الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أنا صبرى موسى

صبرى موسى
صبرى موسى

أنا ابن البحر والنهر والصحراء 

«ولدت فى مدينة رأس البر بدمياط، ومنذ اللحظة الأولى تشكل تكوينى من النهر والبحر، ثم أضيف إليهما عشقى المبكر للصحراء، ومن البحر والصحراء طغى جانب التأمل على شخصيتى.. ومعهما اكتشفت نفسى»..

«الرسم كان أولى مواهبى الفنية، كنت أهوى الرسم والتصوير، وأذكر ونحن أطفال فى دمياط كان الأطفال يخرجون بالفوانيس الملونة فى ليالى رمضان بعد الإفطار، وكنت أجلس أنا لأرسمهم وهم يحملون الفوانيس المصنوعة من الصفيح والمضاءة بالشمع.. لا أنسى بهجة الطفولة العارمة فى ليالى رمضان، خاصة فى الليالى القمرية، التى كانت تتيح لنا أن نلعب الكرة لساعات طويلة أو ندور وراء المسحراتى نردد معه أغانيه فى بهجة وحماس، وكنت أنسى نفسى ولا أعود إلى بيتنا إلا فى مطلع الفجر، وكثيرًا ما كان أبى يعاقبنى على التأخير، لكن عشقى للسهر كان أقوى من أى عقاب. أشعر بالحنين لتلك الأيام، فرغم أن ظروف الحياة كانت صعبة، فلا كهرباء ولا تليفزيونات ولا وسائل ومتع الحياة الحديثة، لكن الدنيا كانت أجمل بتلك البساطة وتلك الأُلفة بين الناس وبروح التسامح والصفاء، فالبيوت مفتوحة على بعضها والقلوب عامرة بالمحبة، وهى أمور أفتقدها فى زمن أصبحت فيه أبواب الناس مغلقة ولا تُفتح إلا بعد النظر فى العين السحرية».

«تمنيت كثيرًا فى صباى أن أكون شاعرًا، وحاولت كتابة الشعر، وما زلت بعد هذا العمر أطمح لأكون شاعرًا، وعندى يقين أن أجمل القصص وأكثرها خلودًا وتأثيرًا هى تلك تجد روح الشعر حاضرة فى صياغتها.. وحينما فشلت فى الشعر اتجهت لكتابة القصة، وحين جاء زمن السفر والترحال استهوانى أدب الرحلات وكانت تلك الرحلات تعمقًا فى معرفة الأرض والناس ومهربًا من نوعية العمل والحياة المعتادين، ولعل ذلك هو ما قادنى إلى الرواية، كما استهوانى فن السينما كذلك، فكتبت العديد من سيناريوهات الأفلام، مثل البوسطجى وقنديل أم هاشم ورغبات ممنوعة ورحلة داخل امرأة، ثم عدت من جديد إلى الرواية مع «السيد من حقل السبانخ».

«بعد تجربتى الطويلة مع الصحافة، من الجمهورية والتحرير والرسالة الجديدة قبل الاستقرار فى روزاليوسف والمشاركة فى تأسيس صباح الخير، يمكننى أن أدافع عن الصحافة من تلك التهمة التى تطاردها بأنها تقتل المبدعين وتلتهم موهبتهم، هذا ظلم، فالصحافة هى التى أتاحت لى السفر والترحال والمغامرة فى رحلات طويلة حولتها إلى إبداع أدبى ونشرتها مسلسلة على صفحاتها وأوصلت كتاباتى إلى جمهور عريض من قراء الصحف.. فكثير من قصصى ورواياتى كانت من مكتسبات العمل فى الصحافة».

«كان للعمل الصحفى تأثيره الكبير فى توافر العناصر القصصية بحكم تنوع البيئات والأمكنة التى كنت أتحرك فيها، ففى فترة من الفترات بدأت فى العام الأول من الستينيات كنت كثير السفر، بل إننى أيضًا فى كثير من الأحيان كنت أسافر دونما سبب سوى فكرة الانتقال والرؤية أى السفر نفسه: مثلًا كثيرًا ما كنت أتخير عشوائيًا بلدًا من البلاد المصرية الموجودة فى دليل السكك الحديدية!. بلدة أو قرية أو مركز من المراكز التى يمر بها القطار، فأقضى بها يومًا أو يومين، حسب إمكانات تلك البلدة، وأذهب إلى الأسواق، وأحتك بالناس، واستمع إلى حوارات المقاهى، وأتأمل نماذجها البشرية. وغالبًا ما كنت أعود من تلك الرحلة بقصة أو بالعديد من القصص، تلك كانت فترة الاختبار والتجريب، وقد أنتجت أكثر من مائة قصة اخترت نصفها تقريبًا، وأصدرته فى كتاب عنوانه «حكايات صبرى موسى».

