الإثنين 06 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صلاح جاهين.. صاحب الألف وجه

حرف

من المعتاد والدارج أن نقول: «كان صلاح جاهين»، لكن فى الحقيقة يجب أن نقول: صلاح جاهين كان، ويكون، وسيكون، فهو بالتأكيد الشاعر والرسام الذى اشتبكت كل إبداعاته مع وجدان الناس منذ لحظاته تجلياته الأولى، إذا كان ذلك فى الشعر، ثم فى الكاريكاتير، وبعد ذلك تفجرت مواهبه المتعددة فى التمثيل، والصحافة، والإخراج الفنى، وكتابة السيناريو، وكتابة الأوبريت، ولا أعتقد أن أوبريت «الليلة الكبيرة» يعتبر من أشهر الأوبريتات التى استطاعت أن تتداخل مع الروح المصرية بشكل عميق، وظلّت الأجيال المتعاقبة منذ ولادة الأوبريت حتى الآن، تردده بيسر وعشق ومحبة، وهذا يعود إلى عبقرية صلاح جاهين، الذى شاف وهضم وخَبُر وقرأ وعاش تلك الروح المصرية فى كل تفاصيلها المبهجة والمحزنة والمنتصرة، وفى بعض الأحيان المهزومة، وكانت كتابته للأغانى مجالًا آخر حيويًا وثريًا، عبّر فيه عن كل ما يشغل الروح المصرية وأحداثها المتتالية، منذ انتصار ١٩٥٦، أى انتصار الذات الوطنية المصرية على كافة المؤامرات التى تحاك لها فى الخارج، ومن أعداء الوطن فى الداخل، وهناك إشاعة تقول بأن صلاح جاهين كان يهتف للسلطة، وهذا محض افتراء لسببين مما كتبنا عنه سابقًا بالأدلة والبراهين، السبب الأول أن أحلامه وتمنياته ورغباته الوطنية، تماهت أو اقتربت من أحلام وتمنيات السلطة الوطنية المصرية آنذاك، فهو كان يهتف لأحلامه التى كاد كثير منها أن يتحقق، السبب الثانى، من يتأمل بعمق وضمير غير متربص كافة رسومات صلاح جاهين الكاريكاتورية، سيدرك أنها رسومات ناقدة فى شتى المجالات السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، ففى الفترة التى قضاها فى مجلة صباح الخير من ١٩٥٦ حتى أن «خطفه» محمد حسنين هيكل لجريدة الأهرام عام ١٩٦٢، أبدع جاهين ما يوازى إبداعات فنانين آخرين بأكملهم، غزارة وعبقرية وابتسامات مبهجة، وابتسامات مؤلمة، صلاح جاهين تنطبق رسوماته على مقولة «شر البليّة ما يضحك»، فهو يجعلنا نضحك على آلامنا، لكى نستوعبها، ونسعى لتغييرها، وأحدث انقلابًا فى الكاريكاتير المصرى، وأعتقد أن مرحلة مجلة «صباح الخير»، هى التى عملت على تمصير الكاريكاتير المصرى بعد الفنانين الكبيرين «صاروخان ورخا»، ثم بعدهما طوغان وعبدالسميع، وجاء صلاح جاهين لكى يستوعب ويدرس ويتأمل الروح المصرية لكى يبدع فى كل وجوه الرسم والكتابة.

