الجمعة 27 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

النُبل صنعة.. فى حب «الخل الوفى» نبيل الحلفاوى

نبيل الحلفاوي
نبيل الحلفاوي

- سفهاء العصر حاولوا النيل من مشهده الأيقونى فى «الطريق إلى إيلات» عبر إفيه «العسلية» السخيف 

- بعض الزائفين الذين لا يعرفون شرفًا للخصومة رأوا فى رقدته الأخيرة فرصة للتشفى

- قصيدة نعيه لنفسه تؤكد معنى مكتوبًا على صورة قديمة له عمرها ٧٥ سنة

- اقرأ تعليقات أصدقائه القدامى لتعرف أن فكرة «الخل الوفى» لم تكن من المستحيلات

«مفيش أُدامى حل غير إنى ألغى العملية»...

وقعت تلك الجملة كالصاعقة على آذاننا عندما نطق بها العقيد «راضى» أو «عزت العلايلى» قائد عملية إيلات.. بعد أن اكتشفوا الخطأ الكارثى باختلاف مقاسات تركيب الألغام الثلاثة عن قطر تايمر التفجير، وهو الأمر الذى كان يعنى لأبطال العملية ضياع شهور من العمل الشاق المضنى للوصول لتلك الحظة. وفورًا ألقت بنا «إنعام محمد على» بكاميرتها المرهفة فى بحر متلاطم من اليأس والانهيار والترقب عبر لقطات بالغة الدقة عذبة الإيقاع رغم قسوتها.. راصدة انفعالات إنسانية حقيقية على وجوه الأبطال وعواطف غضب جياشة دفعت أحدهم للتهديد بأن يأخذ لغمًا بنفسه، ويبحر صوب ميناء إيلات ويفجره بيديه، مضحيًا بروحه فى سبيل إنجاح العملية، لكن «العقيد راضى» يوقف شلال الغضب الجارف بحكمة القائد مقررًا جملته القاتلة على لسان «العلايلى»: «إحنا دلوقتى أُدام أمر واقع».

ينهار الجميع وتهدأ ثورة الغضب لتحل مكانها حالة خوار كامل ويأس مريع، ويتسرب الإحباط القاتل من الكادر السينمائى إلى نفوس الجمهور حتى بدا أنه لا أمل ولا مفر من الانهزام. 

هنا فقط يأتى الفرج فى صورة جملة واحدة من كلمتين خرجت على لسان رجل أخرجته «إنعام» من أسفل الكادر- راجع المشهد لو سمحت- وكأنه نبتة الأمل التى بعثت لتوها من الأرض القاحلة لنرى وجه «العقيد محمود قبطان» بعينيه الحادة المتحدية المحدقة فى وجه اليأس قائلًا: 

«فى حل»

فجأة يلملم المنهارون شتاتهم، ويتجمعون تجاه كاميرا «إنعام» التى تمثل وجه الرجل الذى ألقى بقنبلة الأمل حالًا.. محاولين تلمس جملته السحرية التى انتشلتهم من الجب العميق وانتشلتنا معهم، ويكمل شرح مهمته الانتحارية بتوسيع قطر اللغم ليصير مناسبًا لقطر المفجر فى عملية نسبة نجاحها لا تتخطى الـ1%.. وضريبتها الوحيدة حياته.. لكنه الأمل الوحيد على أى حال.. ويبدأ صاحبه فى محاولته التى سلبت عقول جيلنا، وانطبعت داخل وجدانه لتخرج أهم 5 دقائق فى الفيلم الأيقونى «الطريق إلى إيلات»، وتنطبع صورة وجه العقيد «محمود قبطان» المتعرق أثناء عملية التوسيع، وعليه مئات الانفعالات المتشابكة كقطع الأرابيسك من أمل وحرص وترقب وحذر وخوف وغيرها.. قرأناها جميعًا بسهولة ويسر عبر نظرة عين الفنان العملاق الذى تقمص دوره واسمه «نبيل الحلفاوى».

