المفكر المغربي سعيد بنسعيد العلوى يكتب: تفكيك الإسلام السياسى
- دولة «الإسلام السياسى» تجاهر بمعاداة الدولة الحديثة نظمًا ومؤسّسات وتقول وتكرّر القول: إن ماهيّة الدولة التى تتوق إلى إقامة صرحها تنسف مبدأ السيادة من أساسه
- الدول التى تنعت الدولة فيها نفسها بالبلد الإسلامى وتصرّح باعتمادها الإسلام دينًا للدولة تكشف عن انتمائها للدولة الحديثة بمكوّناتها المؤسساتيّة كافة وتحرص على تأكيد صفة «الدولة ذات السيادة»
- الدولة التى تقرّر فى دساتيرها أن الشعب مصدر السيادة أو تعلن عن أن السيادة ترجع إلى الأمّة إنّما هى دولة «الطاغوت» فى حكم دعاة دولة «الإسلام السياسى»
- التشريع الفقهى لأحكام الإمامة أمر مستحدث يصحّ القول فيه إنّه ممّا يستدعى اجتهادًا وإعمالًا للعقل الفقهى
- الإمامة عند الشيعة قضيّة تتّصل بجوهر الدين فهى إذًا مسألة اعتقاديّة بالتالى فهى ركن من أركان الدين
- سيد قطب: لا يعرف الإسلام إلا نوعين اثنين من المجتمعات مجتمع إسلامى ومجتمع جاهلى!
- الإسلاميون يرون أن كلّ نظام سياسى موجود أو دولة قائمة فهو «دولة الطاغوت» ما لم تكن «دولة الخلافة» أو سعيًا نحوها
«الدولة الإسلاميّة» هى الصيغة الأكثر مناسبة فى التعبير عن «الإسلام السياسى»: تصوّرًا، وأيديولوجيًا، وحركة.
و«الإسلام السياسى» هو فى المقابل القالب الأمثل الذى تكون «الدولة الإسلامّية» قابلة أن تفرغ فيه، فلا يكون أحد طرفى العبارة «الإسلام السياسى، والدولة الإسلاميّة» ممكنًا إذًا إلا بوجود الآخر، وتحققه.
التفكير فى العلاقة بين الإسلام السياسى، من جانب أوّل، والدولة الإسلاميّة، من جانب ثانٍ، هو ما نسعى إلى الإبانة عنه، وبسط القول فيه، على نحو يبتغى رفع الغموض، وإماطة اللثام عن قضيّة شائكة كثر القول فيها، على أن التماس النظر الصحيح فى المسألة، وتقصّى السبيل التى تسلمنا إلى الوضوح الكافى فى الفهم، أمران يحملان على الإجابة عن السؤالين الطبيعيين والمنطقيين اللذين يفرضهما المقام:
ما الإسلام السياسى؟
وما الدولة الإسلاميّة؟
وسيتبين لنا أن كلا السؤالين يستدعيان إثارة أسئلةٍ أخرى عديدة، يأخذ بعضها برقاب بعض. أسئلة منطقيّة، تكاد تكون تلقائيّة، إذا لم يكن فى الوسع الإجابة عنها، جميعها، على النحو الكافى، أو إذا ظهر أن الأجوبة عنها تبدو متعثرة آنًا، بل وربّما متعذرة آنًا آخر، فإنّ ذلك لا يعفى من بذل الجهد الأقصى فى تحرّى الإجابة الصحيحة عنها، واجتناب الالتباس فى القول فيها، ما وسع الأمر ذلك.
فما «الإسلام السياسى» أوّلًا؟
ربّما سارع البعض إلى القول: إن «الإسلام السياسى» لا يصحّ اعتماده وصفًا موضوعيًّا، أو تعبيرًا محايدًا عن توجّه سياسى، أو عن نظر يعبّر عن اتجاه له فى الواقع أنصار ومؤيّدون، وإنّما هو نعت يطلقه الخصوم، من التيّارات كافة التى تلتقى عند مناصبة العداء لكلّ الذين يقولون بمرجعيّة إسلاميّة ما فى خطابهم السياسى.
وإذا كانت الخلافات بين التيّارات المشار إليها تكون عميقة فى الغالب الأعم من الأحوال، فإنّها تلتقى عند مناهضة ما تقول عنه إنّه «الإسلام السياسى» استشناعًا، أو تهويلًا، أو هما معًا.
وقد يقع الاحتجاج من قبل القائلين إن «الإسلام السياسى» نعت أيديولوجى أكثر ممّا هو تصنيف موضوعى، تتوافر فيه الشروط الدنيا من الموضوعيّة، والروح العلميّة، بما عرفه تاريخ العقائد والفرق الكلاميّة فى الإسلام من منحى مماثل، فالمعتزلة، فى نظر خصومهم من أهل السنّة خاصّة، هم «قدريّة» تارة، وهم يقذفون بنعت «المعطلة» تارة أخرى.
وأهل السنّة، فى أعين أهل العدل والتوحيد، «حشويّة» تارة، و«مشبّهة» تارة أخرى.
والشيعة، كما يصفهم خصومهم من الفرق الإسلاميّة الأخرى المناوئة، «رافضة». وكلّ الذين جرى العرف بتصنيفهم فى عداد «الخوارج» نسبة إلى خروجهم على على بن أبى طالب فيما ارتضاه من التحكيم- وكلمة «الخروج» تقابل المعنى الذى يفيده لفظ «الثورة» فى لغتنا اليوم- يرون فى تسميتهم بالخوارج نوعًا من التحقير، أو الظلم على الأقل.
