم من رفض موروثنا لهذه «الحالة» باعتبارها خروجًا على «الحاكم»، لذلك نجد عندنا مفردات مقابلة مثل «فورة» وأحيانا «هوجة»!

لم يكن ممكنًا المرور على هذا النص بخفة، لعمق التناول والتأكيد على مقومات الفعل الثورى، فهو ليس اقتصاديًا قمعيًا فقط «كما بدا فى ثورات تاريخية»، فللطبقات المختلفة فى المجتمع غضباتها أيضًا. ولعل لارا «لاريسا» عند زيفاجو/ باسترناك- برحلة قطاره البائس- حاضرة بقوة فى وعى الإنسانية، وهنا واقعة حريق القطار الفادحة، بما تحمله من استهانة، تبدو هنا هى المحرك الأهم لوعى ومشاعر الكاتبة، بما استحضرته من ألم، وإن جاءت فى النص متأخرة، فلم تجد من سبيل للخلاص من عذاباته إلا بالكتابة. وأيضًا فى نفس السياق ربما تأتى «ذهب مع الريح» لمارجريت ميتشل معبرة عن حالة ثورية تبدو الطبقية فيها واضحة، فتبدو بطلتها «سكارليت أوهارا» الفتاة الثائرة الطامحة إلى مزيد من الحريات معبرة عن عصر جديد، قيل وقتها إنها معبرة عن الروح الأمريكية فى عالم جديد له مقومات جديدة غريبة عن العالم القديم، وهنا فى «المقامات» تقود الفتاة الطموحة «أروى» مجريات أحداث «الغضب» فى النص، بما تتمتع به من ثقافة عالمية وتعليم راق، بالإضافة إلى مكانة اجتماعية مرموقة عريقة مع توافر وضع اقتصادى مريح «زبدة طبقة وسطى مستقرة». ولعل الكتابة هنا غاضبة- أو هو غضب الكتابة كما يبدو كثيرًا عند «هيمنجواى»، المفارقة هنا أنه أيضًا صحفى/ أديب كمراسل حربى نشط.

يدفع هذا القارئ إلى تساؤل «ما الذى يقلق فتاة مثلها إلى خوض غمار ثورة شعارها: عيش، حرية، عدالة اجتماعية؟» يأتى الرد من تسلسل الأحداث فى النص. فأروى سامر الجميلة المرفهة هى حبيبة جدها لأمها، لواء الشرطة السابق، الوريث الذى لا يرفض لها طلبًا- تعلمت قيادة السيارة بخسارة فادحة- وتطمح دائمًا إلى مزيد من الحريات، وتخوض فى ذلك جدليات بقوة حجتها، المستمدة من ثقافتها بمقولات عميقة تحفظها وتعتنقها، على نمط تحرر غربى بحكم تعليمها الفرنسى ثم الإعلام، نتبين خلال جدلياتها ملامح هذه الأسرة، فالجد يؤمن فى قرارة نفسه بطبقية المجتمع «زمن ملكية وباشاوات»، وينقم على ما حدث نتيجة ثورة يوليو وتأثر عائلته بالتأميم كنهاية لثروات الاقطاع، ما حدا بأهله إلى طلب وساطة المشير عامر لإلحاقه بكلية الشرطة! ويتبين فى حديثه ضيقه من نظام ترقية أمناء الشرطة إلى مصاف الضباط. ونعرف أيضًا عدم رضاه عن زيجة ابنته «سلوى»- أم أروى- من سامر، الذى رأى فيه شابًا نفعيًا، لكن ابنته تعلقت به حتى كان الفشل، ومن هنا عادت سلوى إلى بيت أبيها بأروى وأخيها شريف. يكون للمكان هنا، الفيلا بجاردن سيتى، حيث يقطن سيادة اللواء المتقاعد، دورٌ مهام، حيث تطل على الحديقة العامة للحى الراقى، والتى كانت محل اهتمام المحافظة بالنظافة والرعاية والتجميل، حتى جاء زمن الإهمال- كما يرى سيادته- فأصبحت مرتعًا للأشرار ليلًا، وللمرضى المزمنين من رواد مستشفى قصر العينى نهارًا، حيث ألمح الراوى هنا إلى تزايد أعدادهم فى انتظار كشف أو علاج، مع جود «كشك» مرطبات ينظم هذه الأمور، تديره الحاجة لواحظ- وقد أسهم سيادته فى تعليم ابنتها حتى كلية الطب- تحت عينى وملاحظة سيادته كملمح من ملامح انتقاداته لهذا الزمن، ولعل منه ما تسلل لحفيدته المحبوبة أروى.

