الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سينراما أدبية على ضفاف نيل الدقهلية

نيل الدقهلية
نيل الدقهلية

على ضفة النيل ومن النافذة الزجاجية الزرقاء لقاعات قصر ثقافة المنصورة، يمكنك إلقاء نظرة على نهر يتدفق، تحمل أمواجه الهادئة تاريخًا من الإبداع، والفن، والجمال، ساعيًا إلى البلاد والعباد، حاملًا رسالة المودة والانتماء.. من هنا تستطيع رصد إصرار نيل الثقافة على الجريان، رغم الوهن الذى أصاب مسببات الوجود الآسر. تنقش الدقهلية مكانتها على خارطة الساحة الأدبية المصرية؛ بتصدر أبنائها مشهد الحراك الأدبى، والثقافى، والفنى فى منتديات الفكر وصالونات الأدب وحوانيت الشعر بأرجاء مصر المحروسة. 

حين تُذكر الدقهلية، يُذكر معها أسماء لمعت وتركت أثرًا فى سماء الإبداع محليًّا، وإقليميًّا؛ بدءًا من محمد حسين هيكل وروايته زينب، مرورًا بعلى محمود طه شاعر الجندول ومحمد عبدالمعطى الهمشرى، وأنيس منصور أديب الرحلات المشوِّق، أم كلثوم بفنها الرفيع ودورها الوطنى، رياض السنباطى وتجديده فى عالم الموسيقى، فاتن حمامة وإطلالتها البهية الرائقة المخملية، نجيب سرور ومسرحه الشعرى وعلاقاته البينية بين الطبيعة ومن يتعايشون معها، فؤاد حجازى ورواياته وقصصه التى عالج فيها ظروف أسره فى نكسة ٦٧، الشاعر المبدع زكى عمر صاحب الصوت الجرىء الذى ينجب قصائد تتغنى بالانتماء والوطنية. 

يحمل الجيل الحالى من أدباء وفنانين وكتاب راية الاستمرارية؛ فتشرق أعمالهم فى سماء مصر والعالم العربى مثل: د. أشرف حسن القاص والروائى الحاصل على جائزة الطيب صالح فى الرواية، أحمد صبرى أبوالفتوح الروائى المشهور بملحمته «السراسوة» والفائز بجائزة دولية فى الرواية من الصين، الدكتور رضا البهات الحاصل على جائزة ساويرس فى الرواية، القاص محمد خليل ودوره الريادى فى كتابة القصة القصيرة التقليدية، الشاعر محمد الشربينى ودوره فى إنشاء أول نادى أدب بجامعة المنصورة فى ثمانينيات القرن الماضى، الشاعر محمد عبدالوهاب السعيد الذى تمرد على القصيدة الخليلية بكتابة التفعيلة، ثم النص النثرى، شاعر العامية سمير الأمير الذى تتلمذ على شيوخ الشعر بديع خيرى، بيرم التونسى، وفؤاد حداد، ثم أنتج نصوصًا تخصه، وأجاد فى كتابة رباعيات ستظل تقرأ فترات طويلة، الشاعر مصباح المهدى الذى دخل إلى شعر العامية المصرية من عباءة الفصحى، ثم مازج بينهما ليخرج بخلطة سحرية، تبعَهُ فيها كثيرون، الشاعرة د. رشا الفوال التى كتبت النص العامى البسيط والآسر، ثم اتجهت إلى نقد الإبداع الأدبى من منظور نفسى، الشاعر الغنائى إبراهيم رضوان، ومساهماته فى كتابة الأغنية الوطنية، والرومانسية، الشاعر على عبدالعزيز الذى تغنت بأشعاره كل طبقات الشعب المصرى، الشاعرة سكينة جوهر ومحافظتها على لغة الأجداد وتقليدية النص الخليلى، ثم أضافت إليه ما جعلها تستمر، الشاعر أشرف الفرانى وكتاباته الفلسفية المحفزة على الوعى واليقظة، الشاعرة منى الضوينى صاحبة الصوت الشعرى المتميز الذى سلك بنفسه لنفسه دربًا مغايرًا، ومساهمتها النقدية الرصينة، الشاعر حلمى إبراهيم الذى حمل على عاتقه قضية يراها الأهم من وجهة نظره، برع فى التعبير عنها بجلاء وتورط؛ فصدقه القارئ والمستمع، د. سيد أبوالوفا الشاعر الذى عجن الحداثة بالتراث، فخرجت قصائده لتحصد جوائز كتارا، وغيرهم من الشعراء والكتاب الذين يحتاجون إلى مجلدات فقط لنشير إليهم، من بينهم د. سمية عودة، إيمان مصطفى، طارق عبدالفضيل، شيماء الغيطى، هالة عصفورة، رانيا عبد الرازق، محمد صادق.

