الثلاثاء 07 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«Heretic».. هل الأديان «نُسخ مُكررة» انتشرت بـ«الماركتينج»؟

حرف

- الديانات الثلاث الكبرى «تكرارات» من مصدر واحد وتشترك فى عدة قصص

- المسيحية تنتشر أكثر من اليهودية لأنها تروج لنفسها عبر حملات التبشير

- «المبشرون» مثل مندوبى مبيعات يروجون للدين مثل أى سلعة أو منتج

- صانع المعجزات المولود من عذراء قصة موجودة قبل 1000 عام من ولادة المسيح

هل تخيلت يومًا أن الأديان نُسخ مُكررة من بعضها البعض؟ هل سألت نفسك: لمَ ينتشر دين أكثر من آخر؟ ما سر انتشار المسيحية والإسلام أكثر من اليهودية، والأخيرة هى الأقدم من بين الثلاثة؟ 

هل تعرف أن صانع المعجزات الذى وُلِد من رحم امرأة عذراء، قصة شائعة جدًا قبل 1000 عام على الأقل من ولادة المسيح؟ هل تعلم أن المعبود الهندى «كريشنا» مثلًا ولد من عذراء، وتعمد فى النهر، وعاد من الموت ثم ارتقى للسماء؟!

هل سألت نفسك يومًا إذا كان من الممكن أن تؤمن باعتقاد ما، لأن أحدًا أخبرك فى سن معينة بأن هذا الاعتقاد حقيقى، وتظل على اقتناع وإيمان به، رغم ما ينتابك من شكوك حوله مع التقدم فى السن، فقط لتشعر بالراحة وتتجنب الرعب الذى قد يصيبك إذا ما عرفت أن كل شىء كذبة؟

كل هذه وأكثر من الأفكار المثيرة للجدل، عرضها الفيلم الذى يستحق المشاهدة «Heretic» أو «المهرطق، الزنديق، المارق»، ونترككم مع أبرزها فى السطور التالية.

الدين الحقيقى الوحيد

يبدأ فيلم «Heretic» أو «المارق، المهرطق، الملحد» بمشهد استهلالى عن التسويق، وكيف يمكن له أن يقنع المستهلكين بما هو على خلاف الحقيقة فى منتج، فكرة ما. كيف يجعلك تؤمن تمامًا بأن سلعة ما تفوق الأخرى، وعندما يعرض لك أحدهم أدلة تكشف ما تعرضت له من خداع، تتحول أنت نفسك إلى مُسوِق لهذا المنتج، فتدافع عنه وتبدأ، حتى دون وعى منك، فى تسويقه لغيرك.

فكرة أخرى أكدها الفيلم فى بدايته، هى أن الاعتقاد القوى فى شىء ما، قد يدفعك للاستدلال عليه بأى شىء. هذا الاعتقاد الذى دفع «الأخت باكستون-كلو إيست» إلى الاستدلال على وجود الله بمشهد إباحى!

تدور عجلة الفيلم ببطلتيه الرئيسيتين: «الأخت بارنز/صوفى ثاتشر» و«الأخت باكستون/كلو إيست»، التابعتين لإحدى الكنائس المسيحية الشهيرة، ومهمتهما «التبشير» لها.

تذهبان معًا لطرق الأبواب، وتعريف سكان بيوتها بالمزيد عن هذه الكنيسة، وعن المسيح والمسيحية والأنبياء، وكأنهما تستكملان رسالات الأنبياء فى هداية البشر.

تذهبان إلى «السيد رييد/هيو جرانت»، الذى تواصل من قبل مع الكنيسة، مبديًا رغبته فى معرفة المزيد عنها، وهى كنيسة «يسوع المسيح لقديسى الأيام الأخيرة» أو «The Church of Jesus Christ of Latter-day Saints».

و«يسوع المسيح لقديسى الأيام الأخيرة» كنيسة مسيحية يتبعها أكثر من ١٦.٨ مليون شخص حول العالم، ويؤمن أتباعها بالكتاب المقدس، إلى جانب ٣ كتب أخرى يعتبرونها مقدسة وهى: «مورمون» و«المبادئ والعهود» و«الخريدة النفيسة».

وبينما تستغرق إحدى الأختين فى توصيل ما جاءت من أجله هى وزميلتها من رسائل تبشيرية، ينجح السيد «رييد» فى إقناعهما بدخول المنزل، فى ظل هطول الأمطار بغزارة فى الخارج، بعد أن يخبرهما بأن لديه زوجة فى المنزل، وأنها ستأتى للقائهما قريبًا، بعد إعدادها فطيرة توت لهما.