فعبارة «الإسلام السياسى» هى، قياسًا على ما ذكرنا، تدخل فى باب النعوت والصفات التى يلوّح بها الأعداء والخصوم، ومن ثمّ فالعبارة تكون من باب اللغو الذى لا يعتد به فى الكلام المسئول.
وقد يضيف هؤلاء المعترضون، ويحقّ لهم ذلك، أن الذين يلوّحون بالنعت المشار إليه لا يكتفون فقط بجعل كلّ الذين يشيرون إلى الإسلام، «فى معرض الحديث فى السياسة، أو القول فى الدولة»، فى صعيدٍ واحد، بل إنّهم، فضلًا عن ذلك، يخلطون بين ما يقولون عنه إنه «الإسلام السياسى»، وبين النزعة أو «النزعات» الإسلاموية. والحال أن الأمر لا يكون كذلك، حتى بالنسبة إلى النمذجة التى يأخذون بها.
والحقّ أنّنا قد وجدنا الشأن كذلك فى كتابات العديد من الدارسين الغربيين خاصّة، والحقّ، أيضًا، أن مسألة المرجعيّة الإسلاميّة تحتمل دلالات شتّى، وتستوجب وقفة توضيحيّة ضروريّة. «ومن ثمّ فستظلّ العبارة فى حديثنا موضوع تحفظ فيها، ومن ثمّ جعلناها بين مزدوجتين، ما لم نطمئن إلى ما يبرّر إطلاق النعت المذكور».
إذا ما تصفّحنا الدستور المغربى؛ فنحن نجد أن الوثيقة التشريعيّة المغربيّة العليا تقضى، فى تصدير الدستور، بأنّ المغرب «دولة إسلاميّة ذات سيادة». كما نجد أن الفصل الثالث من الدستور المذكور ينصّ على أن «الإسلام دين الدولة». وليس المغرب ينفرد، من بين البلدان العربيّة، على التنصيص فى القانون الأسمى للدولة على الصفة الإسلاميّة للدولة، ولا على عدّ الإسلام المعين الأعلى الذى تستمدّ منه القوانين.
ومع ذلك فنحن نلاحظ أن الدستور نفسه يؤكّد «فى الفصل السابع» حظر تأسيس الأحزاب السياسيّة على أساس قاعدة دينيّة، أو إثنيّة، أو جهويّة، أو لغويّة؛ إذ أن الفصل المذكور يعدّ أن التأسيس على أساس قاعدة مماثلة يتّصف بالتمييز المرفوض دستوريًا من جانب، كما يعدّه، من جانب آخر، «متنافيًا مع حقوق الإنسان».
ومرّة ثانية نؤكّد أن المغرب لا ينفرد من بين الدول العربيّة «والدول الإسلاميّة غير العربيّة أيضًا» بسلوك هذا المنحى.
ونحن لو اطلعنا على البيانات التى أصدرها الأزهر عن الحريّات العامّة، وعن الدولة المدنيّة، لوجدنا فيها حديثًا صريحًا عن «دولة مدنيّة ذات مرجعيّة إسلاميّة». ودلالة هذا القول الأخير هى القول بانتفاء التعارض بين «الدولة المدنيّة»، «والقصد بها، فى نهاية التحليل، هو الدولة الحديثة، أو الدولة كما يحدّها الفقه الدستورى المعاصر»، وبين المرجعيّة الإسلاميّة لتلك الدولة.
وإذا كان البعض يرى فى هذا القول التباسًا، أو جمعًا لما يتعذّر فيه الجمع، فإنّ فيه- على كلٍ- نفيًا لمقولة «الدولة الإسلاميّة»، وهذه، كما سنتبين ذلك، عماد نظريّة الإسلام السياسى، وماهيّة الدولة فى تلك النظريّة.
لا يكفى، فى الحديث عن الدولة، استحضار كلمة «إسلام»، ولا الحديث عن اعتبار الدين الإسلامى دينًا رسميًّا للدولة حتى نكون فى صلب الحديث عن «الدولة الإسلاميّة» كما يفهمها، أو يتحدّث عنها دعاة «الإسلام السياسى».
فلو أنّا عرضنا المسألة على هذا النحو لارتكبنا، فى التقدير الأدنى، خطأين جسيمين؛ أوّلهما، أن دساتير الدول التى تنعت الدولة فيها نفسها بالبلد الإسلامى، وتصرّح باعتمادها الإسلام دينًا للدولة، تكشف عن انتمائها للدولة الحديثة. بمكوّناتها المؤسساتيّة كافة، وتحرص على تأكيد صفة «الدولة ذات السيادة»، والحال أن دولة «الإسلام السياسى» تجاهر بمعاداة الدولة الحديثة نظمًا، ومؤسّسات، وتقول، وتكرّر القول: إن ماهيّة الدولة التى يتوق «الإسلام السياسى» إلى إقامة صرحها تنسف مبدأ السيادة من أساسه.