من التجارب التى تحاول الإفلات من قيود التقليد الذى أصاب الشعر بالوهن والتكرار، والاتكاء على الوزن الخليلى وحده؛ باعتباره الرهان الأول على كتابة النص الشعرى، ما سوف أسوق بعضه.. هذه التجارب لم تتوقف عند حد التجريب؛ إنما تجاوزت إلى ما بعد الحداثة شكلًا، ولغة، ومحتوى، ورغم أننى لا يمكننى الدفع هنا بكل إنتاج راهبى الكتابة، لكننى أقدم نماذج لتطور طرح قضايا الإنسان والقيمة، والروح، ولا أرى أبدًا انفصالًا بينهم جميعًا؛ فمن صَدَق فى التعبير عن نفسه، صدَّقه كل من يقرأ أعماله فصار لسان الضمير الجمعى.

يعتبر محمد سالم شاعرًا مجددًا فى كتابة قصيدة شعرية فصحى حديثة تخلَّت عن الوزن والقافية لصالح الصورة الشعرية البسيطة، التعبير اللغوى، وعمق التناول الفكرى، والطرح الإنسانى لليومى الحافل بتوابل الشارع. يقدم محمد سالم لوحاته الشعرية فى شكل يبدو قصصيًا، فهو يهتم بالتفاصيل الصغيرة التى يهملها الشعر الكلاسيكى، حتى إنه يستغرقك؛ فتجد نفسك متورطًا فى نصه، متمثلًا حالته الشعرية والشعورية، وقد فاز ديوانه بجائزة معرض الكتاب. إلى جواره نجد يكتب د. أيمن الشحات نصًا شعريًّا عميقًا بلغة حافظت على سلاسة وسلامة الفصحى، لكنها تخلصت من خوف المقامرة، الشاعرة حنان ماهر التى انتهجت الكتابة عبر النوعية، ثم أفردت لنفسها مكانة فى النص النثرى، ثم توجهت إلى النقد الأدبى، الشاعرة رشا عادل بدر التى تحافظ على مبنى النص الكلاسيكى، لكنها تتمرد على معناه، بالتطرق أيضًا إلى تفاصيل خيباتها كامرأة مصرية ريفية تمر بظروف خاصة، فتعمم تجربتها فى الحب والإحباط ومواجهة اليومى بكل شجاعة حسبما يساعدها حرفها فى المقاومة. تجربة أخرى مهمة جدًا فى الكتابة بالفصحى للدكتور أشرف الشحات الذى بدأ كلاسيكيًا مخلصًا، ثم بعد عودته من سفره الطويل خارج مصر، عاد برؤية مختلفة عن الاثنين معًا، فهو يكتب النص التفعيلى، بمبناه الخليلى وفحواه التقدمى منضمًا إلى قافلة المجددين مثل فاطمة عبدالكريم التى تحافظ على مبنى ومعنى الشعر الخام الذى يدخلك دون استئذان ويترك فيك أثرًا يجعلك تستزيد من بهاء فيضها على الورق، يحيى بدير بما يمتلك من إحساس صادق، وانغماس فى اللغة العربية، وامتلاك القدرة على مواجهة الجمهور؛ لعمله ممثلًا مسرحيًّا أيضًا، ثم محمود ليال الذى هضم مدرسة الشعر الحر والتحم بالسيَّاب وعبدالصبور، ثم ارتاح تحت شجرة درويش وارفة الظل، فكتب نصوصًا تنتزع منه الإعجاب والتقدير. وستجدون هنا بعض النماذج للتدليل على ما وصل إليه الإبداع الشعرى، وقد تنوعت بين الكلاسيكى والحر بأشكاله؛ التفعيلى والنثرى.

