تولستوى و«نوبل».. عداء معلن ورفض متبادل
- بعد تجاهله فى دورتها الأولى كتب إليه 42 كاتبًا وناقدًا سويديًا يعتذرون عن سوء تقدير الأكاديمية.. ويتهمون أعضاءها بغياب الضمير
- سكرتير الأكاديمية الدائم كتب تقريرًا يشيد بأعمال تولستوى ويرفض منحه الجائزة لأسباب سياسية ودينية
- ظل اسمه على قوائم الترشح للجائزة 6 سنوات رغم طلبه عدم ترشيحه لها حتى لا يحرجهم برفضها
أثار الإعلان عن الفائز بجائزة «نوبل للآداب» فى دورتها الأولى عاصفة كبيرة من الرفض والاتهامات التى وصلت إلى حد إهانة أعضاء لجنة تحكيم الجائزة، وأعضاء أكاديمية «نوبل»، ووصفهم بانعدام الضمير وسوء الذائقة الأدبية، وهى العاصفة التى ظلت تحلق فوق سماء القارة الأوروبية كلها لسنوات طويلة، بسبب تجاهلها لأديب روسيا الأكبر ليو تولستوى، ونخبة من كبار الكتاب فى ذلك الوقت، واختيارها لأديب فرنسى متواضع الإنتاج فى وقت كان يكتب فيه تولستوى وتشيكوف وإميل زولا.. وهى الجائزة التى منحت لأول مرة فى عام 1901، وذهبت إلى شاعر فرنسى يدعى رينه سولى برودوم، وهو شاعر غير معروف فى وقتنا الحالى، وقلما يتردد اسمه حتى فى فرنسا نفسها، ولكن يبدو أنه كان يملك حضورًا أدبيًا أو غير أدبى وقتها.. بدأ حياته بدراسة العلوم وحصل على دبلوم الهندسة، فيما كان الشعر هوايته الأساسية، ويبدو من عناوين دواوينه أن لا شىء يجمع بينها سوى صفة الشعر أو النظم فى شكل الشعر، ومنها «مقطوعات وقصائد»، «التجارب»، «اعتكافات»، «فرنسا»، و«الحنان الباطل»، ويقال إن أديب فرنسا الأكبر فيكتور هوجو كان واحدًا من المعجبين بكتاباته، وأنه انتُخب عام 1881 عضوًا فى الأكاديمية الفرنسية التى لم يظفر بها أديب فرنسا الأشهر أونوريويه دو بلزاك إلا بعد عناء طويل.
مزيج من صفات القلب والعقل
جاء فى حيثيات منح الجائزة للسيد رينيه فرنسوا أرماندا، وهو اسمه الحقيقى «تقديرًا لمجمل أعماله الشعرية التى تعبر عن تكوينه الخاص، ما يعطى دليلًا على المثالية النبيلة، والكمال الفنى، ومزيج نادر من صفات القلب والعقل» بحسب تقرير لجنة الجائزة، وهو التقرير الذى يذكرك بتقارير لجان الجوائز العربية، ويبدو أن كاتبه جاهد فى البحث عن مبرر لمنح الجائزة لذلك الشخص، فلم يجد فى قصائده أكثر من أنها «تعبر عن تكوينه الخاص»!!، وكان لإعلان فوزه وقع الصدمة على الرأى العام السويدى والأوروبى عمومًا، وخصوصًا على الكتاب والمثقفين ونقاد الأدب، ليس فقط لأن الجائزة لم تمنح لتولستوى، ففى ذلك الوقت كان هناك عدد من كبير من الأدباء المرموقين، مثل أنطون تشيكوف، ومكسيم جوركى، وإميل زولا، وربما كان تولستوى هو أبرزهم عالميًا فى ذلك الوقت، ولكن الطريف أن كارل فيرسين، السكرتير العام للأكاديمية السويدية وقتها، كتب فى تقريره للجنة الجائزة أنه معجبٌ بلا شك بالأعمال الخالدة «الحرب والسلام» و«آنا كارينينا»، ولكنه لا يستطيع أن يوافق على نظريات تولستوى الاجتماعية والسياسية، ولا محاولته لإعادة كتابة العهد الجديد بطريقة نصف روحانية ونصف عقلانية، و«لأنه نبذ فى كتاباته كل أشكال الحضارة، ودعا إلى أسلوب بدائى وبسيط للحياة الإنسانية، بمعزل عن كل أنماط الثقافة الرفيعة»، وصوت ضد منحه الجائزة.
