الجمعة 25 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمود أبورية.. سيرة مجدد عظيم

قصة الحديث المحمدى.. «كعب الأحبار».. الصهيونى الأول فى التاريخ الإسلامى

حرف

فى سلسلة مقالاته «الحديث المحمدى» التى نشرها محمود أبورية فى منتصف الأربعينيات، تطرق إلى قضية مهمة هى «الإسرائيليات فى الحديث»، والتى قدم إليها بقوله: لما قويت شوكة الدعوة المحمدية وتحطمت أمامها كل قوة تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها، ويصدون عن سبيلها، إلا أن يكيدوا لها من طريق الحيلة والخداع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بوسائل القوة والنزاع، ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار، فلا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبى بعد موسى برسالة، فإن دهاتهم وأحبارهم لم يجدوا بُدًا بعد أن غُلبوا على أمرهم وأُخرجوا من ديارهم من أن يستعينوا بالمكر ويتوسلوا بالدهاء، لكى يصلوا إلى ما يبتغون، فسول لهم المكر اليهودى بأن يتظاهروا بالإسلام، ويطووا نفوسهم على دينهم، حتى يخفى كيدهم ويجوز على الناس مكرهم، وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء ومكرًا كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سبأ، فاستعلنوا بإسلامهم، واندسوا بين المسلمين مظهرين عبادتهم وورعهم. 

ويضيف أبورية: ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت وأن المسلمين قد اعتزوا بهم وسكنوا إليهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين فى صميم دينهم، وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التى قام عليها ما يريدون من أساطير وخرافات وأوهام وتُرّهات، لكى ينتهى هذه الأصول ويضعف، ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم، لأنه قد حفظ بالكتابة والتدوين، واستظهره الكثير من المسلمين، وأنه قد أصبح بذلك فى منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يندس إليه حرف، اتجهوا إلى السنة القولية، فافتروا على النبى أحاديث لم تصدر عنه، وأعانهم على ذلك أن ما تحدث به النبى فى حياته لم يكن محدود المعالم ولا محفوظ الأصول، وأن فى استطاعة كل ذى هوى أو دخلة سيئة أن يتدسس إليه بالافتراء، ويسطو عليه بالكذب، ذلك أنه لم يدون فى عهد النبى كما دون القرآن، ولا كتبه أصحابه من بعده، وقد يسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم فى معرفة ما يجهلون من أمور العالم الماضية والمستقبلة، واليهود بما لهم من كتاب وبمن فيهم من علماء وأحبار يعتبرون أساتذة العرب الأميين فيما يجهلون. 

ويحدد أبورية الطرق التى استحوذ بها كعب الأحبار ورفاقه على عقول المسلمين، فقد اتبعوا بدهائهم العجيب طرقًا غريبة لكى يستحوذوا على عقول المسلمين، ويكونوا بذلك محل ثقتهم، وموضع احترامهم. 

فقد أخرج الترمذى عن عبدالله بن سلام وهو من كبار أحبار اليهود الذين أظهروا الإسلام أنه مكتوب فى التوراة فى السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام. 

وهذا الذى أخرجه الترمذى عن ابن سلام قد أحكمه الداهية كعب، فقد ذكر الحافظ بن حجر فى الفتح أن الدارمى روى عن كعب فى صفة النبى فى التوراة، قال: فى السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام، وقد بحثنا فى السطر الثانى من هذه الأسطورة أو الخرافة حتى وجدناه فى سنن الدارمى كذلك، ومصدره الداهية الأكبر كعب، ووجدنا للسطر الأول تكملة لم يأت بها عبدالله بن سلام، فقد روى ذكوان عن كعب قال فى السطر الأول محمد رسول الله عبدى المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام، وفى السطر الثانى محمد رسول الله أمته الحمادون يحمدون الله فى السراء والضراء، يحمدون الله فى كل منزل، ويكبرون على شرف رعاة الشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها، ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم، وأصواتهم بالليل فى جو السماء كأصوات النحل. 

وهذا الكلام - طبقا لأبى رية - قد أورده ابن سعد فى طبقاته عن ابن عباس فى جواب لكعب، وذكره كذلك من عند نفسه أحد تلاميذ كعب: عبدالله بن عمرو بن العاص، كما رواه البخارى عندما سُئل عن صفة النبى فى التوراة. 

وأخرج الترمذى عن عبدالله بن سلام قال: مكتوب فى التوراة صفة النبى وعيسى بن مريم يدفن معه. 