«فى قصصى أميل إلى التركيز والتحديد والارتباط بلحظة زمنية مختارة وموقف نفسى محدد تواجهه الشخصية الإنسانية. لعل هذا قد حدث بحكم طبيعتى، التى لا تميل إلى الثرثرة، وطريقتى الذهنية فى مواجهة الحياة، والتى تميل إلى التوقف عند التفاصيل الصغيرة، وكثيرًا ما كنت أرى فى هذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة عوالم حافلة بالعناصر الدرامية». 

كواحد «بحراوى» مثلى، أى من مواليد الوجه البحرى ودلتا مصر، كانت الصحراء بالنسبة لى مصيفًا أو بلاجًا، وفى بداية حياتى الصحفية كانت هناك تحقيقات عن الصحراء الغربية، وهى صحراء منبسطة وملتصقة إلى حد ما بالشاطئ، لذلك لم تمنحنى الإحساس الذى كنت أبحث عنه، وأما فى الصحراء الشرقية فالوضع مختلف، دخلت عمقها وعشت مع مهندسى الجيولوجيا وعمال المناجم وعايشت البدو، وعبرت الطرق الصحراوية عبر المسالك التى كانوا يسلكونها، وصرت جزءًا من الصحراء، حدث ذلك على مدى عام، والطبيعة فى الصحراء الشرقية قد تبدو خشنة وقاسية، لكن فى أوقات من العام تكتسب جمالًا يذكرنا بقصائد شعراء الجاهلية وغزلهم الرائع، التجربة كانت باهرة وتعثر إخراجها فى رواية فى المرحلة الأولى، فأصدرتها فى كتاب، جمعت فيه سلسلة التحقيقات التى أجريتها هناك، وخلصنى ذلك من الدهشة والانبهار والتساؤلات التى بلا إجابات، واستقرت الصحراء فى نفسى، وبعد ذلك كان ممكنًا أن أكتب رواية «فساد الأمكنة».

«ليس صحيحًا أننى شخص كسول ومقل فى إنتاجى الروائى، هذه تهمة غير صحيحة، فأنا بين كل رواية وأخرى أكتب القصة، وعندى مقالة صحفية أسبوعية، وأعمل فى كتابة السيناريو وأنجزت أكثر من عشرة أفلام، وأصدرت مجلة للمغتربين العرب فى أمريكا، وأمارس دورى فى لجان تحكيم الأعمال الأدبية وفى رئاسة لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، ولذلك فالحكم علىّ بأننى مقل فى إنتاجى ظالم وغير منصف». 

«وجدت من النقاد من يضعنى فى جملة واحدة مع «هيمنجواى» الأديب العالمى، ويرى أن هناك تشابهًا ما بين أجواء رواياتى وخاصة «فساد الأمكنة»، وبين رواياته وخاصة «العجوز والبحر»، وربما الذى أعطاهم هذا الإحساس بالتشابه أو التقارب هو المغامرة فى الطبيعة، فمعظم أعمال هيمنجواى عبارة عن احتكاك مباشر لأبطاله مع طبيعة قاسية صارمة، وهكذا كانت حياته هى نفسها»

«فى تقديرى أن روايتى (السيد من حقل السبانخ) أكثر أهمية من (فساد الأمكنة)، ولكن تظل الأخيرة هى الأكثر شهرة، وهذا يحدث دائمًا مع كثير من الكتاب، أن عملًا من أعماله يشع بريقًا ويصادف هوى لدى القراء ويطغى على بقية أعماله».

«لست منعزلًا ولا مبتعدًا عن الوسط الثقافى والأدبى، ولا أتعمد الغياب عن تجمعاته وفعالياته ومؤتمراته، صحيح أننى غير دائم التردد عليها، ولكنى حريص على الحضور بين الحين والآخر لألتقى بالأصدقاء والشباب، كما أتردد أحيانًا على الأتيليه ونادى القصة.. لكن فى كل الأحوال أنا شخص حريص على وقتى.. ولا أذكر أين قرأت هذه العبارة «الليالى طويلة جدًا ولكن السنين قصيرة»، ولكنها علقت بذاكرتى وتذكرنى دائمًا بقيمة الوقت».