وثانى الخطأين الشنيعين هو أن العداء مستحكم بين الدول التى تتحدّث عن المرجعيّة الإسلاميّة، وبين «الدولة الإسلاميّة»، التى تجعل «الإسلام السياسى» هدفًا أساسيًّا لها لإقامتها، وليس يكون ذلك ممكنًا إلا بالإطاحة بالدولة الحديثة «ذات المرجعّية الإسلاميّة»؛ إذ إن هذه الأخيرة فى قاموس «الإسلام السياسى» «دولة الطاغوت»، والهدف الصريح المعلن هو الإطاحة بهذه الدولة.
وهل نحن فى حاجة إلى القول، من جهة ثانية: إن إعلان الحرب على «دولة الإسلام السياسى» من قبل الدولة الإسلاميّة ذات المرجعيّة الإسلاميّة؛ ليس ممّا هو فى حاجة إلى تقديم الدليل عليه؟ قد يكفى فى ذلك أن ننتبه إلى ما تطفح به نشرات الأخبار، وتقارير وزارات الداخليّة فى مختلف بلاد ودول «المرجعيّة الإسلاميّة»، حتى نتبيّن حجم العداء المتبادل بين أنصار «الدولة الإسلاميّة» وبين الدولة «الحديثة»، كما تحضر معنى وتشريعات فى دساتير مختلف البلدان العربيّة والإسلاميّة غير العربيّة أيضًا.
يلزم، إذًا، فى الحديث عن الصلة بين الإسلام وبين «الدولة الإسلاميّة» أن نسلك سبيلًا مغايرًا لما اعتادت جمهرة الدارسين القيام به فى هذا الصدد.
نقصد بهذا القول إنّنا فى حاجة إلى اتباع منهجيّة أكثر صرامة. لسنا ندّعى بهذا أنّنا نسلك طريق المعرفة العلميّة الصحيحة، أو أنّنا لا نخشى الوقوع فى الزلل، فهذا الأمر الأخير يظلّ واردًا دومًا طالما كنّا نقدم على مغامرة الفهم.
ربّما كنّا فى الواقع بصدد تجريب منهج لسنا، حتى الآن، مطمئنين إلى منهج غيره، يكون فى المقاربة أكثر دقة وبُعدًا عن الخلل. والذى يبدو لنا أنّه المنهج الأكثر ملاءمة لما نحن مقبلون عليه من فحص؛ هو أن نجرّب القيام بعمليّة مسحٍ شامل لعيّنة كبيرة من النصوص التى كتبها دعاة «الإسلام السياسى»، أو كانوا يحتكمون إليها.
تسلّمنا القراءة الاستنباطيّة- الاستقرائيّة إلى استخلاص السمات العامّة الأربع الآتية فى خطاب «الإسلام السياسى»:
١- السمة الأولى: المحوريّة، هى التقرير بأنّ الخلافة ليست مؤسّسة سياسيّة وكفى، وليست المؤسّسة العليا التى يوكل إليها إدارة الشأن السياسى فى الإسلام، يتعيّن القول الصريح: إن الخلافة ركن من أركان الدين. والقول إن الخلافة ركن من أركان الدين قول يعنى أن هذه المسألة ترجع إلى العقيدة، وأصول الدين.
ذلك أن ما كان معدودًا فى أركان الدين يُعدّ مما لا يستقيم أمر الدين إلا بوجوده، فإذا كان غائبًا، فلا بدّ من تحققه، والأمّة جمعاء تأثم بذلك الغياب، ينتج عن هذا منطق، وشرع- من جهة نظر دعاة «الإسلام السياسى» طبعًا- «أن إعادة الخلافة إلى الوجود الفعلى واجب، بل فرض عين على كلّ مسلم ذكرًا كان أو أنثى».
٢- السمة الثانية: وهى ملازم منطقى للسمة الأولى، هى التسليم بوجوب العمل بكلّ سبيل من أجل إحياء الخلافة، وإذا لم يكن هناك من سبيل آخر سوى اللجوء إلى العنف، فليكن الأمر كذلك.
٣- من الناحية العمليّة ينتج عن هذا الاعتقاد الأخير أمران اثنان حتميّان، من اجتماعهما ترتسم ملامح السمة الثالثة؛ أوّل الأمرين: هو السعى إلى امتلاك السلطة التنفيذيّة خارجًا عن الطرق السياسيّة الحديثة المشروعة، وثانى الأمرين: معاداة الدولة الحديثة «فلسفة، ومؤسّسات، ونظمًا» والعمل على الإطاحة بها بكلّ السبل الممكنة.
وحيث إن الاختيار الوحيد الموجود هو «الجهاد»، فليكن الأمر كذلك، مع الإقرار بأنَّ الجهاد فرض عين على مجموع أفراد الأمّة، بمن فى ذلك من هم دون سنّ الحلم. والأمران، متى تمعنّا فيهما قليلًا، وجهان لعملة واحدة، فليس يكون أحد وجهى العملة ممكنًا إلا بوجود الوجه الآخر.