يبدأ «السيد رييد» بعدها فى الحديث مع الأختين، لتنساب الرسائل الفلسفية والفكرية للفيلم على لسان المضيف الغامض، الذى يستعرض نظريته الخاصة فى الدين، نظريته عن «الدين الحقيقى الوحيد». 

تعدد الزوجات

يخبر «السيد رييد» ضيفتيه بأنه كان فى صراع شخصى، صراع متعلق بالإجابة عن سؤال شغله لفترة طويلة جدًا: «ما الدين الحقيقى الوحيد؟». تلتقط إحدى الأختين «شك» الرجل، وتبدأ فى مهمتها التبشيرية، مخبرة إياه بأن الشك الذى شعر به هو ما قاد جوزيف سميث لتأسيس كنيستهم، بعد أن «استقصى عن العديد من المذاهب المختلفة، المشيخية والميثودية والكاثوليكية، ولم يكن أى منها مناسبًا تمامًا».

- هل لى أن اسألكما سؤالًا محرجًا، سؤالًا سخيفًا.. تبدأ صدمات ومفاجآت السيد «رييد» للفتاتين.

يسأل: ما شعوركما تجاه تعدد الزوجات؟ تبدو الدهشة على الاثنتين، قبل أن ترد إحداهما السؤال بسؤال: هل تسأل من منظور الإنجيل؟ 

رد: «المورمونية» لها تاريخ مثير للجدل فى ممارسة كراهية النساء، تلك الكراهية التى تمثلت فى السماح للرجل بتعدد الزوجات، قبل أن تُحرم الكنيسة هذا الفعل فى عام ١٨٩٠، معتبرة إياه وصمة عار على سمعتها.

ينبه بعدها إلى أن الكنيسة استخدمت «الوحى»، كلمة الرب إلى النبى، لإلغاء «ركن دينى استفزازى» بدا بغيضًا فى الأزمنة المعاصرة، بعد أن أقره وسمح به جوزيف سميث، مؤسس «المورمونية»، أيضًا استنادًا إلى «الوحى»!

تدخلت «الأخت بارنز» مُدافعة عن تصرف مؤسس كنيستها قائلة: «أعلم أنه قد يكون من الصعب فهم ذلك، لكن تعدد الزوجات كان مهمة روحية مطلوبة فى ذلك الوقت، من أجل تنمية أعداد أتباع المسيحية، بعد الأوقات العصيبة وإراقة الدماء التى مرت بها، فزواج الرجل بأكثر من امرأة، يعنى أن هناك المزيد من الأطفال لمساعدة المجتمع المسيحى على النمو». ثم أضافت: «بعدها منعته الكنيسة، ليس فقط لأنه بشع ومثير للجدل، بل لأنه لم يعد ضروريًا».

لكن السيد «رييد» يواصل صدماته: «سامحانى عن لغتى الفظة، أعتقد أن جوزيف سميث استخدم تعدد الزوجات لإضفاء الشرعية على علاقاته الغرامية مع نساء آخريات. زوجته إيما سميث كانت مستاءة حين ضاجع فانى ألجر، خادمتها ذات الـ١٦ ربيعًا. أعتقد أنه «سميث» دبر خطة لاستغلال «الوحى» لممارسة الجنس بلا عواقب، بعد ذلك التصرف الطائش مع خادمته».

وقبل أن تفيق الأختان مما سمعاه عن مؤسس كنيستهما، وجه السيد «رييد» تساؤلًا مهمًا عن «الوحى»: «إذا مر وحى الرب خلال إنسان، وكان ذلك الإنسان معيبًا وآثما وكاذبًا، فكيف نعرف أن ما نقله لنا صحيحًا؟!».

قالت «الأخت بارنز»: «نعلم أنه صحيح لأننا نشعر به».

ضحك السيد «رييد» وكأنه كان ينتظر هذه الإجابة، ثم ألقى قنبلته التى أرادها من بداية هذه المحادثة: «أصبتِ! هذا صحيح تمامًا! إننا متفقان الآن! علاقتنا الشخصية مع الرب هى ما يهم».

قالها هيو جرانت وكأنه يستحضر أبى فراس الحمدانى عندما قال:

وليت الذى بينى وبينك عامر *** وبينى وبين العالمين خراب 

إذا صح منك الود فالكل هين*** وكل الذى فوق التراب تراب.