وذكر الجواليقى فى المغرب أن ابن الأعرابى ذكر عن كعب أنه قال: أسماء النبى فى الكتب السالفة محمد وأحمد وحمياط أى حامى الحرم، وروى القاضى عياض فى الشفاء أن وهب بن منبه قال: قرأت فى أحد وسبعين كتابًا، فوجدت فى جميعها أن النبى أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا، وفى رواية أخرى فوجدت فى جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جانب من عقله إلا كحبة رمل بين رمال الدنيا. 

والذى أغرى كعب الأحبار بالرواية والاتساع فيها أن عمر كان فى أول الأمر يستمع إليه، ثم توسع الناس فى الأخذ عنه وبالغ هو، كما قال الحافظ بن كثير «فى نقل ما نقل من الأشياء إلى كثير منها ما يساوى مداده، ولما تبين لعمر أنه كذاب منع الأخذ عنه، ونهاه عن الرواية عن النبى وأنذره إذا هو روى أن يعيده إلى بلده». 

فى هذا المقال عرض محمود أبورية إلى إشارات عابرة لثلاثة من أحبار اليهود. 

الأول هو كعب بن ماتع الحميرى من آل رعين، وقيل من ذى الكلاع من اليمن، كان من أحبار اليهود وعُرف بكعب الأحبار، أسلم فى عهد عمر وسكن المدينة فى خلافته، ثم تحول إلى الشام فى زمن عثمان، ومات بحمص سنة ٣٢ أو ٣٤ هجرية، وقد استصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه كما يقولون، وأمره أن يقضى، وقال عنه الذهبى فى تذكرة الحفاظ: قَدِم من اليمن فى دولة أمير المؤمنين عمر، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم، وروى عنه جماعة من التابعين مرسلًا. 

ووضع كعب الأحبار لإسلامه سببًا عجيبًا ليتسلل به إلى عقول المسلمين. 

فقد أخرج ابن سعيد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم فى عهد النبى وأبى بكر؟ فقال إن أبى كتب لى كتابًا من التوراة فقال اعمل به، وختم على سائر كتبه، وأخذ علىّ بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبى غيّب عنى علمًا ففتحتها، فإذا صفة محمد وأمته فجئت الآن مسلمًا. 

وروى عن عبدالله بن عمر أن رجلًا من أهل اليمن جاء إلى كعب، فقال له: إن فلانًا الحبر اليهودى أرسلنى إليك، فقال كعب هاتها، فقال الرجل: إنه يقول لك، ألم تكن سيدًا شريفًا مطاعًا؟ فما الذى أخرحك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجع إليه؟ قال: نعم، قال: إن رجعت إليه فخُذ بطرف ثوبه لئلا ينفر منك، وقل له يقول لك: أسألك بالذى فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذى ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كل شىء، ألست تجد فى كلمات الله أن أمة محمد ثلاثة أثلات، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد، فإنه سيقول لك نعم، فقل له يقول لك كعب: اجعلنى فى أى الأثلاث شئت. 

أما الثانى فهو وهب بن منبه الذى يقول المؤرخ جورجى زيدان فى تاريخ التمدن الإسلامى عنه إنه فارسى الأصل جاء جده من اليمن فى جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك وتناسلوا، وصاروا يعرفون بين العرب بالأبناء، أى أبناء الفرس ومنهم طاووس بن كيسان التابعى الشهير. 

وكان آباء وهب على دين الفرس «المجوسية أو الزردشتية»، فلما أقاموا بين اليهود أخذوا عنهم بآداب اليهود وتقاليدهم، فتعلموا شيئًا من النصرانية، وكان يعرف اليونانية وعنده من علم أهل الكتاب شىء كثير، وقد أدرك عدة من الصحابة وروى عنهم، ومن أقواله: إنى قرأت من كتب الله ٧٢ كتابًا، ومن أجل ذلك كانت للمسلمين ثقة كبرى به، وقال الذهبى عنه فى «تذكرة الحفاظ»: ولد سنة ٣٤ هجرية، وروى عن أبى هريرة وعن عبدالله بن عمر وابن عباس، وتوفى بصنعاء سنة ١١٠ هجرية. 

ويبدو أن ما كتبه محمود أبورية كان له تأثير، وأثار جدلًا، فعلى صفحات مجلة «الرسالة» نشر الأستاذ سعيد الأفغانى أن الصهيونى الأول هو عبدالله بن سبأ الذى تظاهر بالإسلام على عهد عثمان. 