اعتمدت الكاتبة فى بناء الرواية تكوين ثنائيات من شخوصها، لتوفر لها سرد التفاصيل بإيجاز من خلال تقسيمة فصول، أسمتها مقامات، ربما بمعنى أحوال؛ لتشمل التغير الذى أصاب شخوصها فى هذه الظروف، دون إغفال تاريخية هذه التغيرات؛ لذلك يتكرر ظهور الشخوص فى كل مقام؛ ليتولى أحدهم السرد لواقعة ما كما يراها متضمنة ظروفه هو، ما يجعل الحال كما لو كانت «أصواتًا»، لكن يحكمها ما يشبه «كود أو شفرة» علمية بالدرجة الأولى «مما يؤكد النزعة العلمية العميقة التى تتمتع بها الشخصية الرئيسية (أروى) فى إلماحاتها إلى معارف حول النبات والجينات» فنجد الثلاثى «أروى، سلوى، يسرى» موجود فى المقامات الأربع بصوته السارد، مع عكس الترتيب فى المقام الأخير «الترحال»- ويضاف إليهم «فادى، والشيخ على قنديل» بصوت سارد فى المقامين الثانى «الحيرة» والثالث «الترقب» مع عكس الترتيب.

ولعلها- الكاتبة- بادرت بوصف أول علاقة للقارئ بالأسرة بـ«مقام المغامرة»؛ لنتعرف عن قرب على هؤلاء الثلاثة وقد تدافعتهم الأحداث المضطربة عبر حيواتهم، فنتجت عنهم وعنها هذه الحالة «الغضبية»، استهلتها بحديث أروى عن حفل زفافها «الصادم» على فادى، وكل ما يشغلها فيه هو «بدانة» هاجمتها فجأة بحيث بدا جسمها شبيهًا بأمها سلوى، متخطية ببساطة ما أثارته من زوابع فى مثل هذه الظرف من احتدام دينى فى جزء كبير منه، لأن فادى ابن مُدرِستها للغة الفرنسية «مدام يولند»، وكانت سلوى متوجسة من هذا التقارب بينهما، إلى أن كانت قصة حب تختلط فيها مشاعر المراهقة بالحداثة الأوروبية السائدة، فتتعلق أروى بفادى، متخطية كل المحاذير «أسهبت الكاتبة هنا فى سرد مرويات من الموروث المسيحى» بدا الجد يسرى متخبطًا وسط اتهامات ابنته سلوى بأنه أفرط فى تدليل أروى حتى تسلطت عليهم جميعًا، ما اضطر وعيه لاستحضار تسلط أمها سلوى أيضًا فى زواجها الفاشل من سامر! وبالمقابل تتذكر سلوى أمها نجاة وكيف كانت نهايتها المؤلمة، بتصور أسطورى تحوطه حكايات زيجتها من يسرى الضابط الشاب، وقد كانت فتاة جميلة ربيبة ضابط مركز الشرطة بمغاغة وقد وجدها بالقرب من الدير الشهير هناك «والقريب إلى مركز الشرطة». يتتبع الجد يسرى ما يدور فى القاهرة من أحداث أججت اضطرابات الثورة من خلال مجلسه عند كشك لواحظ، محاولًا تجاوز ما يطلق حوله من شائعات منذ تقاعده وافتتاح مكتب للمحاماة. 

فى «مقام الحيرة» تندمج أروى، العروس الجديدة التى سكنت فى الطابق العاشر من بناية قريبة إلى فيلا جدها يسرى، فى أحداث الثورة بالانضمام إلى برامج جمعية «مشرع شهيد» التى تسعى لإنصاف أهالى الشهداء، يتبدى هنا حديث عن واقعة اعتصام رابعة وسط تخبطات لاحت فى حياتها الأسرية مع فادى تسودها نقاشات تعمق اختلافات لم تكن ظاهرة، وقد بدا عمق ارتباطه بأمه الرافضة أصلًا لهذه العلاقة. وبالمقابل يتحول رفض سلوى- أيضًا- لهذه العلاقة إلى تذكر لمتاعبها فى تربية أروى وأخيها شريف فى خضم متاعب تسببت فيها حماتها. صاغتها الكاتبة ببراعة فى لقاء سلوى بابنها شريف فى المطعم الهندى لتبثه همومها، بينما هو فى اندفاعة- متكررة- يطلب منها مبلغًا ليقيم مشروعًا يفشل. فتتذكر مكايدات حماتها منذ أول ليلة لها مع عريسها «سامر» ثم استئثارها بوليدها «شريف» بحجج كثيرة أضرت بأمومتها ومشاعرها، بالإضافة إلى تهكم الأسرة هناك على أبيها «ضابط فاسد طردوه من الخدمة»، فكان الطلاق ومغادرتها بورسعيد بشريف وأروى ليقيما فى فيلا أبيها يسرى فى قصر العينى. وتعود أروى ثانية إلى الخلاف الجدلى مع فادى من خلال المقولات الكبرى، ما يعمق الفجوة بينهما ليطل علينا «الشيخ على قنديل» كواعظ تليفزيونى، يبدو أولًا كملاذ دينى باتصالها به على وسائل التواصل، لكن عينها التجريبية تلاحقه. وهنا جاء تعمق الراوى فى تفاصيل حياة الشيخ، فيطلع القارئ على ما يمكن أن تكون عليه «نفسية» الشيخ لاضطلاعه بمهامه، فهو ربيب بيئة قاحلة يسمع أبوه القرآن الكريم وعفاف راضى، تعلم فى الأزهر، وأدرك مبكرًا سطوة زى الأزهر، وتبدو شقيقته المعاقة هى العقدة الأبرز فى حياته، فى محاولات أن تخرج إلى معهد أزهرى قريب، فتتعرض لاعتداءات ومغريات، تثور فى فكره التساؤلات حول الأقدار (وجدوى ختان الإناث!)، ويجد سلواه فى الاقتراب من أستاذه الشيخ المراغى ومكتبته التى أشبعت نهم الشيخ الناشئ، ثم ابنة الشيخ أيضًا- رحاب- فتكون الزيجة مقدمة لنجوميته عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعى، مخترقًا الأوساط «الراقية».