الدين فى «ماكدونالدز»

هذه الصدمة الأولى. أما الصدمة الثانية فكانت تشبيه «السيد رييد» الأديان بمطاعم الوجبات السريعة:

ما وجبتكما السريعة المفضلة؟... سأل الرجل.

أجابت إحدى الأختين مستعرضة عددًا من مطاعم الوجبات السريعة، من بينها «برجر كينج» و«هارديز» و«ويندى».

سألهما: هل يمكن أن نتحدث عن «ويندى»؟

ولما أجابتاه بـ«نعم»، قال: «هل تعلمان، لم يسبق لى أن تذوقت (ويندى)».

ثم أضاف: «عندما بدأت دراسة اللاهوت، آخر شىء أردت أن أفعله هو البحث عن (ويندى الأديان). كنت أتناول بعضًا من (ماك ناجتس) و(بى كاى ووبر)، وفق حالتى المزاجية. وكلما درست هذه الوجبات، المورمونية العلماوية الإسلام البوذية، اقتربت من الرب، وعملت على علاقتى الشخصية مع الآب السماوى، اعتقد أن هذا عززها».

ثم سأل: «هل تعلمان ماذا اكتشفت؟». أجاب على نفسه: «كلما عرفتُ أكثر قلت معرفتى»!

واصل عرض فكرته: «حين بلغت الخمسين عانيت من سوء تغذية، رغم وجبات الدين السريعة التى أطعمتها لذهنى طوال عقد من الزمان. كل ملة وطائفة وعقيدة ومذهب، تدعى أنها الشريعة الصحيحة الوحيدة. رغم أنه لم يكن أى منها يبدو صحيحًا، حين تحريت عنها. لذا تساءلت ماذا هناك أيضًا؟ أقسم أن آخر شىء أردت فعله هو ايجاد (الدين الحقيقى الوحيد)، لكن لسوء الحظ وجدته!»... توصل إلى أنه غير موجود!

تكتشف الأختان أن السيد «رييد» قد حبسهما داخل منزله. وقبل أن يتملكهما مزيد من الرعب يسألهما: هل تؤمنان بالله لأن أحدهم أخبركما فى سن معينة أن الله حقيقى، رغم الشكوك التى تراودكما مع تقدمكما فى السن، ورغم رؤيتكما أدلة تدعم هذه الشكوك؟

يتوجه بعدها إلى «الأخت بارنز»، التى أخبرته فى بداية الفيلم بمعاناة والدها من مرض «التصلب المتعدد». يتوجه إليها ويسألها: «عندما فقد والدكِ السيطرة على جسده، هل تعتقدين أنها كانت خطة الله لتدمير حياته؟ أم أنكِ واصلتِ تصديق شىء تعرفين أنه غير صحيح، فقط ليمنحكِ الراحة، لأنكِ كنتِ خائفة مما قد يعنيه إذا كان كل شىء كذبة؟!».

فى بداية الفيلم، كان «السيد رييد» قد وضع شمعة عطرية برائحة التوت، وأقنع الأختين بأن زوجته، غير الموجودة، تُعدلهم فطيرة بالتوت. هنا ذَكّرهم بتلك الشمعة، ثم قال لهما مؤكدًا فكرته حول «الشك»: «لقد وضعت الشمعة العطرية على الطاولة لأننى أردتكما أن تفكرا فى الأشياء التى تؤمنان بها لأن شخصًا طلب منكما أن تصدقانها، حتى لو كانت غير حقيقية!».

بنك الحظ

نصل الآن إلى ذروة الفيلم، قمة الإثارة فى أحداثه، عندما يخرج «السيد رييد» للفتاتين اللعبة اللوحية الشهيرة «مونوبولى»، الأقرب إلى لعبة «بنك الحظ» فى منطقتنا العربية.

هذه اللعبة تحظى بشهرة واسعة للغاية، تنتشر بـ٤٧ لغة، وتُباع فى أكثر من ١١٤ دولة، ويُقال إن أكثر من مليار شخص لعبها حول العالم.

بخلاف «مونوبولى»، هناك لعبة لوحية أخرى صدرت فى عام ١٩٠٤، تدعى «The Landlord.s Game» أو «المالك، المحتكر»، وهى مطابقة تمامًا لـ«مونوبولى» فى كل شىء، فيها السجن ومواقف السيارات والغرامات عند التعدى على ممتلكات الآخرين، والهدف النهائى للعبتين واحد، وهو امتلاك كل شىء لهزيمة خصمك.