وقد كتب محمود أبورية مقالًا مطولًا رد فيه على سعيد الأفغانى، بدأه بقوله: إنا على احترامنا لما نشره الأستاذ الأفغانى تبين أن الصهيونى الأول فيما حققناه هو «كعب الأحبار»، ذلك الكاهن اليهودى الذى أسلم على عهد عمر خداعًا ونفاقًا، وكان أول من أرسل الصيحة بـ«الصهيونية» فى بيت المقدس، ولكن الفاروق فطن لهذه الدعوة الخبيثة وقضى عليها، ولما وجد أن عمر صخرة عاتية تحول بينه وبين ما يريد بالإسلام من كيد، أخذ مع جماعة من فارس يأتمرون به ليقتلوه، ولما اندك حصن الإسلام بقتل عمر أرصد مكره ودهاءه لما أسلم من أجله، فأنشأ بيتًا من إفكه - ما شاء أن يبث - فى تفسير كتاب الله وأحاديث رسوله.

يكشف محمود أبورية هدفه من مقاله، يقول: إنا نكشف هنا عن حقيقة هذا الحبر الذى لا يزال يظفر بثقة المسلمين، ويعتبرونه من خيار التابعين، حتى يكون الناس على بينة من أمره، ويعرفوا مبلغ ضرر هؤلاء اليهود الذين تظاهروا بالإسلام وانطوت قلوبهم على غيره. 

كرر محمود أبورية فى مقاله بعضًا مما جاء فى حديثه عن الإسرائيليات فى الحديث لكننا ولعموم الفائدة، فإننا ننشر مقاله هنا كاملًا بنصه، كما نشر فى مجلة الرسالة، والذى يقول فيه: 

لما قويت شوكة الدعوة الإسلامية واشتد ساعدها لم ير الذين كانوا يقفون أمامها، ويصدون عن سبيلها، إلا أن يكيدوا لها من طريق الحيلة والخداع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بوسائل القوة والنزاع.

كان الصحابة ومَن تبعهم يأخذون كل ما يبثه هؤلاء الدهاة بغير بحث

ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار فلا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبى بعد موسى برسالة، فإن رجالهم وأحبارهم لم يجدوا بعد أن غُلبوا على أمرهم، وأُخرجوا من ديارهم، إلا أن يستعينوا بالمكر ويتغلبوا بالدهاء لكى يصلوا إلى ما يبتغون. 

وهداهم المكر اليهودى إلى أن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على غيره حتى يخفى كيدهم ويجوز على الناس مكرهم، وكان أقوى هؤلاء الدهاة «كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سبأ»، فاستعلنوا بإسلامهم واندسوا بين المسلمين مظهرين عبادتهم وتقواهم. ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت وأن المسلمين قد اغتروا بهم وسكنوا إليهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين فى صميم دينهم، فيدسون فيه ما يريدون من أساطير وخرافات وأوهام لكى يَهِى هذا الدين ويضعف، ولكى يحكم هؤلاء الدهاة أمرهم كانوا يزعمون تارة أن هذه المفتريات من كتابهم، ويدعون أخرى أنها من مكنون علمهم، وما هى فى الحقيقة إلا من مفترياتهم، وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من كلامهم، وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التى هى لغة كتبهم، ومن جهة أخرى فإنهم لا يجارونهم فى دهائهم ومكرهم، وبذلك كان الصحابة ومن تبعهم يأخذون كل ما يبثه هؤلاء الدهاة بغير بحث ولا نقد معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.

بلغ من دهاء كعب أن جعل بعض الصحابة يروون عنه أحاديث معزوة إلى رسول الله

وإنا نُلم هنا بطرف صغير من تاريخ زعيم هؤلاء الدهاة وشيخهم وهو «كعب الأحبار» وهو الذى نسوق من أجله هذا الحديث. هو كعب بن ماتع الحميرى من آل ذى رعين، وقيل من ذى الكلاع - من اليمن - كان من أحبار اليهود وعُرف بكعب الأحبار، أسلم على عهد عمر على الراجح وسكن المدينة فى خلافة عمر وتحول إلى الشام فى زمن عثمان فسكنها ومات بحمص سنة ٣٤ هجرية.

وقد استصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه كما كانوا يقولون عنه أو كما زعم هو فى قوله «ما من الأرض شبر إلا مكتوب فى التوراة التى أنزل الله على موسى، ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة». 

