فيلسوف الحياة والموت.. عن الرجل الذى فشل فى «زغزغة» العالم.. فمات كمدًا
على الرغم من قِدم القول المأثور عن صاحب السبع صنايع، وانغراس المعنى فى أرض الوجدان الشعبى الخصيبة منذ قديم الأزل، إلا أننى أجزم بأن صورة صلاح جاهين تتمثل فى ذهن من يلجأ لاستخدام هذا المثل الشعبى البديع، دون أن يقصد ذلك، فمن غير الشاب صاحب الألف عام يملك كل تلك «الصنايع» التى يجيدها إجادة تامة ويلاعبها كما يلاعب رجل الأكروبات الماهر حلقاته و«عدة شغله»، بمهارة تفوق الخيال ليقتنص آهات الجمهور وإعجابهم.
أما صلاح، فظنى أنه لم يشارك لاعب الأكروبات هدفه فى الحصول على إعجاب الناس، بل إنه استخدم تلك المواهب بمهارة فى لعبته الكبرى مع الحياة القاسية، ويبدو أن صلاح فهم تلك الحياة أكثر من اللازم، وهو الأمر الذى سلمه لاكتئاب مقيم فى قعر النفس لا يبارحه ولا يقضى عليه فورات النجاح التى يطويها الرجل كطى السجل للكتب فى كل المجالات التى برع فيها، ما يجعله نظريًا غير منطبق عليه باقى المثل الشعبى عن «البخت الضايع» الملازم للصنايع السبع.
فهو الشاعر الأبرع وهو رسام الكاريكاتير الذى تفتتح مصر كلها قراءتها للأهرام صباح كل يوم من صفحة ٩ بسبب رسمته العبقرية الراسخة فى ركن الصفحة العلوى، وهو الممثل والكاتب اللامع وصانع السينما المبهر، وهو الحارث على الوجدان الشعبى بليلته الكبيرة وعرائسه الجميلة.
إذن ماذا كان ينقص الرجل ليصير سعيدًا ولا يسلم حياته الزاخرة بالأصدقاء والمريدين إلى الموت على طبق من ذهب؟
نظريًا لم يكن ينقصه شىء، ولكن أعتقد أن المفارقة العظمى كانت تتلخص فى كون صلاح جاهين وهو ابن الحياة البار، لكن مع ذلك، صار الموت شاغله الأكبر ونداهته التى تقف على الضفة الأخرى تحثه على العبور حتى قبل نكسة حلمه فى ٦٧، ما جعل صلاح غارقًا فى حيرته الأبدية، حائرًا بين الحياة والموت، وكان القلم هو الملجأ ليعبر عن تساؤلاته الوجودية بشأن الموت، تستطيع أن تشم رائحته وسط السطور التى كتبها فى رباعياته العبقرية.. كما سنرى.
ويزخر شعر جاهين الغزير بما يؤكد أن سحابة الحزن والهم لم تبارح غلافه النفسى، وظل هذا العالم الذى يعيشه غير مفهوم بالنسبة له؛ برغم الهبات الإلهية الممنوحة له متمثلة فى حيله وألاعيبه ومواهبه وأصدقائه والتى يكفى هبة واحدة منها لتمنحه السعادة المنشودة، شخصيًا أرى فى نهاية قصيدته «قصاقيص ورق»، التى كتبها قبل النكسة بسنوات، مربط الفرس فى شخصية صلاح الذى حاول كثيرًا مع عالمه الثقيل المكبوس بحيله وألاعيبه؛ ليفك عبوسه وتجهمه، لكنه غالبًا فشل فى «زغزغته».
اقرأ معى قبل أن نغوص فى رباعياته الآسرة التى يداعب بها الموت:
أعياد كتير يبتدوا وبيفرغوا
وبيفضل العالم كده
مكبوس تقيل تقييل
يا ربنا
يا اللى خلقت لنا الأيادى، للهزار، وللعمل
ادينى قوة مليون ألف إيد،
عشان أزغزعه
أيوب رماه البين بكل العلل
سبع سنين مرضان وعنده شلل
الصبر طيب.. صبر أيوب شفاه
بس الأكاده مات بفعل الملل
عجبى!!
فى يوم صحيت شاعر براحة وصفا
الهم زال والحزن راح واختفى
خدنى العجب وسألت روحى سؤال
أنا مُت؟.. والا وصلت للفلسفة؟
عجبى!!
خرج ابن آدم م العدم قلت: ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه
تراب بيحيا.. وحى بيصير تراب
الأصل هو الموت ولا الحياة؟
عجبى!!
بين موت وموت.. بين النيران والنيران
ع الحبل ماشيين الشجاع والجبان
عجبى علادى حياة.. ويا للعجب
إزاى أنا - يا تخين - بقيت بهلوان
عجبى!!
أنا كنت شىء وصبحت شىء ثم شىء
شوف ربنا.. قادر على كل شىء
هز الشجر شواشيه ووشوشنى قال:
لا بد ما يموت شىء عشان يحيا شىء
عجبى!!
ضريح رخام فيه السعيد اندفن
وحفرة فيها شريد من غير كفن
مريت عليهم.. قلت يا للعجب
لاتنين ريحتهم فيها نفس العفن
عجبى!!
يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع
حزين أنا ز يك وإيه مستطاع
الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع
الحزن زى البرد.. زى الصداع
عجبى!!
نظرت فى الملكوت كتير وانشغلت
وبكل كلمة «ليه؟» و«عشانيه» سألت
اسأل سؤال.. الرد يرجع سؤال
واخرج وحيرتى أشد مما دخلت
عجبى!!
الدنيا أوضه كبيره للانتظار
فيها ابن آدم زيه زى الحمار
الهم واحد.. والملل مشترك
ومفيش حمار بيحاول الانتحار
عجبى!!
مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقى ناس أشرار وناس طيبين
عجبى!!
السم لو كان فى الدوا.. منين يضر؟
والموت.. ولو لعدونا.. منين يسر؟
حط القلم فى الحبر واكتب كمان
.. والعبد للشهوات.. منين هو حر؟
عجبى!!
أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
شفت القمر نطيت لفوق في الهوا
طلته مطلتوش - إيه أنا يهمني؟
وليه ما دام بالنشوى قلبي ارتوى
عجبي!!