«ليس لى كاتب مفضل واحد، فهم كثيرون ومتنوعون، فأنا أحب هرمان هسه ولورانس داريل وديستوفيسكى وأمين معلوف ونجيب محفوظ وفتحى غانم وكثير من مبدعى الأجيال التالية لهم مثل محمد البساطى ومحمد مستجاب».

«فى سنوات مراهقتى وقعت فى أسر وسحر (سافو) شاعرة الإسكندرية القديمة.. وفى سحر كتاب (ألف ليلة وليلة) وهو من الكتب التى أعود لقراءتها كل فترة لأنعش خيالى.. ومن أكثر الكتب التى شعرت بالمتعة وأنا أقرأها (أساطير الحب والجمال عند الإغريق) الذى ترجمه درينى خشبة، وأمتعنى فيه هذا المزج الرائع والبسيط بين الخيال والواقع والأسطورة، وهذا الخليط الدرامى لحركة الأبطال- الآلهة- الذين يمارسون نزواتهم على الأرض وبين البشر.. أما أكثر كتاب أرهقنى فى قراءته فهو كتاب (لذة النص) لرولان بارت، والذى صدر ضمن المشروع القومى للترجمة، ورغم متعة الكتاب وسهولته، إلا أننى أعيد قراءته حتى أستوعب كثيرًا من أفكار بارت والمعانى التى يقصدها.. أما أكثر كتاب أمتعنى وأحزننى وأنا أقرأه فهو رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو، فقد تعاطفت جدًا مع بطله النبيل وتأثرت بمأساته».

«لست مظلومًا على مستوى الاهتمام النقدى لأعمالى، ففى هذا الجانب الذى يتعلق بالدراسات الجادة لقصصى ورواياتى، فأعتبر نفسى قد فزت بنصيب وافر من الاهتمام، سواء فى مصر أو العالم العربى، بل والعالم الخارجى، وهناك مئات الدراسات والمقالات، بل والرسائل العلمية التى تناولت أعمالى بعمق، أما إذا قصدت بالظلم غياب ذلك الظهور والتواجد الإعلامى الدائم والملح- بمناسبة وبغير مناسبة- على شاشات التليفزيون وصفحات الصحف والمجلات، فهذا لا يهمنى بحكم طبيعتى ولا أسعى إليه».

«هناك مبالغة فى الانحياز إلى زمن ما قبل ثورة يوليو فيما يتعلق بالحريات والادعاء بأن هامشها تقلص بعد الثورة، الصورة ليست كذلك ولا بد من تصحيحها، ففى سنوات ما قبل الثورة كانت هناك قيود سياسية ضارية وشديدة، وكانت مصادرات الصحف والمجلات أمرًا معتادًا، وجاءت ثورة يوليو لتمنحنا قدرًا كبيرًا من الجرأة والشجاعة على اقتحام قضايا كنا نخوضها فى خوف وتردد.. وفى الخمسينيات والستينيات وضعنا بذور كل الأشكال الجديدة للقصة والرواية، واجترأنا على الكثير من تقاليد الكتابة.. وإذا كانت الثورة حطمت الشكل السياسى المألوف واستبدلت الجمهورية بالملكية، فقد قمنا نحن بجرأة مماثلة على مستوى الفن، فأنا مثلًا امتلكت الجرأة على هدم التقاليد البالية الراسخة فى رواية «حادث النصف متر»، كذلك فعل يوسف إدريس فى مجموعة (أرخص ليالى)».

