الكل قلقُ على سوريا
الطِّفلُ السُّورى الذى ولِدَ فى نفسِ يوم انقلابِ حزب البعث وتسلمه السُّلطة فى سوريا (٨ مارس ١٩٦٣)، يبلغُ الآن من العمر ٦١ عامًا، لكنه سيحتفل بميلاده الـ٦٢ بدون نظام البعث. الطفل نفسه، حين بلغ الثامنة من عمره، انقلبَ حافظ الأسد على حزبه ورفاقه وتسلم السلطة، ولم يغادرها إلا إلى القبر سنة ٢٠٠٠، وقتها كان ذلك الطفل قد بلغ الـ٣٧، وبقى تحت حكم بشّار حافظ الأسد ٢٤ سنة أخرى، لحين هروبه فى ٨ نوفمبر ٢٠٢٤. يعنى ٥٤ سنة تحت حكم نظام الأسد (البعث).
فى المرحلة الابتدائيّة كان يجرى تنسيب الأطفال إلى «طلائع البعث» (منظّمة تتبع حزب البعث). وفى الإعداديّة ينتقل الطّفل إلى «شبيبة الثورة» (منظمة تتبع البعث)، وفى المرحلة الجامعيّة يصبح عضوًا فى «اتحاد الطّلبة» (منظّمة تتبع للبعث)، وإذا تخرّج، يصبح عضوًا فى إحدى نقابات الأطبّاء، المهندسين، المحامين... وكلّها تتبع حزب البعث! هكذا تم تدجين وتنميط المواطن السّورى على أن نظام آل الأسد هو فى حكم القضاء والقدر الذى لا مفرّ منه، وينبغى التسليم والإذعان له. عمليّة التدجين والترويض تلك، شارك فيها ساسة ومثقفون ونخب، عربيّة من خارج سوريا، ونخب سوريّة أيضًا، بهدف نمذجة نظام الأسد وتصديرهِ باعتباره «علمانيًّا»، «مقاومًا» معاديًا لإسرائيل... إلى آخر تلك المتوالية من الأكاذيب التى جرى الترويج لها وتكريسها فى العالم العربى، وبحكم التكرار والتقادم، تحوّلت تلك الأكاذيب والأباطيل إلى حقائق غير قابلة للشكّ والطّعن. ومن يسعى إلى ذلك، هو أمريكى، صهيونى، إمبريالى، زئبقى، انبطاحى، انشطارى، خزعبلى!
هذا تلخيص بسيط لحياة سوريا والسّوريين، تحت حكم جمهوريّة الفساد والاستبداد والقمع والسجون والهزائم وإذكاء الحروب الأهليّة فى لبنان والعراق، ثمّ سوريا. دولة حكمها نظام الكيماوى والبراميل المتفجّرة ضدّ السوريين، ونظام المخدّرات والكبتاجون، والسجون وأقبية المخابرات والمقابر الجماعيّة، ومكابس جثث المعتقلين بعد تصفيتهم. جمهوريّة سجن «صيدنايا» الرّهيب الذى تجاوز فى بشاعته سجون النازيّة. نظام فاشى يخجلُ منه نظام مبارك، بن على، القذافى، صدام حسين... بالرّغم من كميّة الظلم والاستبداد التى كانت موجودة فى تلك الأنظمة المذكورة. زِد على كلِّ ذلك، بشّار الأسد، كان يحضّر ابنه حافظ بشّار حافظ الأسد لخلافته واستكمال ما فعله جدّه وأبوه بحقّ سوريا والسّوريين.
إذا لم يطّلع ويفهم المواطن المصرى أو المغاربى أو الخليجى سيرة الألم والعذاب السّوريّة تلك فى ظلّ حكم عائلة مجرمة وفاسدة، طبيعى أنّه سيتفاجأ بفرحة السّوريين حال إعلان هروب بشّار الأسد، وسقوط نظامه، ولن يتفهّم خلفيّات تلك الفرحة العارمة. وعليه، ما جرى فى سوريا منذ ٢٠١١ كان ثورة سلميّة فى الأشهر الستة الأولى، ثم انزلقت للعنف والخراب والحرب الأهليّة، بفعل نظام الأسد، لأنّه سيطر على الجيش والأمن. الأمر كان مختلفًا عمّا جرى فى مصر التى لديها جيش وطنى تدخّل حين أصبح وجود حسنى مبارك ومحمد مرسى خطرًا على الدولة والمجتمع. وكذا الحال فى تونس. فى سوريا لم يكن هناك جيش وطنى، بل جيش أسدى، طائفى، تورّط فى قتل الشعب السورى.
