ساحر الكتابة... صبرى موسى.. ابن البحر والنهر والصحراء
- كان سباقًا فى كسر القوالب الفنية المتعارف عليها
- قرأت له أول ما قرأت فى «صباح الخير» مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة ولاحظت أن الوصف ينطبق عليه بِدِقَة أيضًا
- أثبت أن «السيناريو» عمل إبداعى مستقل بذاته
«السيرة والمذكرات» منطقتى المفضلة فى القراءة من صغرى، فيها وجدت سحر الحياة وسرها، جنونها وحكمتها، فرحها وغضبها، وأيضًا رضا الإنسان وتمرده، تجبّره واستسلامه، توهجه وانطفاءه، وفى مساحات متباينة بين الواقع والخيال، الصدق والكذب، الزهو والتواضع، الحب والكره، الحلو والمر، قضيت الأيام والليالى، وخاصة فى سنوات التكوين، فلم أجد سيرة ومذكرات المشاهير فى مختلف المجالات إلا قصص نجاح مُلهمة، بخلاف أنها جاءت دائمًا مدخلًا لقراءة دفتر أحوال البلد فى حياة صاحب السيرة أو المذكرات، كل هذا مثّل الدافع الأكبر نحو التخصص بالأساس فى هذا المجال وقتما أصبحت ناشرًا، وهنا فى «حرف» نفتح ملفًا نستعرض فيه بعضًا مما قرأت فى «السيرة والمذكرات».
لم ألتقِ صبرى موسى، رحمة الله عليه، ولا تندهش من ذكرى اسمه دون ألقاب، فمثله اسمه وحده يصلح عنوانًا لمدونة إبداع تحمل كل الألقاب، قرأت له أول ما قرأت فى «صباح الخير» مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة، ولاحظت أن الوصف ينطبق عليه بدقة أيضًا، فلم أرصد إبداعه يومًا إلا مكتوبًا بقلبٍ شاب وعقلٍ متحرر، سواء كان هذا الإبداع صحافة أو قصة قصيرة أو رواية أو سيناريو، عمل أيضًا مُدرس رسم فى مُقتبل حياته المهنية، هو إذًا ابن الخيال، واكتمل خياله بسحر التعبير عنه، ولم يقيد الشكل فى أى وقت مضمون ما يكتبه، حتى إنه كسيناريست أخذ أصل العمل الأدبى إلى آفاق أرحب، ساهمت فى التأسيس لفن السيناريو كعمل إبداعى مستقل.
أدب الرحلات
لم يكتب صبرى موسى سيرته أو مذكراته، وإن كان بعض رصيده الإبداعى جاء فى هذه المنطقة أو يمكن تصنيفه بها، خاصة ما كتبه فى أدب الرحلات «فى الصحراء»، «فى البحيرات»، و«رحلتان إلى باريس واليونان»، والتى أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان «من أدب الرحلات» ضمن مشروع الأعمال الكاملة له، ثم أصدرتها دار «ريشة» للنشر والتوزيع بعنوانها الأصلى «الصخر والبحر؟.. مصر كما رأيتها فى الستينيات!» وهو المدون بخط يد مؤلفها صبرى موسى على إحدى نسخ طبعة الهيئة، والتى كانت الأصل الوحيد المتوافر لإعادة نشره فى «ريشة» وهو ما دفعنى إلى نسخها بنفسى على جهاز الكمبيوتر تمهيدًا لإنتاجها فى كتاب، ولم أفعل هذا إلا حرصًا على إبداع صبرى موسى، فبخلاف لغة السرد الخاصة بالرجل جاء الحوار بالعامية بلهجة المناطق التى زارها فى رحلاته، والتى تحمل مفردات خاصة جدًا بها، قد يتصورها الناسخون من الأجيال الجديدة خطأ مطبعيًا، يُحْتَمَل معه اجتهادهم نحو تصويبها بخطأ أكبر يشوه فى النهاية عملًا أدبيًا بديعًا، اللغة واللهجة فيه من أهم مقومات إطلاق خيال القارئ بسحر ما يقرأه.