سفهاء ونبلاء

آثرت أن أبدأ كلامى بهذا المشهد العبقرى الذى حاولت ثقافة الكوميكس و«سيلان» الإفيهات عبر «السوشيال ميديا» أن تقلل من قيمته، وتحول الإفيه من كونه «قفشة» ظريفة تناسب روح الدعابة عند شعبنا المرح، حتى صار طعنًا فى الروح الوطنية البطولية التى يبرزها الفيلم العظيم، بتأريخه نقطة ضوء من نقاط كثيرة بعثت الروح فى جسد الوطن المهزوم بعد نكسة ١٩٦٧ فى حرب استنزاف بطولية شارك فيها جيشنا العظيم عبر كل جبهاته ومنها القوات البحرية الباسلة التى أربكت العدو المزهو بانتصاره وقتها، وخلقت جسرًا من الثقة بين الشعب والجيش مرة أخرى.. لذلك كان فيلم «الطريق إلى إيلات» مهمًا لأجيال لم تشاهد تلك الفترة العصيبة، ولم تعش ويلات الانهزام النفسى التى عاشها الآباء والأجداد.

لكن بعد سنوات طويلة نصل إلى مرحلة إهانة كل قيمة جميلة تحت هدير «مكنة» الإفيهات السخيفة التى لا تتوقف ويصير هذا اللغم الذى يمسك به الحلفاوى «عسلية»، ومؤكد أن هذا الفنان النبيل خلقًا وفنًا واسمًا لم يكن يتوقع أن هذا المشهد الذى صار علامة لا يقهرها الزمن فى نفوس الأجيال سيستخدمه بعض السفهاء معدومى الضمير وفاقدى الأهلية الإنسانية فى السخرية والمزايدة الرخيصة على الرجل الذى حمل مصر بين عينيه، وتلقيبه بـ«جنرال العسلية».. بينما هو يصارع ساعاته الأخيرة فى الدنيا.. ليعرى بموته الذى تمناه مريحًا سوأة مُدّعى الوطنية الزائفة ممن لا يعرفون شرفًا للخصومة ولا أخلاقًا للاختلاف.

لكن لأن الرياح مهما كانت عاتية لا تأخذ من الجبال الراسية غير ذرات التراب الزائدة، فإن الحلفاوى بمشهده العبقرى وتاريخه الإنسانى والفنى النبيل لن يضيره «نبحة هنا أو بوست تشفى هناك»، وسيظل الرجل مغروسًا فى أعمق نقطة فى وجدان هذا الوطن الذى أمن به حتى النخاع.

الخل الوفى

جميل أن يكون لك من اسمك نصيب، لكن الغريب والمدهش أن تكون أنت ترجمة حرفية لاسمك بكل ما يحمله من معانٍ، وكما يبدو كان «نبيل الحلفاوى» نبيلًا فعلًا وقولًا، وإن شئت التأكد من الأمر يكفى أن تسمع ما قاله عنه صديق العمر «يحيى الفخرانى»، هذا الجبل الفنى والإنسانى العظيم الذى نمتلكه، ولأن «يحيى» كالقناص الماهر يعرف كيف يصوب كلماته بدقة، فقد قال عن «نبيل» تعبيرًا أظن أنه يلخص قيمة هذا الرجل الإنسانية قبل أن تكون الفنية.

«أصدق الأصدقاء»... كان هو تعبير «الفخرانى» البليغ عن «نبيل» وله حكاية يحكيها يحيى تبرر هذا الوصف وتعود إلى بداية السبعينيات، عندما كان «يحيى» طالب الطب قد وصل إلى حافة التخرج فى كليته، ويتلمس خطوة واحدة تقربه من حلمه باحتراف التمثيل الذى عشقه فى الجامعة، وكان بحاجة إلى يد تتلقف موهبته لتضعها فى مكانها الصحيح، فكانت اليد هى يد «نبيل» صديقه من المسرح الجامعى الذى كان قد ساعده نبوغه فى المعهد العالى للتمثيل منذ الستينيات ليطرق باب الفن مبكرًا عن زملائه، فكان يشارك فى مسرحية باسم «مدرسة الأزواج» من بطولة أشرف عبدالغفور، وحدث أن ارتبط نبيل بعرض مسرحى آخر باسم «حبيبتى شامينا» كان يستلزم أن يسافر فترة قصيرة، فوجدها فرصة ليعطى صديقه الفرصة التى ينتظرها فرشحه للمخرج ليقوم بدوره فى فترة غيابه، والنبل ليس هنا لأن هذا الأمر كان من الممكن أن يقوم به أى فنان آخر، لكن النبل الحقيقى تجلى عند عودة «نبيل» من سفره ومشاهدة «يحيى» على المسرح لآخر ليلة على أساس أن يسلمه دوره فى اليوم التالى، لكن الصديق أبى إلا أن يترك الفرصة كاملة لصديقه، لإحساسه بحاجته الملحة إليها، ليكون «نبيل» سببًا فى إهدائنا هذا الفنان العملاق يحيى الفخرانى.