«نحتاج إلى ثورة جديدة على الأفكار الرجعية المتوطنة التى ترفض الرحيل والتغيير، فما زال لدينا عقول مغلقة خارج الزمن، أذكر أننى شاهدت منظرًا فى متحف الأحياء المائية بالغردقة، فقد كان يتصدر المتحف ذكر عروس البحر، وكان الزوار يتكالبون على رؤية هذا المخلوق الغريب الضخم، وكان نصفه الأعلى يكاد يحمل ملامح الإنسان القديم، ونصفه الأسفل سمكة يتصدره عضو ذكرى واضح المعالم، لكن مدير المتحف قام بقطع هذا الجزء حتى لا يثير الزوار.. وقد أوحى لى المشهد بأسطورة الجنية التى خرجت من البحر وضاجعها أحد أبطال «فساد الأمكنة». «من أكثر الأمور التى تحزننى أننا نستورد خبزنا ولا نزرع قمحنا، وقد كتبت كثيرًا فى هذا الشأن، فالوادى الجديد وحده كفيل بأن يوفر لنا ما نحتاجه ويفيض، فمساحته نصف مساحة مصر تقريبًا، ويشغل الصحراء الجنوبية التى تمتد من أسوان، وما وراء بحيرة السد العالى إلى السلوم غربًا، وحدودنا مع ليبيا مرورًا بكل ما يطل على الجنوب الغربى من محافظات وأقاليم، وكانوا يسمونه رغيف الإمبراطورية، وكانت تلك المساحة مغطاة بحقول القمح، وقد كتبت مقالات عديدة عن قمح الوادى، وبدأت بعض أحلامى تحقق، بزراعة الدولة للقمح بالفرافرة ضمن مشروع المليون فدان، ولو تكررت فى أماكن أخرى من الوادى لأصبحنا من مصدرى القمح واكتفينا ذاتيًا»

«يؤسفنى أن أقول إن كثيرًا من جوائز الدولة لا تصادف أهلها، ذلك أن القائمين عليها من جهات ولجان تحكيم لا يعرفون كل المبدعين ويأخذون الأمور بالشهرة الإعلامية، فالشاعر أو الروائى أو الناقد دائم الظهور فى أجهزة الإعلام يصبح لديهم مستحقًا الجائزة، لشخصه لا لإعماله، لشهرته وليس لإنجازه أو عطائه».

«صراع الأجيال الأدبية لا يزعجنى، فهو أمر حتمى ومن طبيعة الأشياء وسنن الحياة، كل جيل يرغب فى تجاوز سابقه، يرفض القديم وينقده ويرى فى تجربته إبداعًا جديدًا، هكذا كان حالنا حين بدأنا فى الخمسينيات وكنا نريد أن نتجاوز كل عمالقة القصة حينذاك: يوسف السباعى وعبدالحليم عبدالله وأمين يوسف غراب ومحمود البدوى وفريد أبوحديد وحتى طه حسين.. وجاء بعدنا من ثار على جيلنا وحاول تجاوزنا.. هذا أمر طبيعى فى دنيا الأدب، لكنه يصبح غير طبيعى إذا تجاوز حدود اللياقة والأدب».

«فى رأيى أن إنتاجى القصصى والروائى قد ترك تأثيرًا مهمًا فى عمليات التجديد والتطور بالنسبة للأجيال التالية لى.. إن كل رواية لها أسلوب وشكل وبناء وصياغة كالدليل الذى يقود الكاتب الشاب والجديد إلى التطوير والإضافة».

«أنا راض عن كل مشوارى الإبداعى والصحفى».

 

أنا لست كاتبًا محترفًا 

طريقتى فى الكتابة غريبة ومدهشة وربما مرعبة.. فأنا طول عمرى لا أعتبر نفسى كاتبًا محترفًا، بل أكتب مثل الهواة، لأن الكاتب المحترف كما نعرفه لا بد أن يلتزم بمنهج صارم وبساعات عمل محددة وساعات راحة محسوبة ونظام معيشى واضح، بينما أنا فى الحقيقة فوضوى بالكامل، وعلى مدى حياتى كلها عجزت عن إقامة هذا النظام.. فأنا مثلًا كنت أكتب رواياتى فى شكل حلقات صحفية، حلقة حلقة، وبمجرد أن أنتهى من كتابة أول حلقتين يبدأ النشر مسلسلًا.. وتبدأ المطاردة.. فأكتب فى حالة توتر مصحوبة باليأس والخوف والأمل والإحساس الرهيب بالمسئولية أمام القراء.. وفى بعض الأحيان كان الرسام ينتهى من رسم الحلقة والخطاط من وضع العناوين وتبدأ المطبعة فى طباعة ملازم أخرى من المجلة، بينما أجلس أنا على مكتبى كأنى أجلس على «خازوق».. أشعر وكأننى خارج عن وعيى، وفى بعض الأحيان تستعصى الكتابة لدرجة تجعلنى أبكى فعلًا.. ثم تحدث المعجزة وأكتب وأنا لا أشعر بما يدور حولى حتى أنتهى فى اللحظات الأخيرة.. وعندما تُنشر الحلقة وأقرأها أندهش فعلًا مما كتبته وكيف خرج بهذا الشكل.