سيرة وأوراق واعترافات
اقترابى من عالم صبرى موسى من خلال أدب رحلاته، وقراءتى روايته الخالدة «فساد الأمكنة»، التى جاءت فى وقتها صيدًا إبداعيًا ثمينًا لرحلاته فى ربوع مصر، حيث كان يبدأ هذه الرحلات من القلب قبل المكان، وارتباط اسمه كسيناريست بأفلام أخذت مساحتها فى وجدان جيلى قبل وعيه، خاصة تلك المتصلة بأدب الكاتب الكبير يحيى حقى «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم» وكيف أخذ صبرى موسى بموهبته ورؤيته القصة الأدبية فى كلٍ منهما بعيدًا مُنبهًا ومبرهنًا على استقلالية فن السيناريو كعمل إبداعى لا يضيف فقط إلى النص الأدبى الأصلى، وإنما ينطلق من فكرته ورسالته نحو خلق عالم آخر له، كل هذا وغيره مما ترسخ فى تكوينى من إبداع صبرى موسى، كان دافعًا حمسنى دون تردد لنشر سيرته التى دونها أحد أهم تلامذته ومعايشيه عن قرب، الكاتب الموهوب المجتهد أيمن الحكيم، والتى صدرت مطلع هذا العام تحت عنوان «صبرى موسى ساحر الكتابة.. سيرة وأوراق واعترافات»، وفى مقدمتها كتب المؤلف:
«صبرى موسى لم يمضِ، كل الدلائل تشى وتؤكد حضوره، فما تركه من إبداع أدبى وإنسانى يستعصى على النسيان، ففى الرواية والقصة تجد بصمته المُتفردة، وفى السينما وفن السيناريو لا تملك نفسك من الدهشة والإعجاب، وفى أدب الصحراء كان رائدًا، بل استطاع باكتشافاته أن يغيِّر خريطة مصر، وفى العمل الصحفى كان أستاذًا وصاحب طريقة وتلاميذ، وفى الإعداد التليفزيونى تكتشف أنه واضع الأسس والقواعد التى نسير عليها حتى اليوم، وفى الأثر الإنسانى يمكنك أن تسمع حكايات بلا عدد ومواقف بلا توقف عن هذا الرجل الذى عاش بأخلاق الفرسان ومبادئ النبلاء فى زمن لا يعترف بالنبل والفروسية».. صدقت يا أستاذ أيمن.
رحلة الفن والجمال
قدم كتاب أيمن الحكيم الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، واصفًا رحلة صبرى موسى برحلة الفن والجمال، كما يرى الوصف ينطبق على رحلة أيمن الحكيم فى الكتاب:
«أبدأ حديثى عن هذا الكتاب الرائع بهذه الكلمات التى كتبها أيمن الحكيم مؤلف الكتاب، هى من ناحية حقيقة لمن عرفوا صبرى موسى واقتربوا منه، ومن ناحية هى تلخيص لما فعله أيمن الحكيم فى الكتاب من جهد وبحث عظيم فائق، الكتاب يأخذك مع صبرى موسى منذ النشأة فى رأس البر بـ(دمياط) إلى الرحيل، عبر رحلة التعليم والقراءة والولع بالثقافة والكتابة، حتى حضوره ليضىء سماء القاهرة فى عالم الصحافة والأدب والفن، اعتمد أيمن الحكيم فى ذلك على حقائق ووثائق وأحاديث صبرى موسى نفسه أو أحاديث من عاصروه، وهذا جهد عظيم فى البحث وتحرِّى الحقائق والأزمات والنجاحات، ليس الكتاب مجرَّد محبة لـ صبرى موسى، لكنه درس رائع فى الكتابة عن الآخرين، سواء أكان من جانب السيرة أم جانب التحليل والشرح لإنتاجهم الثقافى، وكيف عاشوا وسط صخب السياسة والثقافة».
الكتابة على الحافة الحرجة
ضمن مشروع الأعمال الكاملة الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مطلع التسعينيات من القرن الماضى، ضم المجلد الثالث منها مجموعتين قصصيتين، هما «القميص» و«لا أحد يعلم»، ومهد لهما بدراسة نقدية مطولة تحت عنوان «الكتابة على الحافة الحرجة» الناقد الكبير الدكتور غالى شكرى، فلنقرأ بتصرف موجز بعضًا مما كتب:
«من أقدم قصص هذا المجلد قصتان عن الكاتب والكتابة. إحداهما عنوانها (الجدار) ومؤرخة عام ١٩٥٣، والثانية عنوانها (الإنسان) غير مؤرخة، ولكنها نُشِرَت فى مجموعة (القميص) الصادرة عام ١٩٥٨ مما يُرجح أنها كُتبت فى الفترة ذاتها التى كُتبت فيها القصة الأولى. وفى ظنى أن هاتين القصتين حميمتان لـ صبرى موسى، فهما وجهان عاريان لمعنى (الكاتب) ومدلول (الكتابة) فى حياة الجيل الذى ينتمى إليه. وجهان عاريان لحد القسوة. لم يكن صبرى موسى واقعيًا اشتراكيًا. كان يرى الواقع أكثر سلبًا مما يراه الآخرون. وكان يرى فى الكتابة وحدها ملاذًا من السلبية وبعدًا عن العمل السياسى. ولم يكن يرى نفسه تلميذًا أو رفيقًا للرومانسيين الآفلين. كان- دون أن يعى ذلك- يجسد إشكالية عبر عنها فى جمالٍ خصبٍ أمين ريان حين كتب روايته الرائدة (حافة الليل)، وعبر عنها صبرى موسى نفسه فى روايته القصيرة (حادث النصف متر). عملان يحاولان البحث عن رؤى جديدة وسط الظلام. لم ينجرفا مع السيل الهادر للواقعية ذات الرؤى الواضحة التى شجعتها الثورة على مواكبة القشرة الخارجية للواقع. ولم يكن ممكنًا لهما الانخراط فى ركب الرومانسية الآفلة. وإنما كان هناك صراع بين الكاتب والموجة الجديدة الزاحفة المنتصرة، وصراع آخر بين الكاتب والمكتوب».