٤- السمة الرابعة، وهى من مستلزمات الاعتقاد الصحيح عند دعاة «الإسلام السياسى»، هى القول بتكفير المخالف فى الاعتقاد. فالمبدأ الأسمى عند هؤلاء الأقوام، والقاعدة الذهبيّة التى ترتدّ إليها كلّ القواعد الأخرى، هى تلك التى تقضى بتكفير كلّ من كان مخالفًا فى الاعتقاد بأنّ الخلافة ركن من أركان الدين، فلا يستقيم معنى الدين وأمره إلا بتحققها، ثمّ الاعتقاد بجانب ذلك بوجوب مخالفة الدولة القائمة، ومحاربتها، ما دام قد تبين أنّه لا سبيل إلى إقامة دولة الخلافة إلا بشّن الحرب على الدولة القائمة فى بلاد الإسلام؛ لذلك كان الحال عند دعاة «الإسلام السياسى»، مع اختلاف منازعهم ومشاربهم، هو الأخذ بقسمة ثنائيّة، قوامها:
المؤمنون فى جانب، وغير المؤمنين فى الجانب الآخر. فكلّ من كان غير مؤمن- على اعتقاد دعاة «الإسلام السياسى»- فهو كافر، وهذه عندهم بديهيّة لا تستدعى البرهان عليها، بل إنّها، بحسبانها بديهيّة، لا تحتمل البرهنة عليها.
ولست أجد فى القول فى الفئة أو «الفئات» التى يلزمها حكم التكفير، عند أولئك الدعاة، أفضل من كلام رجل كان يُعدّ، حتى الأمس القريب، أحد شيوخ السلفيّة الجهاديّة، قبل أن يعلن «مراجعة موقفه». نقرأ لهذا الشيخ:
«هم وإن كانوا لم يكفّروا المجتمع جملة، لكنّهم كانوا أسرع الناس إلى تكفير المعين، حتى ما بقى فى هذا المجتمع إلا فئة قليلة يرونها ما زالت على الإسلام. فهم يكفّرون الحاكم؛ لأنّه لا يحكم بما أنزل الله، وتبعًا لذلك يكفّرون كلّ ذوى المناصب الكبرى فى الدولة، وكلّ منتسب لسلك غير مدنى من جند، وشرطة، ودرك، وحرّاس سجون، وغيرهم، فهؤلاء أعوان الطواغيت، وحكمه حكمهم. ويكفّرون القضاة؛ لأنّهم يحكمون بالقوانين الوضعيّة المعارضة لأحكام الله، ويكفّرون كلّ زوار الأضرحة والمزارات؛ لكونهم مشركين لله تعالى فى عبوديته، ويكفّرون تارك الصلاة؛ لأنّ حكمه عندهم، اتفاقًا، الكفر الأكبر، المخرج من الملّة، ويكفّرون نواب البرلمان؛ لأنّهم يشرّعون دون الله، ويكفّرون كلّ من تلفظ بسبِّ الله أو الدين، قصد بذلك أم لم يقصد، ويكفّرون كلّ من لم يكفّر المشركين على رأيهم، أو لم يكفّر اليهود والنصارى، ويكفّرون كلّ من رأوا أنّه استهزأ بسنّة النّبى صلى الله عليه وسلم، كمن سخر باللحية، أو لبس القصير من الثياب، ويكفّرون السحرة ومن رضى بفعلهم، ويكفّرون كلّ من عدّوه مظاهرًا للمشركين، مواليًا لهم، فماذا بقى فى المجتمع بعد هؤلاء؟».
لا يبقى فى المجتمع- بعد من عدَّد الشيخُ- أحدٌ، فذاك- بالضبط- هو ما يقصده دعاة «الإسلام السياسى».
وإذًا فإن صفة الإقصائيين تصح فى حق دعاة الاتجاه الذى نحن بصدد القول فيه، تمامًا كما تصدق على كلّ الذين يقولون بقسمة ثنائيّة يكون فيها كلّ من كان نقيضًا لمنزع الإيمان، كما أسلم به «غيرًا» بالنسبة إلىّ. وبموجب المنطق هذا يكون، داخل المجتمع الإنسانى، كلّ من كان مخالفًا لى ضدّى، وبالتالى عدوًا من تحقّ لى محاربته، فى أضعف الإيمان، خصمًا يتعيّن الاحتراس منه.
السمات الأربع المذكورة أعلاه هى ما يشكّل موجهات خطاب «الإسلام السياسى»، ومن ثمّ يرسم القالب الذى يفرغ فيه ذلك الخطاب. فما الشأن، الآن، فى بنية هذا الخطاب من حيث مكوّناته الذاتيّة؟ وما القول فى العناصر التى تحكم البناء الداخلى لذلك الخطاب؟
ذلك ما نحاول تبينه فى الفقرة الآتية.
كما أسلمتنا قراءة المتن الذى وقفنا عنده إلى استخلاص السمات الأربع المشتركة، التى وقفنا عندها فى الفقرة السابقة، فإنّ استنطاق خطاب المتن نفسه يجعلنا نقول كذلك بوجود ثوابت أربعة فى ذلك الخطاب. ثوابت تحضر فى صورة أزواج مفاهيميّة أربعة، فى كلّ زوج منها يقوم التقابل بين طرفين يُعدّ كلّ منهما نقيضًا للآخر.
والتقابل بين الضدّين المتناقضين هو ما يلقى على الفهمِ الأضواءَ الضروريّة الكاشفة.
نعلم أن المناطقة «والآخذين منهم بالمنهج الجدلى خاصّة» يرون فى التعريف، أو «الحدّ»، منحى أوّلًا هو التعريف بالإيجاب «مثلًا: الماء سائل لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة»، ومنحى ثانيًا هو التعريف بالسلب «الماء غير الخشب، غير النحاس، غير الحجر، غير القلم... إلخ».