وقد اغتر به الصحابة ومن بعدهم فرووا عنه وسمعوا منه، وكان أكثر من روى عنه من الصحابة أبوهريرة الذى كان كذلك أكثرهم حديثًا عن النبى، ذلك بأن هذا الكاهن سلط عليه قوة دهائه لكى يستحوذ عليه وينيمه ليلقنه كل ما يريد، ومما اتخذه من أساليب المكر والخداع ليطويه تحت جناحه أن قال فيه كما روى الذهبى: ما رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبى هريرة. 

وقد وضع هذا الكاهن لإسلامه سببًا عجيبًا. 

اليهود لا يعترفون لأحد من غيرهم بفضل ولا يقرون لنبى بعد موسى برسالة

فقد أخرج ابن سعيد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم فى عهد النبى وأبى بكر؟ فقال إن أبى كتب لى كتابًا من التوراة فقال اعمل به، وختم على سائر كتبه، وأخذ علىّ بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبى غيّب عنى علمًا ففتحتها، فإذا صفة محمد وأمته فجئت الآن مسلمًا. 

وروى عن عبدالله بن عمر أن رجلًا من أهل اليمن جاء إلى كعب، فقال له: إن فلانًا الحبر اليهودى أرسلنى إليك، فقال كعب هاتها، فقال الرجل: إنه يقول لك، ألم تكن سيدًا شريفًا مطاعًا؟ فما الذى أخرحك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجع إليه؟ قال: نعم، قال: إن رجعت إليه فخُذ بطرف ثوبه لئلا ينفر منك، وقل له يقول لك: أسألك بالذى فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذى ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كل شىء، ألست تجد فى كلمات الله أن أمة محمد ثلاثة أثلات، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد، فإنه سيقول لك نعم، فقل له يقول لك كعب: اجعلنى فى أى الأثلاث شئت.

كيف كانوا يمكرون بالمسلمين:

اتبع هؤلاء الأحبار طرقًا عجيبة لكى يستحوذوا على عقول المسلمين، وإليك طرفًا من هذه الأساليب:

أخرج الترمذى عن عبدالله بن سلام وهو من أحبار اليهود أنه مكتوب فى التوراة فى السطر الأول «محمد رسول الله عبده المختار مولده مكة ومهاجره طيبة، وملكه فى الشام» وهذا الذى قاله ابن سلام قد أحكمه الداهية كعب، فقد روى عنه الدارمى: فى السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وفى السطر الثانى: محمد رسول الله أمته الحمادون يحمدون الله فى كل منزل ويكبرون على كل شرف رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة! ويأتزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم وأصواتهم بالليل فى جو السماء كأصوات النحل.

كعب وعمر:

لما أتى كعب المدينة على عهد عمر مظهرًا إسلامه أخذ يعمل فى دهاء لما أسلم من أجله، فكان أول أمر وجه إليه همه أن يفترى الكذب على النبى، ولكن عمر فطن لكيده فنهاه عن أن يروى عن النبى شيئًا وتوعده بأن يترك الحديث عن رسول الله أو يلحقه بأرض القردة.وعلى أن عمر رضى الله عنه قد ظل يراقب هذا الداهية بحكمته وحزمه وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته، كما جرى ذلك فى قصة الصخرة التى ستعرفها بعد، فإن شدة دهاء هذا الرجل قد تغلبت على حزم عمر ويقظته، فظل يعمل بكيده فى السر والعلن حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة اشترك فيها هذا الكاهن وجماعة معه منهم الهرمزان ملك خورستان، وكان قد جىء به أسيرًا إلى المدينة. 

قتل عمر:

ذكر المسور بن مخرمة أن عمر لما انصرف إلى منزله بعد أن أوعده أبولولؤة جاءه كعب الأحبار فقال يا أمير المؤمنين «أعهد» فأنت ميت فى ثلاث ليال «رواية الطبرى فى ثلاثة أيام» قال وما يدريك؟ قال أجده فى كتاب التوراة! قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب فى التوراة؟ قال اللهم لا، ولكن أجد حليتك وصفتك، وأنك قد فنى أجلك! قال ذلك وعمر لا يحس وجعًا، فلما كان الغد جاءه كعب، فقال بقى يومان! فلما كان الغد جاءه وقال: مضى يومان وبقى يوم! وهى لك إلى صبيحتها، فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالًا فإذا استوت كبّر، ودخل أبولؤلؤة فى الناس وبيده خنجر فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهى التى قتلته. ودخل عليه كعب وقال له: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا وإنك تقول من أين وإنى فى جزيرة العرب؟ وفى رواية أخرى: لما دخل كعب على عمر قال له «الحق من ربك فلا تكونن من الممترين». ومما يمتلخ عرق الشك فى أمر تآمر كعب بعمر ما أخرجه الخطيب عن مالك، أن عمر دخل على أم كلثوم بنت على وهى زوجته فوجدها تبكى، فقال ما يبكيك؟ قالت هذا «اليهودى» أى كعب يقول إنك باب من أبواب جهنم! فقال عمر ما شاء الله! ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال يا أمير المؤمنين والذى نفسى بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة! فقال ما هذا! مرة فى الجنة! ومرة فى النار! فقال: إنا لنجدك فى كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها فإذا مت اقتحموا!! وقد برت يمينه فقد قتل عمر فى ذى الحجة سنة ٢٣ هـ فهل بعد ذلك يمترى أحد فى أن كعبًا هو رأس مؤامرة قتل عمر! ولعل المسلمين قد ازدادوا ثقة بكعب بعد مقتل عمر إذا حسبوا أن التوراة كما يزعم فيها علم ما كان وما سيكون وما هو كائن! ولكن لما كثر كذبه وفشا بهتانه أخذ بعضهم يقابل ما يرويه بالشك. فقد روى البخارى أن معاوية قال فيه «إنا كنا لنبلو عليه الكذب»، وقال عنه على «إنه لكذاب» وكذبه كذلك عبدالملك بن مروان. 

قصة الصخرة بين عمر وكعب:

لما افتتحت إيلياء وأرضها على يدى عمر فى ربيع الآخر سنة ١٦ هـ ودخل عمر بيت المقدس دعا كعب الأحبار وقال له: أين ترى أن نجعل المصلى؟! فقال كعب: إلى الصخرة: فقال له عمر: يا ابن اليهودية، ضاهيت والله اليهودية، وفى رواية أخرى خالطتك يهودية! وقد رأيتك وخلعك نعليك! ولما أخذوا فى تنظيف بيت المقدس من الكناسة التى كانت الروم قد دفنته بها سمع التكبير من خلفه فقال ما هذا؟ فقالوا كبر كعب وكبر الناس بتكبيره! فقال علىَّ به فأتى به فقال يا أمير المؤمنين: إنه تنبأ على ما صنعت اليوم نبى منذ خمسمئة سنة! قال وكيف؟ فقال إن الروم أغاروا على بنى إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه! إلى أن وليت فبعث الله نبيًا على الكناسة فقال أبشرى، أورى شلم، عليك الفاروق ينقيك مما فيك! وهكذا يلعب بعقول المسلمين. وقال كعب مرة: «إن الله قال للصخرة أنت عرشى الأدنى وإنها موضع قدم الرحمن». وقد وضع كعب وإخوانه فى فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التى فى الشام أكاذيب كثيرة ملأت مؤلفات. 

ما بثه كعب فى التفسير والحديث: 

بلغ من دهاء كعب أن جعل بعض الصحابة يروون عنه أحاديث معزوة إلى رسول الله. وفى كتب الحديث فى باب رواية الأكابر عن الأصاغر أن العبادلة الثلاثة وأبا هريرة ومعاوية وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار. ولا نستطيع أن نسوق هنا كل ما بثه فى تفسير كتاب الله، وما رواه من أحاديث عن رسول الله لأنها إذا جردت تملأ مجلدات وإنما نجتزئ ببعض الأمثال: 

قال لمعاوية عن ذى القرنين: إنه كان يربط خيله بالثريا. 

وقال عن العرش: إنه لما خلق اهتز تعظيمًا فطوقه الله بحية لها سبعون ألف ريشة، فى كل ريشة سبعون ألف وجه، فى كل وجه سبعون ألف فم، فى كل فم سبعون ألف لسان يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر وعدد ورق الشجر.. إلخ فالتوت الحية على العرش... وهى ملتوية عليه فتواضع عند ذلك! 

وقال الأرضون السبع على صخرة والصخرة فى كف ملك والملك على جناح الحوت والحوت فى الماء والماء على الريح والريح على الهواء ريح عقيم لا تلقح وأن قرونها معلقة فى العرش. 

وقال: إن لله ديكًا عنقه تحت العرش وبراثنه فى أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الديكة.

وما قاله كعب لم يلبث أن جاء حديثًا مرفوعًا.