وهى طريقة ولا شك متعبة ومرعبة ومحفوفة بالمخاطر، وكنت أتمنى أن أكتب وفقًا لبرنامج منضبط، يؤدى إلى تدريب العقل والذهن بل والجسم على توقيت معين ونظام معين للكتابة مثلما كان الحال عند أستاذنا نجيب محفوظ.. لكنى تعودت على تلك الفوضى، ومن الطبيعى والحال كذلك ألا تكون لى طقوس من أى نوع أثناء الكتابة.. فأنا أكتب فى الفجر أحيانًا، ولا يستيقظ ذهنى إلا فى الليل، وأحيانًا أقرر السهر للكتابة ولا يفتح الله علىّ بكلمة، ثم بعد أن أكاد يغمى علىّ من الإرهاق أبدأ الكتابة.

نادى القلوب الوحيدة 

بعد لحظة تأمل عميق رأيت فيها أن المجتمع أخذ يتجه للشكل الفردى بطريقة متزايدة، ومن هنا نشأت فى خاطرى فكرة باب «نادى القلوب الوحيدة» بمجلة صباح الخير، الذى قد أنجح من خلاله فى جعل الناس يتكلمون معًا من ناحية، وتنمية الإحساس لديهم بالتواصل من ناحية أخرى.. وفكرت ألا يأخذ الباب الجديد شكل الأبواب القديمة التقليدية لبريد القراء، فقط بنشر الرسالة مصحوبة بتعليق من محرر الباب، الذى يجيب على كل ما يصل إليه من مشاكل وكأنه يملك مفاتيح القضايا جميعًا، وقررت أن يكون الشكل مختلفًا وغير تقليدى، بأن أعرض الرسالة التى تصلنى بالبريد، فأكون أولًا ساعدت القارئ فى التعبير عن نفسه، ثم تليها خطوة أخرى ألقى فيها بالكرة لمنطقة القراء؛ لأمنحهم الفرصة فى أن يقوموا بمخاطبة زميلهم بشأن مشكلته واقتراح ما يرونه من حلول، وهنا يشعر صاحب القلب الوحيد أنه ليس وحده، وأن هناك من يشاركه فى معاناته، ومن جهة أخرى فإن هذا من شأنه أن يخلق التواصل الاجتماعى فيهم ويحقق التواصل الإنسانى بينهم.

أرسل لنا شاب مصرى مهاجر إلى اليونان يشكو من إحساسه بالوحدة بعد أن داهمه مرض فى الغربة، علاجه باهظ التكاليف، ويقول إنه يشعر بحنين جارف لوطنه وأهله، ونشرنا رسالة هذا الشاب.. وكانت بالفعل رسالة تقطر صدقًا، وبعدها بشهور وصلتنى منه رسالة يقول فيها إن قارئًا من أسوان أرسل له تذكرة السفر من اليونان وجاء لوطنه وزار الأهل والأحباب، بل تولى القارئ الأسوانى أيضًا نفقات علاجه حتى تم شفاؤه، ثم أعطاه تذكرة عودة إلى اليونان مقر عمله.. وقال القارئ إنه يهيب بنا أن ننشر اسم هذا الإنسان صاحب المروءة الذى فعل كل ذلك لوجه الله وبغرض الخير فقط بدون الرجوع للمجلة.. وبالفعل شكرناه.