وليس التعريف بالسلب بأقلّ أهميّة من التعريف بالإيجاب، لا بل إنّه قد يكون، فى بعض الأحوال السبيل الوحيد الممكن فى المعرفة. ولعلّ الأمر يكون، على العموم، كذلك فى المسائل التى تتصل بالوجود السياسى والاجتماعى للإنسان. ولربما كان التعريف بالسلب يلقى على الفهم من الأضواء ما يعجز التعريف بالإيجاب عن تقديمه للباحث. ذلك أن أكثر المحاولات للتعريف بالإيجاب لا تكشف، فى خاتمة المطاف، إلا عن زيف وخداع مقصود، أو غير مقصود.
الأزواج المفاهيميّة الأربعة التى يسلمنا إليها استنطاق خطاب «الإسلام السياسى»، فى المتن الذى وقفنا عنده، هى:
الإسلام/ الجاهليّة، الولاء/ البراء، الحاكميّة/ السيادة، دولة الخلافة/ دولة الطاغوت. وعند كلّ زوج من الأزواج الأربعة هذه تلزمنا وقفة قصيرة، تتوخّى الإيجاز والتركيز.
الإسلام / الجاهلية:
لا نجد فى مرجعيّات «الإسلام السياسى» قولًا أكثر وضوحًا فى التعبير عن التقابل بين الحدّين «الإسلام/ الجاهليّة» ما كتبه الشيخ سيّد قطب: «نحن، اليوم، فى جاهليّة كالجاهليّة التى عاصرها الإسلام أو أظلم. كلّ ما حولنا جاهليّة: تصوّرات الناس، وعقائدهم، وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير ممّا نحسبه ثقافة إسلاميّة، ومراجع إسلاميّة، وفلسفة إسلاميّة، وتفكيرًا إسلاميًّا... هو كذلك من صنع هذه الجاهليّة».
فهناك الإسلام، وتحديدًا، ما يقصد سيّد قطب أنّه الإسلام، وهناك- فى مقابله- الجاهليّة. كلّ ما ليس إسلامًا على النحو الذى يرتضيه أهل «الإسلام السياسى» فهو، فى كلمة واحدة تشتمل على الكل، جاهليّة.
«لا يعرف الإسلام إلا نوعين اثنين من المجتمعات: مجتمع إسلامى، ومجتمع جاهلى». والشيخ المصرى يستمدّ الفكرة بدوره من شيخه الرّوحى الباكستانى أبى الأعلى المودودى، غير أنّه يذهب بالفكرة بعيدًا لتغدو بذلك مرجعيّة عليا فى أدبيّات «الإسلام السياسى».
والنتيجة العمليّة هى الانتهاء، بالقسمة الثنائيّة، إلى منحى تبسيطى راديكالى، لا يتردّد لحظة واحدة فى إصدار الحكم القاطع بتكفير «الغير» المخالف لما يراه صاحب «معالم فى الطريق»، والسائرون على خطوه من بعده.
ثنائيّة الجاهليّة/ الإسلام زوج مفهومى أوّل ينظّم خطاب «الإسلام السياسى»، ويؤسّس القاعدة الأساس التى تحكم المنطق الذاتى لذلك الخطاب، وتوجّهه.
الولاء / البراء:
القصد بالولاء: موالاة «أهل الإسلام»، والانتصار لهم، وسلوك منهجهم فى الحياة، والأخذ بما يأخذون به من اعتقاد دون تردّد أو تقاعس فى نصرتهم.
أمّا البراء «وهى، كما نلاحظ، كلمة تقع من الأذن العربيّة موقعًا غريبًا نوعًا ما»، فالقصد منه التبرّؤ من «أهل الجاهليّة». يسهب دعاة «الإسلام السياسى» فى تعداد أنواع المنتسبين إلى الجاهليّة ممّن لا يصحّ إسلام إلا بالتبّرؤ منهم، والمجاهرة بمعاداتهم. لا، بل لا يستقيم إسلام المرء إلا متى كان حربًا على «الجاهليّة» وأهلها، حربًا مستعرة لا تبقى ولا تذر.
فالولاء يعنى، فى الوقت ذاته، موالاة «أهل الإسلام» ومعاداة «أهل الجاهليّة»، معاداة لا يكفى فيها الاعتقاد القلبى المضمر، بل يلزم فيها إعلان الحرب على الجاهليّة من حيث إن الحرب- والأوجب عندهم أن نقول: الجهاد- «فريضة غائبة» يتعيّن إحياؤها، وفرض عين يلزم كلّ مسلم ومسلمة.
يمكن القول، فى عبارةٍ أخرى، إن البراء على الوجه الذى يفهمه دعاة التيّار، موضوع الحديث، هو الشرط الضرورى والكافى لتحقيق الولاء على الحقيقة، فلا معنى للولاء إلا بالحرص، كلّ الحرص، على البراء من غير المؤمنين، والولاء شرط الإيمان الصحيح، وركن ركين من أركانه عند هؤلاء القوم.
الحاكمية / السيادة:
هذا هو الزوج المفهومى الثالث، والتقابل فى طرفى الزوج المفهومى، وكما هو الشأن دومًا فى الأزواج المفاهيميّة جميعها، تقابل بين مرجعيتين اثنتين. تقابل بين منظومتين ثقافيتين، لكلّ منهما بنيتها الخاصّة بها، ونظامها الذاتى الذى يتعلّق بها، والمنطق الداخلى الذى يحكمها ويوجّهها، مثلما أن لكلٍ منهما تاريخيتها، وبالتالى أسباب ظهورها وتكوّنها، حتى انتهت إلى ما هى عليه.