أما عن شعراء العامية المصرية بالدقهلية؛ فلنا وقفات كثيرة مع شعراء شباب تجاوزوا بوعى المُدرك أن للشعر رسالة يجب حملها على أسنة الحروف. تتفوق العامية عن غيرها من أنواع التعبير؛ ليس من باب الاستسهال، بل لأن من يكتبونها، قرروا أن يعيدوا إنتاج أنفسهم وذواتهم الخاصة، بقراءة تجارب غيرهم ممن سبقهم، ثم البناء عليها، وليس هدمها، فجاء البناء قويًّا ومؤثرًا متورطًا فى النص الإنسانى العام للشارع والبيت والحارة والغيط. من هؤلاء الذين تميزوا بكتابة نوعية: مصطفى حسان الذى يمزج بين وعيه وثقافته والكلمة المأخوذة من حال الناس فى الشارع، ونادر الشربينى الذى اعتبره محطة مهمة فى كتابة النص الشعرى العامى مستندًا على روح القصيدة الأم، ومضيفًا عليها من روحه وحالة مجتمعه فى تسلسل صورى إبداعى يثير شغاف قلب المستمتع أو القارئ، وعاصم المراكبى الشاب عمرًا والكهل فنًا وخبرة وصياغة بما تحمل نصوصه من تقنيات مستحدثة، وهناء الوصيف جاءت من بعيد لتقول عن نفسها المحبة للحياة الرافضة لليأس، والآملة فى غدٍ أفضل من خلال لغة تركيبية متجددة، وانفتاح على حداثة المعنى والتناول، ما جعلها تقف على منصة التتويج فى القائمة القصيرة لجائزة نجم، وعلاء أشرف شاعر حصد جائزة نجم مرتين، رغم صغر سنه، إلا أنك حين تقرأ قصيدته أو تستمع إليها، ترى فيها حنكة وخبرة وألمًا وإلمامًا بما لم تكن تتوقعه من تفاصيل، وعبدالله محمد شاعر متمكن من نصه الإنسانى، حصد جائزة الإبداع مرتين، وجائزة الدولة التشجيعية لما يمتلك من مقومات كتابة يمتزج مع الشارع بكل متناقضاته وآماله وخيباته، وسوزان عماد شاعرة شابة مسكونة بوجع الفراق والرومانسية المتكسرة على صخور الواقع المؤلم، ونقدم هنا أيضًا بعض نماذج من نصوص مغايرة.

من الألوان السردية التى سبقت ألوان السرد الأخرى تاريخيًّا، لكنها تراجعت بسبب اختلاف الذائقة، وتكاسل كتابها عن مواكبة التطور؛ القصة القصيرة التى بدأت قبل التأريخ لها فى بدايات القرن الماضى. تأرجحت فى طولها ومعالجة أحداثها بين الرواية والرواية القصيرة «نوفيلا»، لذا فقدت بريقها لفترة ما، ثم عادت فى أثواب قشيبة مستحدثة؛ فأصبحت القصة، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا، ولكل منها بناء يخصها، لكن كل هذه الأبنية تتضافر لترفع راية السرد المشوق الآسر بلغة بسيطة دالة ومكثفة، وموضوعات لا تنفصل عن الإنسان، وتقنيات أكثر حداثة. 

وفى الدقهلية، لعبت الكيانات الخاصة دورًا مهمًا فى تسليط الضوء على السرد عمومًا، فازدهرت الرواية، والقصة وأدب الرسائل، ثم أضافت ورش الكتابة قيمة مُضافة إلى جيلٍ من الكتاب الشباب، بدأت أشجار فاكهتهم تؤتى ثمارها الغضة. ومن هؤلاء: أيمن باتع، فكرى عمر، أحمد الزلوعى، حسام المقدم، ممدوح رزق، نبهان رمضان، هناء متولى، رحاب عمر، ابتهال عبدالحميد، حنان العطار، مريم العجمى، رضا الأشرم، وغيرهم من الذين يسعون لتأكيد هويتهم القصصية. وسيظل نهر الإبداع يتدفق، ما كانت هناك قدم تمشى على الأرض، لأن الإنسان مبدع بطبيعته، وفطرته التى جبله الله عليها، لذا سيأتى بعدنا من يكتب تجربته بلغته الخاصة، وإحساسه الخاص، وثقافة جيله ومجتمعة؛ لتواكب كتابته تقنيات ومتطلبات عصره.

اقرأ من إبداعات الدقهلية: 

محمد صادق يكتب: الفرَّان

منى حمودة تكتب: إنسان

محمد سالم يكتب: أصوات

السيد الفقى يكتب: كتف العصفور

علاء أشرف يكتب: العيد

رشا عادل بدر تكتب: كف البراءة

ابتهال عبدالحميد تكتب: كرة دبقة

عاصم المراكبى يكتب: دى.. روح الروح

حسام المقدم يكتب: مُتطوع

فيصل عبده يكتب: مقاطع قصيرة