الخميس 02 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أحمد المريخي يكتب: خريفُ الطبيعة

حرف

أنا يومٌ أفضلُ من أمس.. 

لستُ مريضًا إلى هذا الحدِّ لكنى مريض؛ 

لقد صعَدَتْ نَجْمَةٌ لم ألحظْها، ونبَتَتْ أُخرى فى بئرٍ سحيقةٍ؛ فيها مياهٌ تُسميِّها أُمّى دموعَ الله، وأنا دلوٌ عظيمٌ أنْفَقتُ من بهجتى الكثير، ولستُ حزينًا؛ لدىَّ حذاءٌ جديدٌ وقميصٌ جديد.. وبينما أركضُ عابرًا جسدى ضَبَطونى مثلَ طفلٍ فى ضجيجِ الحربِ يُغنّى و«سيوفُ الغَدِ تقطُرُ من دمى»

سقطتُ خلفَ صوتى 

رأيتُ كهلًا يرتدى جسدى 

خَلعَ عنّى حذائى الجديدَ وقميصى الجديد، 

قالَ: لقد صَعَدَتْ نَجْمَةٌ ونبَتَتْ أُخرى، وآنَ للمدارِ أنْ يكتمل..

غيرَ أنْ سيدةً مالتْ على شفتىَّ؛ قالت: أنت اليومَ منذورٌ للنقصان، فحَدِّثْنى قبلَ صعودِكَ فى النسيان. 

قلتُ: لستُ وحيدًا؛ معى الطريقُ، وسرابٌ ذاكرتى.. 

فى عينىَّ نهرٌ على جانبيْه شجرٌ وارفٌ بأطفالٍ بَرِّيينَ يُقلِّدونَ السناجبَ، يتَشَبَّثونَ بالعُشبِ ويمرحونَ وَسْطَ المروجِ، وإذا ما حَلَّ ربيعٌ يُخزِّنونَ المكسراتِ لأجلِ رحلتكِ الشتائيةِ أو خوفًا عليكِ من خريفِ الطبيعةِ؛ حيثُ تصيرُ الحقولُ كطيرٍ بلا ريش، وتكونُ الوَحْشَةُ جارفةً؛ فالشرقُ شرقٌ والغربُ غَرْبٌ، وإذ تغيبُ الشمسُ هناك ليس بالضرورةِ أنْ تَغْرُبَ هنا، بينما تُشرقُ أينما يَنْظُرُنى الناسُ.. وحين أغيبُ تَفْتَقِدينَ أشياءَ بسيطةً تَتَحَقََّقيْنَ بها؛ 

البكاءُ مثلًا.. والضَحِكُ 

كرْكَرَةُ الجَرَس 

رائحةُ الطبيخِ حينَ ترفَعينَ غَطاءَ الحِلَل 

كرْكَبَةُ الصحونِ فوقَ المائدة 

طقْطَقَةُ الملاعقِ فى الطَبَق 

نميمةُ النساءِ فى نوادى الترَف 

لَمَّةُ الصحابِ 

عزفُ العيون فى «لُقا من غاب».. 

و«تلاتْ سلاماتْ يا واحشنى تلاتْ تيام». 

وحيث تجلسين وحيدةً وعاجزةً 

تتأمَّلينَ المقاعدَ كيف صُنِعَتْ، فيفجؤك الشجرُ؛ تَغَضُّنُ الجذوعِ، تنوُّعُ الفروعِ، تناغمُ الأغصان، دلالُ السناجبِ فى هالة الأقمارِ.. 

رقصةُ عصفورةٍ تنتظرُ وليفَها فوقَ غُصْنِ بان.. 

ودمعتى الآنَ؛ 

تتمنين أن تفيضَ فى عَينَيْكِ.. 

وإذْ تنظُرينَ فَجْوَةَ المفتاحِ يُرفْرِفُ النسيانُ خفيفًا خفيفًا، ويتبَدَّدُ كُلُّ حادثٍ على الأرض ويبقى الألم؛ الألمُ الذى يُحيينى هُنا هو الألمُ الذى تفتَقِدينَه هناك؛ حيثُ القبورُ بلا رَعْشةٍ والكفَنُ بلا نُقصان.