محاولة تأسيس أول مسرح فى مدينة كانت تنام من المغرب 

فى ذلك الزمن القديم كنا مجموعة من الشبان يملؤنا الحماس.. أعمارنا وأعمالنا تتقارب وتتباعد، فبعضنا فى السابعة عشرة وبعضنا فى العشرين، وبعضنا قد توظف وبعضنا لا يزال يدرس، لكن يجمعنا جميعًا ويربط بيننا هوس حار لفن التمثيل.. لفن محاكاة الحياة.. ها هى الملامح القديمة تتدفق فى ذاكرتى مجردة من أفعال الزمن فى تلك السنوات، مشبوبة بذلك الوله العجيب لخشبة المسرح.. وها هى الأسماء القديمة لا يزال بعضها تعيه الذاكرة: محمد عثمان، محمد عبدالسلام، حسن أبويوسف، حسنى الخياط، عبدالكريم البدرانى، البسيونى، السادات... إلخ.. أكل الزمن من ذاكرتى باقى الأسماء، لكن الملامح الزاهية المشبوبة ما زالت واضحة.. ولا أثر لتجاعيد الزمن بها.. كنا ندخر قروشنا الصغيرة لنشترى روايات يوسف وهبى والريحانى والكسار ونعيد تمثيلها فوق سطوح بيوتنا.. ثم تطورت الهواية وأصبحت احترافًا، واستأجرنا سينما محمد على التى أصبحت فيما بعد سينما «نصار» ثم أكلها الزمن وأصبحت معرضًا للموبيليات.

ما زلت أذكر حفلنا الأول الذى ظللنا نعد له شهورًا طويلة، ندخر النقود ونجمع التبرعات ونسافر إلى المنصورة والقاهرة نستأجر الملابس والديكورات، وننظم المسرح ونعمل البروفات شهورًا طويلة لنقيم حفلة واحدة ليلة واحدة نقف فيها أمام الجمهور لأول مرة.. أهلنا وعائلاتنا وأصحابنا، الذين اشتروا تذاكرنا للتشجيع ليس إلا.. وبعد الحفل كنا نشعر جميعا بأننا تربعنا على قمة الفن التمثيلى بهذا العرض الذى قدمناه.. وكنا ننتظر التصفيق والإعجاب، لكنهم نصحونا بعد ذلك بأن نلتفت لمصالحنا، لأن التشخيص لا يؤكل عيشًا!.

كانت خيبة الأمل كبيرة، وقد مرض بعضنا، والبعض أصابه الهوس، والبعض الآخر استمع للنصيحة وترك التشخيص واهتم بمصالحه.. لكن البذرة ظلت موجودة.. ما أروعها تلك الليالى التى كنا نسير فيها فى شوارع دمياط الصغيرة والليل يخيم عليها وقد نام الجميع والساعة لا تزال العاشرة مساء.. كنا نصرخ، يجب أن يكون فى هذه البلدة فن يوقظ هؤلاء الناس ويرفه عنهم بعد عمل النهار الطويل.. ونحلم.. نحلم بمسرح مضىء صاخب يؤخر موعد النوم فى دمياط إلى منتصف الليل، يعود منه الناس إلى بيوتهم وقد غسل عنهم الفن متاعب النهار. 

مسافر فى الصحراء 

ظلت الرحلة للصحراء تستهوينى منذ وعيت أن مصر بلادى منتزعة من براثن تلك الصحراء انتزاعًا «هبة النيل»، وكم كانت دهشتى وأنا أراها من مقعدى فى السماء داخل طائرة.. شريط رفيع طويل أخضر لا يكاد يُرى وسط مساحة هائلة من اللون الأصفر الصخرى.. ولقد كانت رحلتى الصحراوية الأولى فى الخمسينيات «١٩٥٨» تجاه الغرب وراء السلوم وحدودنا مع ليبيا، وبدت لى الصحراء الغربية آنذاك جيرية بيضاء، تبدو فقيرة عاطلة إزاء البحر العظيم الأبيض.. ولا أظننى قد كتبت بعد تلك الرحلة سوى بضع مقالات تتناول بالإشفاق حاجة سكان الصحراء للاهتمام والرعاية. 

كانت الطائرة الضخمة مزدحمة من الداخل بصناديق الطعام المحفوظ وأقفاص الخبز والخضر والفاكهة.. وكانت الطائرة غير مبطنة بعوازل الصوت التى تتمتع بها طائرات الركاب التى تسافر إلى المدن والعواصم.. وصوت اختراقها طبقات الجو كان يئز فى داخلها أزيزًا يحجب الأصوات، وقد حاول مصطفى رمزى وكان جالسًا فى المقعد الخشبى المجاور لى أن يحدثنى، وقد اكتشفت أنه يحدثنى حين رأيت شفتيه تتحركان، لكننى لم أسمع صوته، وعندما أردت أن أستوضحه ما يقول، لم أسمع صوتى أنا أيضًا.. وكان الأستاذ فؤاد شال- عضو نادى الصيد وأحد مكتشفى المعادن فى الصحراء ورفيقنا فى الرحلة- يحاول أن يشرح لى الطريق وهو يشير بأصبعه من نافذة الطائرة، ورغم محاولاته المتكررة لكى يصل صوته إلى أذنى التى لا تبعد عن فِيه بأكثر من ثلاثة سنتيمترات، فلم أسمع سوى هذا الأزيز المستمر.. هذا الطنين، واكتشفت أن أذنى أصبحت دون فائدة.. فاستعملت عينى.

