القنبلة.. قصة الفيلم الذى لم يكتمل لصلاح جاهين وأحمد زكى
لم يشعر أحمد زكى باليُتم إلا عند وفاة صلاح جاهين.
عندما سمع الخبر بعد خروجه من غرفة العمليات، فى أحد مستشفيات لندن، نزل إلى الشارع مسرعًا، وكأنه فى القاهرة، ويريد أن يذهب ليتأكد مما سمعه! حتى إن جرحه انفتح ونزف كمية كبيرة من الدم.. «أبويا مات.. كان هذا تبريره لما فعله أمام أطبائه.
وكان صلاح جاهين يستحق كل هذا الحزن، وهو الذى لم يهتم فى أواخر أيامه إلا بتوصية زواره على أحمد زكى. «خلوا باكم منه». لماذا كل هذا الحب إذن؟
هذا ما أجاب عنه الأستاذ الكبير عادل حمودة في كتابه «في صحة أحمد زكي.. مشواري معه من أول لقطة إلى آخر لحظة»، الصادر عن «دار ريشة للنشر والتوزيع».
يبدأ عادل حمودة من أول لقطة.
تعرَّف «أحمد زكى» وهو طالب فى المعهد العالى للفنون المسرحية على صلاح جاهين عام ١٩٦٩، حين جاء هو وزملاؤه للاشتراك فى المسرحية الاستعراضية الملحمية «القاهرة فى ألف عام»، التى امتد عرضها إلى ثلاث ساعات.
كتب النص «عبدالرحمن شوقى»، ووضع الاستعراضات والأغانى «صلاح جاهين»، ولحنها «ســيـد مـكاوى» و«محمـود «الشريف» و«إبراهيم رجب»، وشارك فى التمثيل «سعيد صالح» و«يونس شلبى» و«محيى الدين إسماعيل» و«أحمد زكى»، وكانوا مجهولين لا يعرفهم الجمهور.
بطل المسرحية صحفى شاب يربط بكلمات من عنده العصور المختلفة التى مرت بالقاهرة.
اختار مخرج المسرحية القادم من ألمانيا الشرقية أرفيل لاستر «أحمد زكى» ليؤدى دور الصحفى، وشجع صلاح جاهين الاختيار، إلا أن مدير مسرح البالون «سعيد أبوبكر» رفض أن يؤدى طالب فى أولى معهد تمثيل البطولة، وترك له عدة أدوار صغيرة بعضها صامت.
هكذا بدأت العلاقة بينه وبين صلاح جاهين، لكنها كانت علاقة محدودة لا تزيد على رعاية إنسانية مثله مثل ممثلين آخرين من جيله، لخصها «أحمد زكى» فى كلمتين:
«صعبت عليه».
هذه الرعاية الإنسانية تحولت إلى «عناية أبوية كاملة» بعد قليل.
كان المخرج «على بدرخان» قد تعرف على «أحمد زكى» فى بيت صلاح جاهين، وهناك اختاره لبطولة فيلم «الكرنك»، بعد اختبار كاميرا تجاوزه فى أول ثانية.
شعر بعدها أحمد زكى بأن الأبواب قد انفتحت أمامه، فها هو سيؤدى البطولة أمام سعاد حسنى.
ثم إن الأقدار نظرت إليه ثانية ووقّع عقد فيلم «شفيقة ومتولى» مع سعاد حسنى أيضًا، ولما سمع المنتجون الكبار عن أحمد أسرعوا ليتعاقدوا معه على فيلم ثالث قبل أن يرتفع أجره بعدما يعمل مع السندريلا.
وكان يحصل على ٢٠٠ جنيه فى الفيلم.
لكن منتح «الكرنك» ممدوح الليثى، والموزع حسين الصباح، يرفضان أن يؤدى «ولد أسود وشعره أكرت وشكله وحش» البطولة أمام السندريلا.
يرسم ممدوح الليثى مشهد ما جرى بعد إبلاغه أحمد زكى باستبعاده لحساب نور الشريف:
«إذا بأحمد زكى بحركة لا شعورية يلتقط كوبًا زجاجيًا ويضرب به جبهة رأسه وهو يصرخ: يا أولاد الكلب، فينكسر الكوب وتنساب الدماء من جبهته وهو ما زال يصرخ».
بعدها اختلفت «سعاد حسنى» مع المخرج سيد عيسى حول سيناريو «شفيقة ومتولى»، وتدخل منتج الفيلم «يوسف شاهين» ليعيد ترتيب الأدوار، فسحب دور البطولة من «أحمد زكى» وترك له دورًا ثانويًا، وأسنده إلى نجم بدأ يبرق وهو «محمود عبدالعزيز».
