الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هند رجب.. إهداء إلى طفلة حضنت 355 رصاصة

حرف

- خدينى تعالى!

- أجى أخدك؟

- أمانة كتير خايفة... تعالوا!.. رنى على حدا ييجى ياخدنى.. أمانة.

قالتها «هند رجب» لموظفة الاستقبال فى هيئة الإسعاف، والخوف جاثم على قلبها الصغير فغطاه. لم يغلبه سوى أناملها الصغيرة، وهى تمسح الدماء من على دمية قطنية تحتضنها، رأت ابتسامتها فسكت صوت الرصاص والقذائف، خارج السيارة المحاصرة بالدبابات.

تركت الدمية، ومسحت الدم من على قريبتها «ليان»، التى كانت تتحدث مع موظف الاستقبال منذ لحظات: «عمو قاعدين يطخوا علينا.. ساعدونا.. الدبابة بجوارى ونحن فى السيارة»، قبل أن تسكتها رصاصة سكنت قلبها، فغطى اللون الأزرق بسمتها!

كررت محاولتها مع طفلين آخرين أسكتهما الموت، فما ابتسما، ولا زال الدم من على جسديهما النحيلين.

كما اعتادت، وهو حى، لجأت إلى جدها «بشار حمادة». قالت له بصوت لائم: «شو اللى صاير؟»، فلا رد ولا ابتسم ولا وضع الوردة بين خصلات شعرها، ولا دس قطعة الحلوى فى جيبها، مثل كل مرة. بل عاد صوت الرصاص والقذائف خارج السيارة، فزاد المشهد رعبًا.

عادت يائسة وخائفة إلى دميتها. نظرت إليها وقالت: ليتهم جميعًا مثلك، لا تغيب عنهم الابتسامة أبدًا، لا يرعبهم الرصاص، ولا يعرف الموت إليهم طريقًا. ليتهم دمى، لم يعودونا على الابتسام ولا الورد ولا الحلوى! 

- أيحيطك صوت الرصاص؟

- نعم.. خذينى!

تمنت لحظتها أن تسكت موظفة الاستقبال، تصمت إلى الأبد، فمنح الأمل إلى أمثالها قاتل. تلك حقيقة أدركتها رغم سنوات عمرها الست. منحتها الحياة الأمل فى بيت فقُصف. فى مدرسة فُهدمت. فى زى جديد فتلطخ بالدم. فى عيد فلم يأتِ أبدًا. فى عائلة فقُتلت. فى نجاة فحوصرت داخل سيارة بآليات مدرعة، لا تعرف عنها سوى أنها تزيل عمن تعرفهم الابتسامة!

مرت ساعات طويلة، لا هى تلحق بمن ماتوا قبلًا، ولا تموت مع من ماتوا الآن. توقف بها الزمان عند هذه اللحظة المرعبة، لا تأمل فيها طمأنينة، ولا تتوقع لها نهاية!

هند... هند.. هند!

اعتقدت أن الرعب قد تمكن منها، أن الموتى داخل السيارة يحدثونها. تمنت لو أن هذا حقيقى. ثم عادت ورجت الله أن يرحمها ويزيل عنها الخوف. وقبل أن تُكمل مناجاتها رأته قادمًا يتسلل من بعيد إلى السيارة.

مُسعِف؟!

أعرفه من زيِّه، رأيته فى كتابى الملون، بل لونت صورته، بالأصفر؟ أم كان بالأخضر؟ ليت أمى هنا تذكرنى!!

اقترب أكثر فأكثر، اتضحت صورته الآن، لم أكن أتخيل، كان حقيقة لا وهمًا... أخيرًا قَبِل الله دعائى!!

.... «تمت»

وضع القلم على المكتب بعد أن اختتم قصته القصيرة بهذه النهاية.

- لكنى مُتُّ.. وجدوا جثتى بعد ١٢ يومًا!... قالتها «هند» باستغراب.

- أعرف، لكنى لا أريدكِ أن تموتى فى قصتى!

ثم قال مُحدثًا إياها وهو يبكى:

يا ليتكِ كنتِ قصة قصيرة! يا ليتكِ كنتِ خيالًا! 

يا ليت الله لم يخلق «هند»، لم يخلق فلسطين، لم يخلق آدم، لم يخلق الخطية! 

يا ليتنا بقينا فى الجنة، ولم ننزل أبدًا إلى هذه النار!