يحيل مفهوم «السيادة» على الفكر الفلسفى السياسى الحديث، وعلى الفقه الدستورى المعاصر. هو إذًا مفهوم يرجع إلى الفكر الغربى الحديث، ويتّصل بنشأة وتطوّر المجتمع السياسى الغربى الحديث، وبالتالى فهو أحد تجليّات الحداثة، ونمط من الأنماط التعبيريّة التى سلكتها سيرورة التحديث فى كلٍ من الدولة، والفكر، والمجتمع الغربى.
وأمّا «الحاكميّة»، هذه الكلمة الغريبة الوقع على الأذن العربيّة، فهى، كما يشرحها الباكستانى أبوالأعلى المودودى- المنظّر الأوّل لها، والمرجعيّة العليا المعتمدة عند دعاة «الإسلام السياسى»-فتعنى الأخذ بالقول القرآنى الكريم {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لله} [الأنعَام: ٥٧].
وإذا كان هذا القول، متى حمل على القصد البعيد منه، ممّا لا يجادل فيه أحد من المسلمين، فإنّ الخلاف الجوهرى بين عموم المسلمين وبين دعاة «الإسلام السياسى» يقوم على الرفض الجازم والمطلق من قبل هؤلاء الأخيرين لتعبير مثل:
«السيادة للشعب» أو آخر مثل: «السيادة للأمّة»، وفى الرفض المطلق أن يكون الشعب، أو تكون الأمّة، مصدرًا فى التشريع. وكما أن للولاء/ البراء مقتضياته المنطقيّة والعمليّة- على نحو ما أشرنا إليه أعلاه- فإنّ للحاكميّة مقتضياتها المنطقيّة والعمليّة أيضًا، فهى تعنى، من جانب أوّل، رفض الدولة الحديثة «جملة وتفصيلًا»، وتعنى، من جانب ثانٍ، وجوب إشهار الحرب على تلك الدولة، وكلّ من والاها.
دولة الخلافة / دولة الطاغوت:
قياسًا على القول: كلّ ما ليس «إسلامًا» فهو «جاهليّة»، يصحّ القول «استنادًا إلى المنطق الإقصائى ذاته»: كلّ نظام سياسى موجود، أو دولة قائمة، فهو «دولة الطاغوت» ما لم تكن «دولة الخلافة»، أو سعيًا نحوها. فالدولة التى تقرّر فى دساتيرها أن الشعب مصدر السيادة، أو تعلن عن أن السيادة ترجع إلى الأمّة، إنّما هى دولة «الطاغوت» فى حكم دعاة دولة «الإسلام السياسى».
وكما أن للطاغوت أنماطًا شتّى من الظهور عند أتباع ما نشير إليه من مذهب «فقد يكون حزبًا، أو عقيدة، أو نظامًا فى الحكم، أو مؤسّسات: برلمانًا، مجالس نيابيّة، تنظيمات مدنيّة...»، فإنّ للدولة صورًا شتّى تتجلّى فيها، هى كلّ الصور والتجلّيات الأخرى المناقضة لدولة الخلافة، التى ترسم العلامات التى تكون بموجبها مخالفة لهذه الدولة الأخيرة.
حيث إن الخطوة الأولى، الضروريّة والمنطقيّة، من أجل إقامة دولة الخلافة هى الإطاحة بدولة الطاغوت «أيًّا كانت تجلّيات الطاغوت» فإنّ سلوك سبيل العنف، من أجل ذلك، يظهر فى صورة الاختيار الوحيد الممكن، والنتيجة البعيدة التى ننتهى إليها هى أن الأخذ بهذا السبيل الأخير، استنتاجًا من التسليم بصدق الزوج «الخلافة/الطاغوت» يشكّل ثابتًا بنيويًّا رابعًا، وعنصرًا فاعلًا من العناصر التى تنتظم بموجب العلاقة التى تقوم بينها لتكوين بنية «الإسلام السياسى».
علينا الآن، استكمالًا لما نراه من أجوبة عن أسئلة ضروريّة يقتضيها الفهم الصحيح، أن نجيب عن السؤال التالى: هل فى الإمكان أن ننسب «الإسلام السياسى» «فى ضوء ما وقفنا عليه من سمات مشتركة فى الخطاب، وما تبيّن لنا من ثوابت تحكم ذلك الخطاب» إلى الفكر السياسى فى الإسلام، سواء تعلّق الأمر بأزمنة التأسيس، أو بالحقبة القريبة منّا، تلك التى ننعتها، فى المعتاد، بعصر النهضة؟
ما نقصده بأزمنة التأسيس فى تاريخ الفكر السياسى فى الإسلام؛ هى تلك المراحل التى مرّ بها ذلك الفكر، بدءًا من ظهور الكتب الأولى التى أرّخت للفرق الكلاميّة فى الإسلام، وانتهاء بما جرى العرف على وسمه بكتب النصائح، أو مرايا الأمراء، مرورًا بالمصنّفات الكبرى التى عرضت لقضايا التشريع السياسى الفقهى، دون أن نغفل ذكر مصنّفات امتزجت بالفكر الفلسفى الأفلاطونى- الأرسطى «كما هو الشأن عند الفارابى مثلًا» أو نهمل ذلك المؤلّف الفريد فى الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ونقصد به «مقدّمة ابن خلدون» من حيث إنّه كان للنظر السياسى فى «المقدّمة» مكانة يصعب وصفها فى جملة واحدة.