وكان طبيعيًا أن يسحب المنتج الثالث عرضه ورهانه عليه.
هزت الصدمات الثلاث أحمد زكى وكادت أن تقضى عليه لولا صلاح جاهين.
بعد أن ضاعت فرص البطولة منحه «صلاح جاهين» اهتمامًا خاصًا، وصل إلى حد أنه كان يطلبه تليفونيًا كل يوم ليطمئن عليه.
حتى إنه حكم على ممدوح الليثى بأن يعطى أحمد زكى قيمة عقده كاملة «١٥٠ جنيهًا»، بالإضافة إلى ١٥٠ أخرى على سبيل التعويض.
وبهذه الرعاية الراقية عرف «أحمد زكى» يعنى إيه «أب» يمنح الأمان فى مدينة قاسية مثل القاهرة، ويمكن أن يكون صديقًا فى الوقت نفسه.
على امتداد سنوات «صلاح جاهين» و«أحمد زكى» وصلت العلاقة بينهما إلى حد التواصل عن بُعد من خلال الحاسة السادسة.
يحكى عادل حمودة ويقول:
فى شتاء عام ١٩٨٦ شعر «أحمد زكى» بألم فى جهازه الهضمى راح يتزايد يومًا بعد يوم، إلى حد العجز عن استكمال الفيلم الذى يصوره.
كان يتباهى بأنه لم يصب بإنفلونزا، فإذا به يعانى مرضًا لا يعرفه، ورغم الفحوص الطبية التى أجراها فإنها لم تكشف عما يعانيه، وأقنعه صديقه المقرب «عماد الدين أديب» بأن يأتى معه إلى لندن ليطمئن على نفسه ويعود خلال أيام معدودة.
سافرا معًا إلى لندن، حيث كان عماد الدين أديب وزوجته فى هذا الوقت هالة سرحان يعملان هناك.
فى «لندن كلينيك» تجددت الفحوص، لكن حالما رآها الطبيب أصر على احتجازه وإجراء جراحة عاجلة ليزيل المرارة التى تعفنت وراحت تفرز سمومًا فى الجسم تهدد حياته، وشجعه الطبيب قائلًا:
- أنت أكيد شجاع مثل عبدالحليم الذى كنت أعالجه هنا.
لكن قبل أن يدخل غرفة العمليات عرف من خبر فى صحيفة أن صلاح جاهين سبقه إلى غرفة الرعاية المركزة فى مستشفى «الصفا».
فقد «أحمد زكى» تركيزه من شدة الصدمة، ونزل إلى الشارع يجرى ليوقف سيارة أجرة توصله إلى «المهندسين» متصورًا أنه فى القاهرة، وبعد أن هدأ قليلًا اتصل تليفونيًا بالسيدة «بهيجة» شقيقة «صلاح جاهين» ليطمئن منها عليه.
لم تكن حالة صلاح جاهين مطمئنةً بعد أن بلغ الاكتئاب مداه وفقد الرغبة فى الحياة، ولكنَّ شقيقته لم تشأ أن تزيد من اضطراب «أحمد زكى» وهو على بُعد خطوات من غرفة الجراحة.
استمرت الجراحة أربع ساعات، نُقِلَ بعدها إلى غرفة الرعاية المركزة، وحالما فتح عينيه شاهد رؤيا بدت حقيقة أمام عينيه وسبق أن عاشها من قبل.
قبل عشر سنوات كان راقدًا فى سريره يعانى الحر حين وجد شخصًا يشبهه تمامًا، بل أجمل منه، لكن فى صورة سُحب من الدخان وصفها بأنها مثل «غزل البنات».
آمن «أحمد زكى» بأنه يرى روحه تخرج منه ثم تعود إليه، وأنها سعيدة ومَرضِيَّة، ولم يكن أمامه سوى أن يخفف من شدة الحرارة التى سببت له عرقًا غزيرًا بلل ثيابه.
حالما انتهت الرؤيا الغريبة وجد نفسه على الأرض بعد أن وقع من على السرير، وعندما قام لم يعرف أين هو؟ وما جرى؟ ونزل بملابس النوم إلى الشارع حافيًا، ثم عاد إلى مسكنه ليضع جسمه تحت ماء بارد.