استطاع إذًا صبرى موسى أن يحجز له مكانًا وسط تيار الكتاب المجددين، فلا هو واقعى اشتراكى حد النخاع كما صار تيار من الكُتاب بما يواكب تحولات ثورة يوليو ١٩٥٢، ولا هو رومانسى حالمٌ يعيش المستحيل بعيدًا عن الواقع، هو مع يوسف الشارونى وفتحى غانم وأمين ريان وإدوار الخراط شكلوا فى الخمسينيات تيارًا أدبيًا حداثيًا، سواء من ناحية قوالب خرجت عن المألوف، أو أسلوب غلبت عليه لغة الصحافة، أو مضمون صادم فى أحوال كثيرة، كَتب إذًا صبرى موسى على الحافة الحرجة بالفعل.
السيد من حقل السبانخ
الكبار من الأدباء والكتاب والنقاد أجمعوا على سبق صبرى موسى فى التجريب وكسر أنماط القوالب الفنية لصالح المضمون، فهو يكتب ويطرح رؤيته دونما النظر إلى ضرورة أن يكتمل البناء الفنى فى أحد الأشكال المتعارف عليها أدبيًا، وحسه ولغته الصحفية ظلا طوال رحلته من السمات الأساسية المميزة الشاخصة بقوة فى إبداعه المتنوع الثرى، تلحظهما فى فكرة أو لقطة أو عنوان أو أسلوب أو إيقاع، ونحن نتحدث عن التجريب فى إبداع صبرى موسى لا يمكن تجاهل رائعته السباقة فى أدب الخيال العلمى أو ما يُعرف بأدب ما وراء الطبيعة، رواية «السيد من حقل السبانخ» الصادرة فى طبعتها الأولى سنة ١٩٨٢، والتى تحكى مأساة عالِم فقد السيطرة على نفسه فسمح للآلة أن تستعبده وللكمبيوتر أن يهديه سواء السبيل، وفيها يأخذنا صبرى موسى فى رحلة إلى المستقبل سنة ٢٤٨١م؛ ليستعرض نموذج المدن القائمة على العلم بالأساس بديلًا للمدن الفاضلة التى تحلم بها البشرية طوال تاريخها، وكيف أن الرجل تنبأ بعصر تحكمه صراعات القوى الدولية على الأرض والقوميات، والتى ستكون محصلتها فى النهاية الهلاك بسبب توظيف هذه القوى التطور التكنولوجى فى صراعاتها، فلا تصلح الأرض بعدها لحياة البشر، وهو ما نعيش بالفعل مؤشراته هذه الأيام.
اعترافات صبرى موسى
أعود بكم مرة أخرى إلى كتاب أيمن الحكيم «صبرى موسى ساحر الكتابة.. سيرة وأوراق واعترافات» لنقرأ معًا فى الختام بعضًا من اعترافات صبرى موسى التى ختم بها «الحكيم» أيضًا كتابه واصفًا إياها بأنها أصدق ما يعبر عن شخصية صبرى موسى وحياته، اخترت منها بتصرف موجز:
• أنا ابن البحر والنهر والصحراء، ولدت فى مدينة رأس البر بـ«دمياط» ومنذ اللحظة الأولى تشكل تكوينى من النهر والبحر، ثم أضيف إليهما عشقى المبكر للصحراء، ومن البحر والصحراء طغى جانب التأمل على شخصيتى، ومعهما اكتشفت نفسى.
• تمنيت كثيرًا فى صباى أن أكون شاعرًا، وحاولت كتابة الشعر، وما زلت بعد هذا العمر أطمح لأكون شاعرًا، وعندى يقين أن أجمل القصص وأكثرها خلودًا وتأثيرًا هى تلك التى تجد روح الشعر حاضرة فى صياغتها، وحينما فشلت فى الشعر اتجهت لكتابة القصة، وحين جاء زمن السفر والترحال استهوانى أدب الرحلات وكانت تلك الرحلات تعمقًا فى معرفة الأرض والناس ومهربًا من نوعية العمل والحياة المعتادين، ولعل ذلك هو ما قادنى إلى الرواية، كما استهوانى فن السينما كذلك فكتبت العديد من سيناريوهات الأفلام مثل «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم» و«رغبات ممنوعة» و«رحلة داخل امرأة»، ثم عدت من جديد إلى الرواية مع «السيد من حقل السبانخ».
• بعد تجربتى الطويلة مع الصحافة، من «الجمهورية» و«التحرير» و«الرسالة الجديدة» قبل الاستقرار فى «روزاليوسف» والمشاركة فى تأسيس «صباح الخير»، يمكننى أن أدافع عن الصحافة من تلك التهمة التى تطاردها بأنها تقتل المبدعين وتلتهم موهبتهم، هذا ظلم، فالصحافة هى التى أتاحت لى السفر والترحال والمغامرة فى رحلات طويلة حولتها إلى ابداع أدبى ونشرتها مسلسلة على صفحاتها وأوصلت كتاباتى إلى جمهور عريض من قراء الصحف، فكثير من قصصى ورواياتى كان من مكتسبات العمل فى الصحافة.