هى إذًا ثلاثة أصناف كبرى من المؤلّفات التى تنتسب، فى تعبيرات مختلفة، إلى الأدب السياسى فى الإسلام: كتب أصول الدين، وكتب الفقه، وكتب النصائح، أو الأدبيّات السياسيّة الحكميّة.
ليس من موضوعنا، بطبيعة الحال، أن نخوض فى أمر تلك المصنّفات، ولا أن نعرض لتاريخ الفكر السياسى فى الإسلام، ولا أن نغوص فيما أثاره ذلك الفكر من قضايا. غير أن المقام «مقام الجواب عن السؤال المتعلّق بمكانة (الإسلام السياسى) من الفكر السياسى فى الإسلام» يقتضى منا وقفة قصيرة، نشير فيها إلى طبيعة الانشغالات الفكريّة فى كلٍّ من الأصناف الثلاثة التى ذكرنا أعلاه. نحاول ذلك، إذًا، مع مراعاة مبدأى الإيجاز والوضوح فى العبارة.
تعرض كتب أصول الدين «علم الكلام» الإسلاميّة للمسألة السياسيّة فى وجهين:
الوجه الأوّل، إذ تعرض للفرق الكلاميّة جملة: المعتزلة، الخوارج، المرجئة، الشيعة، أهل السنّة، على نحو تعمل فيه على تلخيص آرائها مع التنبيه إلى الفروق التى تقوم بينها ذلك ما نجده، على سبيل التمثيل، لا الحصر، عند الشهرستانى فى «الملل والنحل»، وعند الأشعرى فى «مقالات الإسلاميين»، وعند البغدادى فى «الفرق بين الفرق».
والوجه الثانى، إذ يتناول صاحب الكتاب القضايا الكلاميّة الكبرى: العالم، الله وصفاته، النبوّة...
ليكون الفصل الأخير قولًا فى الإمامة العظمى، أو الخلافة. «ومن المصنّفات التى سلك أصحابها هذا السبيل نذكر، على سبيل التمثيل طبعًا، وليس الحصر، ما فعله عبدالقاهر البغدادى فى «أصول الدين»، وعبدالملك الجوينى -إمام الحرمين- فى «الإرشاد»، وما سلكه أبوحامد الغزالى فى «الاقتصاد فى الاعتقاد».
والواقع أنّ الوجهين معًا يتكاملان. عن الوجه الأوّل نقول: قد يجب التذكير «أو التنبيه بالنسبة إلى جمهرة من القراء» أنّ تصنيف الفرق الكلاميّة على النحو الذى اشتهرت به «معتزلة، سنّة، خوارج، شيعة ...» إنّما مداره اختلاف الرأى فى المسألة السياسيّة المحوريّة، وهى مسألة الإمامة العظمى، أو الخلافة.
غير أن المسألة ليست، دومًا، بالوضوح والبساطة التى نتحدّث بهما اليوم، ذلك أن موضوع الإمامة ظلّ دائمًا متستّرًا خلف ستائر وأقنعة أيديولوجيّة؛ إذا كان أصحابها ينجحون فى اللجوء إليها حينًا، فإنّ التوفيق لم يكن محالفًا لهم فى الأحوال كلّها. ذلك ما عملت على توضيحه فى دراساتى، وأخصّ بالذكر منها كتابى «الخطاب الأشعرى»، حيث يتضح كيف أن المسألة السياسيّة هى العمدة والموجّه فى النظريّة الكلاميّة برمّتها.
وعن الوجه الثانى نقول: إن صاحب التصنيف فى الموضوعات الكلاميّة يبسط القول فى القضيّة الكلاميّة فى فصل يفرده لها.
فى قولٍ وجيز نقول: إن المباحث الأساسيّة التى يعرض لها المتكلّم فى الفصل المتعلّق بالإمامة هى كما يأتى: أوّل القول تساؤل عن الإمامة: أواجبة هى أم غير واجبة؟ وإذا كانت واجبة «والشأن فيها كذلك» فما مدرك وجوبها: ألسمع «النصوص الشرعيّة الواضحة من كتاب أو سنّة» هو أم العقل؟
وثانى الأسئلة:
هل تتقرّر الإمامة عن طريق النصّ على وجود إمام بعينه «وصيّة أو عهد من الرسول عليه السلام»؟ أم أنّها تثبت عن طريق الاختيار، اختيار المسلمين فى كلّ عصر من العصور؟
وثالث الأسئلة: هل يجوز أن يتولّى أمر المسلمين رجل يوجد فى وقته من هو أفضل منه؟ «وفى لغة المتكلمين: هل تجوز إمامة المفضول مع وجود الأفضل؟».
ورابع الأسئلة: هل خلافة الخلفاء الذين تعاقبوا على الخلافة صحيحة على الترتيب الذى تمّت به «أبوبكر، فعمر، فعثمان، فعلى» أم أنّها غير ذلك؟
ثمّ: ما القول فيما حدث بعد مقتل على بن أبى طالب؟
والسؤال الخامس هو: هل تصحّ إمامة أكثر من إمام واحد فى العصر الواحد، وعلى أىّ نحو يكون ذلك مقبولًا؟
لسنا نريد أن نسترسل مع علماء الكلام فى أسئلةٍ أخرى كثيرة تتفرّع عن كلّ سؤال من الأسئلة الخمسة المطروحة، غير أنّنا ننبّه إلى قضيّة كانت موضع خلاف عقائدى جوهرى بين الشيعة «مع موقف أقلّ حدّة وراديكاليّة عند الشيعة الزيديّة، ممّا لا يسمح المقام بالوسع فيه» وهذا من جانب أوّل، وباقى الفرق الكلاميّة من جانب ثانٍ «مع فروق بين هذه الفرق الكلاميّة من معتزلة، وخوارج، ومرجئة، وسنّة».