لم يستطع الطب النفسى تفسير ما حدث، وكان أفضل تشخيص أنها كهرباء زائدة أرسلها المخ، ولكنَّ الشيخ «متولى الشعراوى» قال له:
- ربنا يحبك وجعلك ترى شيئًا يطمئنك.
الرؤيا نفسها تكررت وهو فى «لندن كلينيك»، لكنه شاهد فيها صلاح جاهين هذه المرة، لكن يبدو عليه القلق كأنه جاء ليطمئن عليه ثم اختفى.
جاءت روح صلاح جاهين تزوره قبل أن تستقر فى السماء!
وقتها كان «صلاح» قد مات بالفعل وأخفى كل مَن حول «أحمد زكى» خبر الوفاة عنه بأن نزعوا التليفون من حجرته بحجة أنها تعليمات المستشفى، ومنعوا عنه الجرائد العربية بحجة أنها لم تصل بعد.
كان صلاح جاهين تناول خطًأ أدوية ما بجُرعة أكبر مما قرر الأطباء، وهو ما سبب مزيدًا من المتاعب الصحية زاد منها ضعف رغبته فى الحياة، فكان ما كان.
شعر أحمد زكى بأن هناك شيئًا غير طبيعى.
يقول محمد توفيق، فى كتابه «أحمد زكى ٨٦»:
سأل أحمد زكى زوجته هالة فؤاد: «أمال فين أبوالصُّلح؟... ماسمعتش صوته من ساعة ما خرجت من العملية رغم أنه كان بيتصل بيّا كل يوم فى القاهرة، ولحد أول ما جيت لندن، وكان بيقولّى: لو عايزنى أجيلك، هاجيلك على أول طيارة؟»، فطمأنته هالة، وقالت: ربما اتصل ولم تصل إلينا المكالمة فى زحمة الاتصالات.
وفى اليوم التالى ولم تكن «هالة» قد وصلت بعد، حضر أحد الأطباء المصريين العاملين فى المستشفى للاطمئنان على صحة أحمد، وفى أثناء حديثه معه قال له: «شدّ حيلك... هاقولك خبر حاول تتماسك وأنت بتسمعه لأنى فضّلت أن أقوله لك بدلًا من أن تعرفه من شخص آخر... أبوك مات».
فردّ عليه أحمد متعجبًا: «أبويا مين؟! أنا أبويا مات وعمرى سنتين»... فبادره الطبيب: «أبوك صلاح جاهين مات».
وقعت الصدمة على قلب أحمد ورأسه كالصاعقة، ولم يشعر بنفسه إلا بعد أن نزل مسرعًا من المستشفى فى لندن ليذهب إلى صلاح جاهين ويودِّعه فى القاهرة، ولم يحتمل الجُرح ما فعله، فانفتح وخرجت كمية كبيرة من الدم، وسقط أحمد على الأرض، وحملوه إلى سريره.
وعندها أعاد الأطباء فحصه وجدوا صديدًا يغطى الجرح بطوله، فعاد إلى غرفة العمليات مرة أخرى لإجراء عملية جراحية جديدة تخلِّصه من آثار الصديد.
ومرّت الساعات، وسكنت آلامه نسبيًّا، وأراد أن يعرف متى وكيف رحل جاهين.
وأخبروه بأنه قد دخل إلى المستشفى فى ليلة السادس عشر من أبريل بعد أن اتصل به، واطمأن على وصوله إلى لندن.
بعدها دخل فى غيبوبة دفعته إليها كل الأحداث المحيطة، فلم يتحمل مرض أحمد الذى يعدّه ابنًا له، وفى الوقت نفسه كان غاضبًا من أشياء كثيرة حدثت معه، منها وقف مسرحية له، وأخرى تقوم ببطولتها زوجته منى قطان، وحذْف اسم ابنه بهاء من كاريكاتير كان يحتفى فيه بصدور ديوانه الأول.
لكنّ أكثر ما أثار شجون أحمد هى تلك الرسالة التى حملها له الدكتور أحمد عكاشة من صلاح جاهين وهو على فراش الموت، حين قال لمن حوله قبل ساعات من رحيله: «خلّوا بالكم من أحمد زكى».
وزادت أحزانه لما توقف مشروعهما «القنبلة».
كان «صلاح جاهين» قد كتب فيلمًا لـ«أحمد زكى» وعنوانه «القنبلة»، وهو عمل يعالج قضية الإرهاب، لكن جاء الموت ليحرمهما من اللقاء الفنى.
وحاول «أحمد زكى» أن يقدم العمل بشكل جديد عبر تجسيد شخصية أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، لكن ظروف كثيرة منعته أيضًا.