ولم تكن رحلة صلاح جاهين إلى فن الكاريكاتير سهلة قبل أن يبدع تلك المدرسة الفريدة فى الرسم، إذ كان صلاح جاهين ينتمى إلى فصيل اليسار فى أواخر الأربعينيات، وأوائل عقد الخمسينيات، وكان عضوًا فى مكتب الأدباء، وهو القطاع الثقافى المنبثق عن حركة حدتو «الحركة الديمقراطية للتحرر المصرى»، وكان ذلك المكتب يضم عددًا كبيرًا من المثقفين اليساريين منهم يوسف إدريس وعبدالرحمن الخميسى وصلاح حافظ وحسن فؤاد وابراهيم فتحى وعبدالرحمن الشرقاوى وصلاح جاهين وغيرهم، وكانت صحيفتا «الكاتب» لصاحبها ورئيس تحريرها يوسف حلمى، و«الملايين» لصاحبها ورئيس تحريرها أحمد صادق عزام، متعاطفتين مع اليسار المصرى، لذا اتجه معظم هؤلاء لنشر كتاباتهم فى الصحيفتين، وكان جاهين من هؤلاء، ونشر شعرًا فصيحًا، وكذلك رسوماته الأولى، وكان الدكتور والشاعر مصطفى هيكل، وهو ابن شقيق الدكتور محمد حسين هيكل، أحد الضالعين فى نشاطات الحركة الشيوعية، وأسس تنظيم القلعة، وهو كذلك من أوائل التنظيمات التى قادت الحركة الشيوعية، أى أنه تأسس فى عام ١٩٣٩، قبل «حدتو»، وحمتو «الحركة المصرية للتحرر الوطنى»، وكذلك هو أول من كتب نقدًا علميًا لرواية زقاق المدق عام ١٩٤٧، على عكس الشائع، بالإضافة إلى أن مصطفى هيكل كان باحثًا ومفكرًا سياسيًا، كان أحد رواد قصيدة النثر فى مصر، وأصدر ديوانه «مع الجماهير» فى مايو ١٩٥٢ أى قبل قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، واختار الشاب الرسام والشاعر صلاح جاهين لكى يخرج له الديوان، ويرسم غلافه، ورسوماته الداخلية، ومن الطريف أن مصطفى هيكل نشر قصيدة لصلاح جاهين فى ديوانه وكتب مقدمة قصيرة لها قائلًا: «الغضب.. استمعت إلى هذه القصيدة للفنان صلاح جاهين، فضممتها إلى نماذجى كقطعة من الشعر الواقعى واضح الأهداف»، وتعد تلك التجربة هى المقدمة الأولى التى نقلته إلى مجلة «بنت النيل» لصاحبتها ورئيسة تحريرها درية شفيق، ونشر فيها كثيرًا من إبداعاته، وله قصة عنوانها «الذهب» منشورة فى أحد أعداد المجلة، وفى عام ١٩٥٤ ذهب ليعمل فى مجلة الهلال، وكان معه الفنان الشاب هبة عنايت وزوجته تماضر، وعندما علم أن المطلوب ليس رسامًا وفقط، بل كان المطلوب رسام كاريكاتير، وكاد جاهين يعتذر عن عدم الالتحاق بالمجلة، ولكن هبة عنايت حرّضه ودفعه للدخول للاختبار، وعندما دخل وخرج، لم يصدق ما حدث، إذ تم قبوله كرسام كاريكاتير فى المجلة، وكانت مرحلة مجلة الهلال مدرسته الأساسية فى التدريب على الإخراج الفنى والصحفى، وهذا ما جعله دينامو مجلة صباح الخير التى صدر عددها الأول فى ١٢ يناير ١٩٥٦، وقبلها أى عام ١٩٥٥ كان قد التحق بمجلة روزاليوسف، وعندما دقت ساعة العمل للشروع فى صناعة حدث كبير وهو مجلة صباح الخير، ووقع اختيار الفنان العظيم حسن فؤاد على صلاح جاهين لكى ينفذا إخراج المجلة من الألف إلى الياء، وبالفعل اعتكف حسن وصلاح لمدة أسبوع كامل، وانقطعا عن العالم حتى أخرجا أهم حدث صحفى جاء فى تلك الفترة، وبعد صدور المجلة، انطلق المارد الذى كان يكمن فى روح صلاح جاهين، طاقة مهولة فى الشعر والكاريكاتير وكتابة الأغانى الوطنية، والأوبريت، وبعد ديوان «كلمة سلام»، الذى كتب عنه واستقبله نقاد كبار فى تلك الفترة، على رأسهم أحمد بهاء الدين ومحمود أمين العالم، وفتحى غانم، بعدها أصدر ديوانه الثانى «موال عشان القنال»، ثم «عن القمر والطين»، و«قصاقيص ورق»، و«رباعيات»، وكان ديواه الأخير «أنغام سبتمبرية»، وفى تلك الفترة الأولى ذاع اسم صلاح جاهين، وأصبح واجهة مصرية عظيمة، واختارته الدولة لكى يمثل مصر فى مهرجان الشباب فى موسكو، هو وحسن فؤاد ولطفى الخولى، وكتب الثلاثة كتابًا مشتركًا يكاد يكون مجهولًا، وهو كتاب «زهرة فى موسكو».

بالطبع كانت رسومات صلاح جاهين الكاريكاتورية، صادمة إلى حد كبير للذائقة التقليدية القديمة، واعتبرها كثير من القراء والمتابعين، أنها خارجة عن الذوق العام، بل هادمة له، خاصة باب «نادى العراة»، والذى تقوم فلسفته على أن الإنسان ولد عاريًا كما خلقه الله، وبالتالى فأى تغطية لذلك الجسد، فهى نوع من الافتراء، أو تقزيم جماليات الجسد، ومن هنا أبدع جاهين فى ذلك الباب أيّما إبداع، وعندما تكاثرت الخطابات والتساؤلات حول خروج تلك الرسوم عن الذوق العام كما زعم الرجعيون، وما هى إلا الخروج فقط عن المألوف، صلاح جاهين جعل الناس يفكرون فى ذلك المألوف والسائد والمستقر، على أنه غير مألوف لكى يتمردوا عليه، لذلك جاءت أبوابه الكاريكاتيرية: صباح الخير أيها المجانين، صباح الخير أيتها الحارة، صباح الخير أيها الضمير، وهكذا، فضلًا عن سلسلة «قهوة النشاط» العظيمة، ثم باب «الفهامة» وهكذا، ولذلك عندما أرسل الناس والمتابعون تساؤلاتهم عن خروج صلاح جاهين وبعض رسامى المجلة عن المألوف، رد عليهم أحمد بهاء الدين فى العدد التاسع من المجلة، والصادر بتاريخ ٨ مارس ١٩٥٦، ليرد على كل الاستفسارات والتساؤلات حول تلك الرسوم الغرائبية من وجهة نظر القراء، ولكنه لم يقمع أو يمنع ريشة فنان واحد من العمل فى مساحات إبداعية عظيمة، رحم الله صلاح جاهين العظيم، وكل مبدعى وكتاب مصر الكبار.