فى «مقام الترقب» يمعن الراوى فى تتبع فكر شخوصه، رعب سلوى من عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام» يذكرها بزواجها الفاشل من سامر- ضد إرادة أبيها- النفعى، وسرعان ما أساء إليها، وفشلها فى احتواء ابنتها أروى، توجس يسرى منذ واقعة «قفز» مواطن من القطار؛ لعدم توفر ثمن التذكرة معه، حتى نقل ملفات أمن الدولة إلى بدروم فيلته؛ لحمايتها، وقد صدق توجسه وقامت ثورة، يزداد رواج برنامج الشيخ على قنديل بتعمقه فى الفلسفات- لم يغفل الراوى هنا تعدد مصادر معرفة الشيخ- مما زاد من محاوراته مع أروى، ثم التعارف وتبدو غيرتها من زوجته، وبينما تنمو علاقتها بالشيخ إلى حد التعلق، يفتر تعلقها بزوجها فادى، وتحيره عبارتها على وسائل التواصل «احترس من الباب متعدد المفاتيح!»، ويتذكر تحذيرات أمه وحلمها بفأر يلتهم قطتها! 

فى «مقام الترحال»- ولعل الراوى هنا يقصد انفصالات أو رحيل- فهنا تبدو حالات تذكر كما لو كانت إرهاصات لحدث جلل قادم. يتوقع يسرى أن تغتاله الجماعة- نمى إلى علمه أن اسمه فى قوائمهم للاغتيال- ويزيد من هذا الشعور حديثه مع حارسه «رافع»- فى جلستهما منفردين على شاطئ المنتجع- حول حادث فقده ساقه، فيلمح رافع إلى أنه ربما يكون عقابًا إلهيًا، مقابل اشتراكه أيام خدمته فى تعذيب معتقلين.

يتكثف إحساس يسرى بروح نجاة حوله، فيقرر زيارة الدير، حيث التقاها لأول مرة، وعقب مكالمة مع صديقه الأنبا باسيليوس «المهندس سامى زميل دراسته» حول أحوال تأمين الكنائس، يطمئن للزيارة، تحلق روح نجاة حوله تصطحبه إلى السماء مع التفجير الهائل للحافلة خارج الدير. 

تأتى واقعة اغتيال الجد يسرى كذروة من ذرى تخبط الثورة وتصاعد حالة هلع مجتمعى- مع حادثة احتراق القطار- فيتداعى سيل من ذكريات سلوى، بينما يوارون جثمان الجد الثرى، وكان قد أوصى بتحويل الفيلا إلى دار للأيتام ومركز ثقافى، تتذكر أمها نجاة وعلاقتهما، مقارنة بعلاقة أروى بها، وتتساءل هل ثمة تشابه؟ فتظل حكاية ميل أروى لفادى، ثم تخبطها تجاه الشيخ هما مصدر الخلاف، والآن قد ذهب من كان يحكم بينهما! أما أروى فيضاعف ألم فقد جدها من شعورها المؤلم- تشرح كيفية الشعور العصبى بالألم- الذى لا تنساه من مشهد الأم فى ساحة محطة القطارات ليلة حادث الحريق المروع، هذه الأم التى كانت تصرخ فرحة لموت ابنها المتألم من الحروق، لأنه «أخيرًا ارتاح» . 

يأتى مشهد دخول أروى إلى شقتها بعد هذا اليوم المضنى، لتجد حقائب فادى فى المدخل، يخبرها برحيله إلى الدير، فتلمع فى رأسها «بحس مقارن» طبيعة علاقتهما المنتهية ببرودها، بينما يتأهب الشيخ على للسفر إلى لندن «لاستكمال دراساته !»، تتداعى إلى ذهنها حكاية الذئب فى أقصوصة «ذات الرداء الأحمر»، لا يرضيها إلا فادى- الصديق ستكتب له.