صُممت لعبة «المحتكر» القديمة من قبل الناشطة النسوية الأمريكية، إليزابيث ماجى، قبل ٣ عقود من تغيير بائع سخانات من فيلادلفيا الاسم إلى «مونوبولى»، وبيعها على أنه من تصميمه لشركة «باركر براذزز» فى عام ١٩٣٥.

هذا الرجل يدعى تشارلز دارو، الذى أصبح أول مصمم ألعاب مليونير فى التاريخ. بينما ماتت إليزابيث ماجى المسكينة دون أن يُنسب إليها الفضل فى التأثير الكبير الذى أحدثته اللعبة على الثقافة الأمريكية.

ما علاقة ذلك بحديثك عن الأديان؟

يقول السيد «رييد» إن «التكرار» هو ما يربط الأديان بهاتين اللعبتين.

كيف؟

يقول:

هناك ٣ ديانات توحيدية رئيسية: الإسلام والمسيحية واليهودية.. يمكن أن نسميها «الديانات الثلاث الكبرى».

اليهودية: الديانة الأصلية، أو اللعبة القديمة «The Landlord.s Game».

المسيحية: الديانة الأكثر شعبية، أو اللعبة الأحدث «مونوبولى».

الإسلام: الديانة الأحدث، والأكثر شعبية أيضًا بعد المسيحية، أو «مونوبولى المطورة».

يضيف: «هذه كلها تكرارات من نفس المصدر. نصوص الديانات الثلاثة الكبرى تشترك فى العديد من الشخصيات والتواريخ، مع تقديمها بمعان ووجهات نظر مختلفة فى كل ديانة منها».

ويواصل: «اليهودية هى الديانة التوحيدية الرئيسية، والتى ينبغى أن تضم، وبفارق كبير، أكبر عدد من التابعين، ومع ذلك، لا تشكل سوى ٠.٢٪ من سكان العالم». قبل أن يتساءل: «لِمَ هذا؟ لِمَ الأصل أقل شعبية من النسخة المُكررة أو المُقلدة؟».

يجيب: «اليهودية لديها أقل عدد من الأعضاء لأنها لا تروج لنفسها. لا يوجد شخصان مثلكما يطرقان الأبواب ويبيعان للناس حياة أفضل.. لعبة لوحية أفضل»، معتبرًا أن «المُبشرِين بمثابة مندوبى مبيعات لمنظمة ما، والمنتج الذى يبيعونه هو الفكرة.. الدين.

يتحول «السيد رييد» بعدها إلى مندوب المبيعات هذا الذى يتحدث عنه، ويبدأ فى ترويج فكرته الأساسية فيقول الآتى:

النصوص المقدسة التى نبجلها هى مجرد تكرارات أسطورية للقصص التى كان القدماء يروونها لبعضهم البعض منذ قرون. إنها ليست صادقة أو حقيقية ، بأى معنى حرفى، هى مجرد «ساقية» لحقيقة أقدم.

قصة «المنقذ» الذى وُلِد من رحم امرأة عذراء، ويصنع المعجزات، وخُلق بطريقة خارقة للطبيعة، شائعة جدًا قبل ١٠٠٠ عام على الأقل من ولادة المسيح. 

صنع «ميثراس» المعجزات وتم تمييزه بعلامة الصليب.

«حورس» مشى على الماء، وصُلب، وكان له ١٢ تلميذًا. 

«كريشنا» كان نجارًا وُلد من رحم امرأة عذراء، وتعمد فى النهر، وعاد من الموت ثم ارتقى إلى السماء.

هناك ١٢ إلهًا ولدوا فى ٢٥ ديسمبر، وجميعهم سبق وجود المسيح.

من المستحيل تجاهل حقيقة تأثير رواية مما سبق على أخرى، أو تجاهل حقيقة أن كل هذه القصص تتكرر.

بعدها يصل إلى الحقيقة المرعبة، التى أرى أنها الختام الأمثل للفيلم، قبل نهايته بساعة كاملة، إذ تُقدم ما يمكن اعتباره الحل للمعضلة الخالدة، المتمثلة فى الاختيار بين «بابى الخروج»: «الإيمان» و«الكفر»:

إذا ما كان الله حقيقيًا، ويراقبنا عندما «نستمنى»، ولديه غرور هش لدرجة أنه لا يساعدنا إلا عندما نتوسل إليه ونمطره بالثناء... فهذا مُرعب حقًا.

وإن لم يكن هناك إله، وكنا مجرد نمل مجهرى شهوانى يطفو على صخرة عبر الفضاء بلا هدف، ولا أمل بالظفر بحياة أبدية.. فهذا مرعب جدًا!