ومما يذكر أن تولستوى تم طرح اسمه للترشح للجائزة ٦ مرات، لكنه لم يكن من الممكن أن يفوز بها، خصوصًا بعد ما أثارته الرسالة التى وقع عليها ٤٢ أديبًا وكاتبًا وناقدًا سويديًا عبروا فيها عن استيائهم من سوء تقدير الأكاديمية لتولستوى، واحتجاجهم على قرار لجنة التحكيم، كما عبروا فيها عن إعجابهم الشديد بكتاباته، وأرسلوها إليه بعد شهر واحد من إعلان فوز برودوم بها، وهى الرسالة التى كان نصها:
«إلى ليو تولستوى:
فيما يخص منح جائزة نوبل للأدب لأول مرة، فنحن المؤلفين والفنانين والنقاد الموقعين أدناه نرغب فى التعبير عن إعجابنا بك. وعلى وجه الخصوص نحن نرى فى شخصك ليس فقط الأب الأكثر إجلالًا لأدب اليوم، ولكنك أيضًا بالنسبة لنا أعظم وأعمق شاعر، والذى كان فى رأينا الأجدر بأن يكون أول من يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، حتى وإن لم تكن أنت نفسك قد سعيت أبدًا لمثل هذا النوع من الجوائز.
نحن نشعر بأننا ملزمون جدًا بأن نعلمك بأننا نعتبر أن المؤسسة التى تمتلك زمام السيطرة على الجائزة المقصودة، ونتيجةً لأعضائها الراهنين، لا تعكس رأى الفنانين ولا الرأى العام، ويجب ألا ينطبع فى أذهان الدول الأخرى أن الفن الذى يأتى من المفكرين الأحرار والأشخاص المبدعين بحرية، حتى بين مواطنينا القاطنين بعيدًا، لا يقدر بصفته الأفضل جودةً، والأعظم مكانةً من بين كل البقية».
ورد تولستوى على ذلك برسالة قال فيها:
«أيها السادة،
واقع أن جائزة نوبل لم تُمنح لى أسعدنى لسببين: أولًا، لأن ذلك أنقذنى من الضرورة المؤلمة للتعامل بطريقةٍ أو بأخرى مع المال، الذى يعتبر عادةً شيئًا ضروريًا ومفيدًا، ولكنى أعتبره مصدر كل أنواع الشرور. وثانيًا، لأن ذلك منح أشخاصًا أحترمهم الفرصة ليعبروا عن تعاطفهم معى، الأمر الذى أشكركم جميعًا عليه من كل قلبى».
بعدها بأقل من شهر، وتحديدًا فى ٢٤ يناير ١٩٠٢ نشرت صحيفة «سفينسكا داجبلاديت» السويدية مقالًا للكاتب المسرحى أوجست ستريندبرج، وهو أحد الموقعين على رسالة الكتاب السويديين، جاء فيه: «إن معظم أعضاء الأكاديمية هم من المهنيين الذين لا يتصفون بيقظة الضمير، وليست لديهم ذائقة أدبية، ورغم ذلك أنيطت بهم مهمة التحكيم، ومفهوم الفن لدى هؤلاء السادة ساذج وصبيانى، فالشعر عندهم هو ما كان منظومًا، ويفضل أن يكون مقفى. فعلى سبيل المثال، إذا كان تولستوى قد نال مجدًا أدبيًا رفيعًا، بوصفه كاتبًا أبدع فى تصوير المصائر البشرية وخلق آثارًا أدبية خالدة، فإنه لا يعتبر شاعرًا، لأنه لم ينظم الشعر».