وبعد ساعتين ونصف الساعة أسقطتنى الطائرة فى قلب الصحراء عند «حماطة»، وهى نقطة صغيرة للأمن والاتصالات اللاسلكية، تبعد ساعة وربع الساعة بسيارة النقل القديمة عن جبل «الدرهيب»، حيث كان مقررًا مبيتى فى معسكر خشبى مهجور يخص منجمًا قديمًا عاطلًا عن العمل.

وفى رحلة الصحراء رحلت أكثر من مرة بأكثر من وسيلة.. مرة بالقطار حتى «قفط»، ومنها بالسيارة- عبر طريق الحج القديم- إلى القصير على البحر الأحمر، ثم مرسى علم وأبو غصون إلى الصحراء الحقيقية.. ومرة أخرى بالسيارة مباشرة من السويس بحذاء البحر الأحمر إلى برانيس فى أربع وعشرين ساعة، اشتريت بعدها سجائرى من قرية «حلايب» على الحدود السودانية التى تنزوى على شاطئ البحر الأحمر خارج نطاق الحدود الدولية، وخارج نطاق الزمن، حيث باع لى سجائرى الأمريكية الحديثة المستوردة مخلوق أسمر فى ثياب بيضاء، يضفر شعره على طريقة فراعنة طيبة القديمة.

 

 

 

كيف تحولت «دماء وطين» إلى «البوسطجى»؟

 

لعله من حسن الحظ أصلًا أن أنشأ كأديب فى زمن معاصر ليحيى حقى، حيث كان عطره يفوح فى أرجاء حياتنا الثقافية والعامة، فيبهج النفوس ويُعطرها بقيم القناعة والصدق مع النفس والدقة والتدقيق فى العمل والإحساس بالآخرين، والذوبان حبًا، أو ذوقًا، أو تذوقًا لكل ما هو بسيط وأصيل وفيه منفعة للناس.. يحيى حقى هو نفسه عطر الأحباب، الذى جعله عنوانًا لواحد من كتبه المميزة، يسرى بيننا كالنسيم، نحن الأجيال التى تتابعت بعده فى جوقة الكتابة، يمدنا وجوده بالطمأنينة إلى أن العملة الجيدة تستطيع أيضًا أن تطرد العملة الرديئة من السوق.

وأنظر إليه وهو يكتب، نحات فى يده أزميل رقيق ينحت به أدق التفاصيل فى رهافة، كنغم مُحكم كل كلمة فى مكانها دون زيادة أو نقصان، كفنان الأرابيسك أو لاصق الفسيفساء.. بهرنا بأسلوبه ونحن شباب غض نحبو فى عالم الأدب مع بداية الخمسينيات.. ذوق غربى منمق ومضمخ بعطر شرقى وشعبى لاذع.

عندما ظهرت رواية يحيى حقى الصغيرة «دماء وطين» فى سلسلة اقرأ فى منتصف الخمسينيات، لم تكن لى علاقة بالسينما سوى مشاهدة الأفلام السينمائية، وبالذات ما يصنعه الغرب منها.. وكان الفيلم الأمريكى «دماء ورمال» المأخوذ عن قصة الحب الشهيرة التى تقع حوادثها فى حلبة مصارعة الثيران فى إسبانيا يملأ شاشات العرض ويثير جدلًا كبيرًا بين هواة الأفلام، فأعجبتنى السخرية التى خبأها يحيى حقى فى اختياره عنوان روايته الصغيرة «دماء وطين».. لا عجب فهى قصة حب تدور حوادثها فى الصعيد بمصر فى الثلاثينيات، حين كان الصعيد منفى يُعاقب الموظفون غير المرضى عنهم بالنقل إليه.