والقضيّة موضع الخلاف الجوهرى هذا هى الآتية: الإمامة عند الشيعة قضيّة تتّصل بجوهر الدين، فهى إذًا مسألة اعتقاديّة، بالتالى فهى ركن من أركان الدين، أمّا عند باقى الفرق الكلاميّة، فهى ليست كذلك، إذ إنّه لا علاقة للإمامة بجوهر الدّين، هذا مع التسليم بأنّ نصب الإمام واجب، وبأنّ الإمامة واجبة.
تلك، إجمالًا، عناصر القول فى المسألة السياسيّة عند علماء الكلام، وتلك صورة الإمامة فى مصنّفات علم الكلام، أو أصول الدين. فعلى أىّ نحو كانت معالجة المسألة السياسيّة عند الفقهاء؟
يبدأ الفقه السياسى فى الإسلام، من جهة النظر فى مسألة الإمامة، من حيث ما انتهى إليه علم الكلام.
يعنى هذا القول أن التشريع كان هو الهمّ الذى يسكن الفقيه، ويوجّهه. ذلك ما نلمسه، بوضوح تام، منذ الأسطر الأولى من كتاب «الأحكام السلطانيّة» لصاحبه أبى الحسن الماوردى، عمدة المذهب الشافعى فى عصره «كما تنعته كتب الطبقات، ومصنّفات الوفيات»، والمفكّر الأشعرى الذى تبلغ معه النظريّة الأشعريّة أبعد مدى وصلت إليه. يتناول الفصل الأوّل من الفصول العشرين، التى يتكوّن منها الكتاب المذكور، مسألة الإمامة. ومنذ الفقرة الأولى من الكتاب يقطع الماوردى بوجوب نصب الإمام، وبأنّ قضيّة وجود حاكم، أو إمام، تستمدّ منه كلّ السلطات التشريعيّة فى النظام السياسى الإسلامى، مسألة منتهية. وعلى كلٍّ فإنّه ليس من شأن الفقيه أن يخوض فى قضايا جدليّة مجالها علم أصول الدين، حيث تتقرّر كليّات ومبادئ العلوم كلّها، كما يقول أبوحامد الغزالى.
ومن جهة التشريع الفقهى فإنّ الفقيه يثير القضايا ذات الطبيعة الإجرائيّة المباشرة. من ذلك التنبيه إلى أن الإمامة تستوجب أخذ جهتين بعين الاعتبار، لكلّ جهة أحكامها الفقهيّة من الوجوب والمنع، وكذا من حيث الحقوق والواجبات. فأمّا الجهة الأولى، فهى جهة «أهل الاختيار» «المرشّحون لتولى منصب الإمامة العظمى». وأمّا الجهة الثانية، فهى الفئة التى يصحّ لها- نيابة- عن المسلمين جميعًا أن تختار للأمّة إمامًا «ولهذه الجهة الثانية عند الماوردى، بل عند جمهور رجال الفقه السياسى فى الإسلام السنّى، نعت معلوم، فهم (أهل الحلّ والعقد)». والشطر الأخير من التسمية هو نعت للإمامة من حيث مبناها: ذلك أن الإمامة عقد يتمّ إمضاؤه بين طرفين: الطرف الأوّل هو المرشّح لها المتوافر فيه شروطها، والطرف الثانى هم «أهل الحلّ والعقد» الذين «يحلّون» و«يعقدون» «كما تعقد العقدة وتحلّ» نيابة عن أهل الإسلام فى العصر القائم، وفى دار الإسلام على ما هى عليه.
وحيث إن التشريع الفقهى لأحكام الإمامة أمر مستحدث «يصحّ القول فيه: إنّه ممّا يستدعى اجتهادًا وإعمالًا للعقل الفقهى ما دام لم يُعرف له سابق من قبل»، فإنّ الفقيه يعمد إلى القياس على ما يمكن القياس عليه. والفقيه المشرّع يجد أن العقد الأكثر مناسبة للقياس عليه هو عقد النكاح، ولذلك فهو يقيس عليه فى التشريع لأحكام الإمامة، من ذلك، مثلًا، الحكم بأنّ الإمامة تكون لمن كان الناس قد عقدوا له قبل غيره، ووجه القياس هو الآتى: إذا فرضنا أن أبا البنت قد عقد لابنته بعقد زوّجها بموجبه لزيد، ثمّ تبين بعد ذلك أن ابنًا له كان يتوهم أن أباه قد مات «إذ أن غيبة الأب قد طالت أمدًا بعيدًا، حتى توهّم الناس أنّه قد مات»، ما حمله على التصدّى لولاية أخته وتزويجها لعمرو فى تاريخٍ سابق على عقد النكاح الذى أمضاه الأب، فإنّ العقد الأخير يكون لاغيًا؛ لأنّه عقد متأخر.
حرق المقر الرئيسى لجماعة الإخوان الإرهابية فى مصر