وقال الناقد الأدبى الدنماركى الشهير جورج برانديس: «يتبوأ ليف تولستوى المركز الأول بين الكتاب المعاصرين، ولا أحد يحظى باحترام يصل إلى حد التقديس مثله، ويمكن القول إنه وحده يبعث مشاعر الخشوع! وقد منحت جائزة نوبل للآداب لأول مرة لشاعر نبيل ورقيق، ولكن لا يحتل مكانة مرموقة، لذا بعث أفضل الكتاب السويديين برسالة إلى تولستوى يحتجون فيها على منح الجائزة للشاعر المذكور، والكل كان يشعر بأن من المفترض أن تمنح الجائزة إلى كاتب روسيا العظيم».
وقبل وفاته أرسلت الأكاديمية الروسية الإمبراطورية ترشيحها له لنيل الجائزة لعام ١٩٠٦، وعندما علم تولستوى بهذا الأمر، كتب رسالة عاجلة إلى صديقه الكاتب الفنلندى أرفيدو آرنيفيلدو يقول فيها: «لو حدث هذا، لشعرت بحرج شديد فى رفضها، ولهذا أرجو منك رجاءً حارًا، إذا كانت لديك علاقة ما فى السويد، حسبما أظن، أن تبذل كل جهد ممكن، وتسعى إلى عدم منح الجائزة لى.. ربما تعرف بعض أعضاء اللجنة، أو تكتب رسالة إلى سكرتيرها العام من أجل عدم القيام بهذا العمل أو التصريح به. وعدم وضعى فى موقف حرج للغاية، وهو رفض الجائزة»، غير أن أحدًا لا يعرف هل كانت تلك الرسالة هى السبب فى عدم منحها له، واحتواء أرشيف ترشيحاتها بالموقع الرسمى للجائزة على ملاحظة تشير إلى أنه لا يريدها وسيرفضها إذا منحت له، أم لا.. لكن المؤكد أن مضمون تلك الرسالة وصل رسميًا إلى سجلات الأكاديمية السويدية.
أربعة فائزين لأسباب متباينة
الأطرف أن أرشيف الجائزة الأشهر عالميًا يشير إلى فوز أربعة أدباء روس بها، ربما لا يعرف بأسمائهم أحد فى عصرنا الحديث، اللهم إلا بوريس باسترناك بسبب تمثيل النجم عمر الشريف فى الفيلم المأخوذ عن روايته اليتيمة «دكتور زيفاجو»، وكان أولهم إيفان بونين الذى فاز بها عام ١٩٣٣ عن روايته الذاتية «حياة أرسينيف»، وكانت روايته القصيرة «القرية»، والتى نشرت عام ١٩١٠ أحدثت ضجة كبيرة فى الأوساط الأدبية فى روسيا وخارجها، كما كانت بداية نشر مجموعة من الروايات والقصص الأخرى التى قيل إنها «صورت الروح الروسية وأسسها المضيئة والقاتمة وحتى المأساوية فى غالب الأحيان»، وكتب مكسيم جوركى عنها «إن أى كاتب آخر لم يتناول موضوع القرية بمثل هذا العمق والأصالة التاريخية».
وكان بوريس باسترناك هو ثانى الكتاب الروس الذين يحصلون على نوبل للآداب، عن روايته الشهيرة «دكتور زيفاجو»، وبدأ باسترناك مسيرته الأدبية قبل الثورة الروسية عام ١٩١٧ بكتاب شعرى، مستلهم من تجربة عاطفية فاشلة، ثم استمر فى كتابة الشعر حتى ١٩٣٠، فى هذه الفترة تمت محاكمته بسبب مواقفه المعارضة للنظام الشيوعى، إلا أنه تمكن من تفادى القبض عليه، وكانت «دكتور زيفاجو» هى الرواية الوحيدة التى كتبها، ولم يجد ناشرًا لها داخل الاتحاد السوفيتى، فتم تهريبها عبر الحدود إلى إيطاليا، حيث تم نشرها فى ميلان عام ١٩٥٧، ومن ثم تهريبها إلى بقية دول أوروبا، وفاز عنها بجائزة نوبل عام ١٩٥٨، إلا أنه أُجبِر على رفضها، إلى أن قام أحفاده بقبولها بعد رحيله بـ٢٠ عامًا.