مع كميّة التفاؤل التى سردت جزءًا من أسبابه أعلاه، هناك كميّة من الخوف والقلق المشوب بالتشاؤم، نظرًا للعقيدة الأيديولوجيّة الدينيّة الإسلاميّة السنيّة المتشددة لقادة سوريا الجدد. هناك وعود وتطمينات إيجابيّة تصدر من هذه الجماعة الإسلاميّة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقًا)، بخصوص حماية التنوّع الدينى والطائفى والقومى والثقافى. حتّى الآن هى مجرّد تصريحات تفتقد الدليل العملى الدستورى الإصلاحى، لأن الأسد ترك البلاد منهارة مدمّرة. وعليه، النظام الحاكم فى سوريا الجديدة، ينبغى أن يطمئن دول الجوار أيضًا، وليس فقط الشعب السورى. لأنّه من حقّ المصرى القلق على أمن بلده من انزلاق سوريا نحو الأفغنة، بل من حقّ المغربى والجزائرى والتونسى القلق على بلدانهم. ومن حقّ العالم أجمع أن يقلق على مستقبل سوريا. وهذا يعكس الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا البلد المتوسّطى والشرق أوسطى. من دون السهو عن جزء كبير من المسئوليّة السياسيّة والأخلاقيّة التى يتحمّلها العالم العربى والمجتمع الدولى فى ترك سوريا تصل إلى هذا المنعطف الخطير، حين تركوا الحبل على غاربه لنظام بشّار الأسد يفعل فى سوريا ما فعله طوال ١٣ عامًا.
بكلِّ تأكيد هناك انقسام فى سوريا، عسكرى، سياسى، ثقافى، تعود جذوره إلى مرحلة الاستقلال، واستمرّ فى ظلّ حكم البعث ـ الأسد، وتكرّس فى السنوات الثلاثة عشر الأخيرة. الكل يخاف من الكلّ، الكلّ قلق على مستقبله فى سوريا، وعلى مستقبل سوريا كبلد، معتدل، متنوّع، علمانى، مدنى. والسؤال الذى يطرح نفسه: أىٌ من بلدان العالم العربى هى دولة علمانيّة؟ سؤالٌ موجّه للإخوة والأخوات الذين يبدون حرصهم على علمانيّة سوريا المستقبل؟ هل مصر علمانيّة مع وجود هذا الدور الكبير للأزهر والكنيسة القبطيّة فى تفاصيل الدولة؟ هل بلدان الخليج علمانيّة؟ هل لبنان علمانى، مع التدخّلات الدينيّة والطائفيّة فى تركيبة الدولة؟ مقصدى؛ علمانيو العالم العربى بلا علمانيّة حقيقيّة فى بلدانهم.
هناك قدر من التفاؤل الحذر، يمكن أن يتّسع ويتطوّر ويتحوّل إلى أمل، ثم يصبح تجربة ناجزة ناجحة لسوريا جديدة ناهضة من تحت أنقاض وخراب نظام البعث ـ الأسد. لقد ترك العالم العربى والمجتمع الدولى السوريين فى تلك التراجيديا الكونيّة والنزوح المليونى، والتمزّق الأهلى، طوال الـ١٣ سنة الماضية، وعليهم عدم ترك سوريا لنظام جديد متشدد متطرّف، يعيد إنتاج نظام الأسد الطائفى (العلوى)، بنفس الطريقة الطائفيّة (السنيّة)!
السوريون المعارضون لنظام الأسد، كانوا يلومون النظام العربى والمجتمع الدولى ويطالبونهم بالتدخّل لإنقاذ سوريا والسوريين من إجرام نظام الأسد، عليهم الآن عدم الانزعاج من الحرص العالمى والعربى على سوريا جديدة، لا مركزيّة، مدنيّة، ديمقراطيّة، بدستور جديد عصرى، يحترم التنوّع القومى، ويقرّ به، ويضمن حقوق الجميع. لا أعتبر ذلك تدخُّلاً فى الشئون السوريّة. ذلك أنّ سوريا كدولة ونظام ومجتمع جرى إتلافها على امتداد عقود. ما جرى فى سوريا بعد سقوط دولة العائلة الأسديّة، يمكن اعتباره الاستقلال الثانى لسوريا، والسير نحو التأسيس لجمهوريّة ثالثة.
حاصل قولى: كلُّ انقلابٍ ليس ثورة، ولكن كلّ ثورةٍ انقلاب. الثّورة على نظام سياسى فاسد مستبدّ قديم، لا تعنى التبرُّؤ من كلّ قيم ومفاهيم وأخلاق وأنماط وأنساق تفكير النظام القديم. ذلك أن الثوّار الجدد، هم أبناء الثوّار القدامى الذين أسّسوا النظام القديم. التاريخ يعطينا الكثير من الأمثلة عن الثورات التى أنتجت طغمًا وطواغيتَ وقادةً استبداديين دمويين.
الإشكال أنّه جرى تصدير تصورّات ومفاهيم ورديّة رومانسيّة عن الثورات فى القصائد وروايات وكُتب اليسار، وأنّ الثوار ملائكة طهرانيون مخلصون، زُهّاد، نًسّاك، وليسوا طلاّب سلطة. لكن منذ نهاية ٢٠١٠ وبداية ٢٠١١ وحتى اللحظة، انكشف لنا الكثير من الزيف الذى ظنناه حقائق لا يدانيها الباطل! انكشف لنا أنّ حبّنا للثورات أعمى أعيننا عن بشاعة كوارثها. كنّا نقرأ «إن الثورات تأكلُ أبناءها». توقنا للتحرّر من الاستبداد وشغفنا بالحريّة المسلوبة وحقوقنا المصادرة من قبل أنظمة زعمت الثورة والثوريّة، أسهما فى تغذية حبّنا للثورة والأوهام والخرافات الرومانسيّة التى أنتجها ذلك الافتتان والحبّ المجنون للثورات. جربنا كثيرًا، دعونا نجرّب ونختبر قادة سوريا الجدد، بقليل من الأمل والقليل من التفاؤل، والكثير من القلق والحذر والخشية.