الأمر لم يكن صدفة وضعتها الأقدار فى طريق «الحلفاوى» ليظهر نبله بل كان أسلوب حياته، فقد رشح أواخر الثمانينيات الوجه الجديد نسبيًا «عبلة كامل» لتكون بطلة أمامه فى مسرحية «عفريت لكل مواطن»، وتحمس لها وأجزل لها من عطايا فنه ونبله، لتثبت جدارتها وتصير قمة فنية أخرى فى مخزوننا القومى نباهى بها الأمم.

ويبدو أن فكرة الصديق هى فكرة متجذرة فى وجدان «نبيل الحلفاوى» منذ الصغر، وقد لفت نظرى صورته المتداولة فى طفولته ومؤرخة بعام ١٩٥١.. وبجوار الصورة يبرز تعليق مكتوب بالنص «أعز أصدقائى.. أعز صديق لى».. لا أعرف من كاتبها؟ هل كان «نبيل» نفسه كتبها إهداءً لصديق طفولته، أم صورة لصديق أخذها من نبيل فى الصغر واحتفظ بها؟ لكنه على أى حال كان تعليقًا يبرز قيمة الصديق فى حياة هذا الرجل الاستثنائى.

ولأن خيوط الزمن تلتقى ولو بعد حين، فتكشف أن «نبيل الحلفاوى» كتب قصيدة بديعة نشرت بعد ما يزيد على خمسين عامًا تؤكد معنى الصداقة وقيمتها التى رسخها التعليق القديم المكتوب بداية الخمسينيات، وكشف عنها الأستاذ «محمود سعد» أحد أصدقائه هو الآخر، حيث نشرها فى الصفحة الأخيرة لمجلة «الكواكب» عندما كان يتولى رئاسة تحريرها عام ٢٠٠٢ ، ولا مفر من أن ننهى كلامنا عن «نبيل الحلفاوى» مؤقتًا بنص تلك القطعة البديعة كما كتبها بنفسه قبل ٢٢ عامًا، والتى حتمًا ستجعلك تتساءل عن مدى صدق العقيدة العربية الشهيرة عن المستحيلات الثلاث «الغول والعنقاء والخل الوفى».. 

هيا بنا نقرأ كيف نعى «الخل الوفى» نبيل الحلفاوى نفسه مُلتحفًا بأصدقائه:

أسامى الصحاب

ف نعيى ما تكتبوش

أسامى القرايب

ف نعيى لازم تنكتب

أسامى الصحاب

وصيغة الكلام

بدون النظام

وحسب الميزان

مش حسب المحبة

حتبقى كده:

صديق كل من

السعدنى والصحن ولينين

فرغلى والدكتور أمين

سامى ومرعى وأحمد ياسين

يحيى وحمدى وعبدالله غيث

سامح وشامخ وعلوة وأديب

سيدهم وكيمو وسناء

والطاهر بهاء

أحمد وحودة وعِماد

محمد ودوحة ورِياض

أشرف وشاكر وطلعت

عزت ومدحت وبهجت

حسين وسمرة وجلجل غنيم

شريف وعادل وعز وكريم

هشام وخضر وجمال

أحمد كمال

منه حمايا ومنه صديق

محمد وفيق

وعبده كمان

قبل ما أناسبه بزمان

أسامة عكاشة ومحسن وحفـظ

هادى وصبحى ولطفى وشعب

روقة ورستم وزيـزو ودفـر

عوض وزيكا ونور الشريف

عمر وأردش وهانى مطاوع

حجازى اللى سابنا ف عز الشباب

سيد خميس وسيد حجاب

حتى ابنى وأبويا

وخالى وأخويـا

ييجوا ف نعيى ضمن الصحاب

ولجل المناسبة ولجل العادات

ماقـلتش ف نعيى

صحـابى البنـات.

بقلم: نبيل الحلفاوى

نشرت فى مجلة الكواكب 2002