ثالث الفائزين الروس بنوبل هو ميخائيل شولوخوف، الذى يعتبره البعض خليفة تولستوى بسبب عمق شخصياته النفسى، وفاز بالجائزة عام ١٩٦٥ عن روايته «الدون الهادئ» التى استغرق أربعة عشر عامًا لكتابتها، وأصبحت بعد صدورها عام ١٩٢٨ أكثر الأعمال قراءة فى تاريخ الأدب الروسى، وهى الرواية التى تم التنازع على حقوق ملكيتها عام ١٩٣٠، واستمر الجدل بشأنها حتى ظهور المخطوطة الأولية للرواية عام ١٩٩٩ وتأكيد ملكية شولوخوف لها، وظهرت الشائعات الأولى عن سرقة شولوخوف المفترضة فى عام ١٩٢٨ بعد نجاح المجلدين الأولين من رواية «الدون الهادئ»، وتردد أنه سرق المخطوطة من ضابط ميت فى الجيش الأبيض، وطلبت صحيفة «برافدا» من شولوخوف إثبات تأليفه للرواية، وتقديم مخطوطاته للمجلدات الثلاثة الأولى، وخطة المجلد الرابع. وفى عام ١٩٢٩ تم تشكيل لجنة خاصة من أربعة خبراء قبلت تأليف شولوخوف للرواية، وكتبت فى تقريرها أنه لا يوجد أى دليل على السرقة الأدبية من ناحية، ومن ناحية أخرى كان أسلوب المخطوطات قريبًا من أسلوب كتاب شولوخوف السابق، ثم عادت الادعاءات إلى الظهور فى الستينيات مع ألكسندر سولجينتسين كمؤيد بارز، ربما انتقامًا لرأى شولوخوف اللاذع فى رواية سولجينتسين القصيرة «يوم واحد فى حياة إيفان دينيسوفيتش»، وقيل إن الرواية كتبها عدد من الكتاب، ثم فى عام ١٩٨٤، قدم عالم الرياضيات والسلافى النرويجى جير كجيتسا، فى دراسة كتبها مع ثلاثة آخرين، تحليلات إحصائية لأطوال الجمل التى تبين أن ميخائيل شولوخوف كان على الأرجح المؤلف الحقيقى، وقيل إن سبب تلك الضجة التى أثيرت حول الرواية أن أرشيف شولوخوف تم تدميره فى غارة بالقنابل خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تُعرف أى مادة مخطوطة أو مسودات، إلى أن تم العثور لاحقًا على ١٤٣ صفحة من مخطوطة الكتابين الثالث والرابع، وأُعيدت إلى شولوخوف؛ وفى عام ١٩٨٧، تم اكتشاف مئات من الصفحات التى تحتوى على ملاحظات ومسودات العمل، بما فى ذلك الفصول المستبعدة من المسودة النهائية، وأخيرًا حصل معهد الأدب العالمى التابع لأكاديمية العلوم الروسية على المخطوطة فى عام ١٩٩٩.
أما رابعهم فهو ألكسندر سولجينتسين، أحد أكبر معارضى الاتحاد السوفيتى، ألقى القبض عليه عام ١٩٤٥ بسبب خطاب كتبه لزميل تضمن ملاحظات نقدية ضد نظام الحكم، وبعد خروجه من السجن بدأ كتابته الإبداعية، وتلقى «نوبل» عام ١٩٧٠، عن مجمل أعماله الأدبية.