هذه القصة الدموية أثارت ضجة كبيرة فى الأوساط الأدبية والفنية حين نشرت.. ولفتت أنظار السينمائيين.. كانت الواقعية الإيطالية فى السينما العالمية متألقة وقتها، وكانت الموجة الجديدة الفرنسية جنينًا لم تتحدد ملامحه بعد.. وقد كتب الفنان رائعته بأسلوب أدبى متقدم يعتمد على الاستخدامات الحديثة للفلاش باك.. ويعتمد أيضًا على المونولوج الداخلى الذى كان قمة التطور بالأساليب الروائية فى الغرب ذلك الحين.. كانت الرواية مكتوبة بأسلوب حديث متقدم جعلها كثيرة الاختلاف عما تعودناه فى الرواية العربية، وجعلها أيضًا شديدة الاقتراب من الأساليب السينمائية الحديثة التى بدأت تظهر فى منتصف الخمسينيات، ما جعلها حديث السينمائيين المصريين، وتعددت الأخبار فى المجلات والصحف عن استعداد المخرج «زيد» أو المنتج «عبيد» لتقديمها فى السينما المصرية، وكثرت المحاولات بالفعل لإعادة صياغتها سينمائيًا، ولكن لم يُقدر لأى من هذه المحاولات أن توضع فى مجال التنفيذ الفعلى.. ثم بعد بضع سنوات بدأت تنتشر مقولة لعدد من السينمائيين المحترفين فى ذلك الحين، مؤكدة أن هذه القصة «دماء وطين» هى نموذج لنوع من الأدب لا يصلح للإعداد السينمائى.. بل إن هذه المقولة قد شملت كل ما ينتجه الفنان يحيى حقى من قصص بشكل عام، فقاطعتها السينما المصرية رغم تكالبها على القصص الأدبية فى تلك الأيام، ولم تنتبه تلك السينما ليحيى حقى وقصصه إلا بعد ظهور فيلم «البوسطجى» ونجاحه.

وقد شعرت أيامها كأديب له اهتمام بالسينما أن فى هذه المقولة ظلم فادح لأدب يحيى حقى، وضيق أفق من السينما التى كانت شائعة فى ذلك الحين.

حين قررت التصدى لتحويل هذا العمل الأدبى إلى معادله السينمائى، لاحظت أن الشكل المتقدم الذى كُتبت به القصة واقتربت بها من السينما الجديدة فى ذلك الحين، وخلق حولها كل هذا الإغراء عند السينمائيين المصريين، سوف يكون إطارًا متنافرًا مع تلك الدراما الدموية التى تقع حوادثها فى مجتمع متخلف فى الثلاثينيات من هذا القرن «العشرين»، إذا تم تحويلها إلى صور متحركة بنفس الأسلوب.. وكانت تلك الملاحظة أو هذا الإدراك أشبه بالمأزق، فقد كانت الموضة أيامها عند تحويل الأعمال الأدبية للسينما هو البحث عن أشكال حديثة بديلة لأشكالها الروائية التقليدية، ورغم ذلك فقد اتخذت القرار أيامها بشجاعة أحسد عليها، وبدأت فى انتزاع «دماء وطين» من الإطار الحديث المتقدم الذى وضعها فيه الفنان يحيى حقى، ثم أعدت صياغتها سينمائيًا بأسلوب تقليدى يناسب المكان المتخلف والزمان المتخلف الذى تدور فيه أحداث القصة، مع إضافة بعض الطعم الملحمى كتعويض عما تركناه من حداثة السرد القصصى.

وحينما جاء دور الحوار السينمائى الذى اضطلعت به كاملًا، كان نصب عينى مهازل الحوار اللقيط الذى ينطق به الفلاحون فى الأفلام المصرية ذلك الحين، فقررت أن يكون الحوار باللهجة واللكنة الصعيدية القح، التى كانت تستغلق علىّ أحيانًا، وأنا بحراوى النشأة والمولد.. فقمت باختطاف أحد أصدقائى الصعايدة واحتجزته فى كابينة على شاطئ رأس البر فى شهر ديسمبر، شهر العواصف والنوات هناك، حتى تمكنت من استخلاص مفاتيح اللهجة الصعيدية من فمه الذى لم يكف عن الشكوى والتوسل بأن أعيده إلى مصر «القاهرة»، وأنقذه من هذا البرد الشديد والسمك المشوى الذى أطعمه إياه كل يوم.