إيزابيل الليندى.. راوية الأكاذيب الفاتنة
- طردوها من العمل كمترجمة لتغييرها حوار الشخصيات النسائية لتبدو أكثر ذكاءً.. وتأليفها نهاية مختلفة لقصة «سندريلا»
يضع منظرو فن الرواية دائمًا القصة أو الحكاية فى مرتبة متأخرة بين مكونات العمل الجمالية، ومنهم من ينظرون إليها باعتبارها مجرد عنصر هامشى أو ثانوى، أو ليس بنفس أهمية اللغة والأسلوب، أو المدارس والتيارات الفكرية والنقدية التى ينطلق الكاتب فى عمله وفقًا لمعطياتها أو حتى يسترشد بها، بينما أظن، شخصيًا، أن الحكاية فى شكلها البسيط هى التربة التى لا نبات بدونها، ولا مكان لجماليات لغوية أو أسلوبية فى غيابها، سواء كانت تلك القصة مجرد حكاية خرافية أو واقعية، حقيقية أم متخيلة، تدور أحداثها فى عقل الكاتب أم خارجه، واقعة تقبل الحدوث، أم مجرد فرضية لا تتفق مع قوانين الفيزياء البسيطة، ولا تخضع لها، والقصة أو الحكاية، فى تصورى، ليست كما قد يظن البعض أنها لا بد أن تحتوى على ما يطلق النقاد عليه الحبكة الدرامية، أو الحبكة دون تحديد.. فقد تكون لدينا حكاية عن مشاعر تشتعل فتنمو وتزدهر ثم تخبو وتخفت، أو تتغير دون مبررات معلومة وواضحة، ودون دراما العقدة والحل، وقد تكون لدينا قصة عن رغبة قديمة ومكتومة، أو واقعة متخيلة، وافتراضية، أو غيرها مما أفاضت فى شرحه نظريات النقد الأدبى الحديث، وصولًا إلى الحديث عن قدرة فن الرواية على احتواء أشكال الإبداع الفنى والأدبى كافة، والانفتاح على كل الاحتمالات الجمالية الممكنة.. وربما كان البرتغالى الأشهر جوزيه ساراماجو فى مقدمة من كتبوا رواياتهم منطلقين من أفكار وتصورات جمالية نظرية، أو حتى أفكار أيديولوجية، ثم تأتى الحكاية أو القصة كعنصر مساعد، أو مجرد إطار لتقديم هذه الأفكار والتصورات وشرحها، لكنها دائمًا ما تحتل مكانة محورية فى عمله، لا يستقيم بدونها، وإن كانت تلك القصة مجرد سرد لحادثة تتضمن طفو جزيرة وسيرها فى المحيط على غير هدى، نتيجة لمقدمات تبدو غير منطقية بمنطق الفيزياء، لكنها تصنع منطقها الروائى والفنى الخاص، كما فى رائعته «الطوف الحجرى»، أو رواية «العمى»، أو «انقطاعات الموت»، وإن كانت تلك القصة تقوم على حشد من الأكاذيب، والخيالات التى تخص كاتبها كما فى حالة الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندى التى تكشف بنفسها عن قصة دخولها إلى عالم الرواية من باب «الكذب»، أو اختلاق القصص، وهى التى يتعامل العالم كله، مع رواياتها، بما فيه أسرتها، باعتبارها ظلالًا لسيرتها الذاتية، أو لرحلة عائلتها مع الدنيا، أو باعتبارها مجرد سرد فنى لما حدث بالفعل، بينما لا تتوقف هى عن التصريح بأنها لم تستطع أبدًا أن تلتزم بالوقائع، أو حتى محاولة أن تكون موضوعية.
صدمة نيرودا ونصيحته الذهبية
فى بداية حياتها العملية اشتغلت الروائية التشيلية إيزابيل الليندى كمترجمة للروايات الرومانسية من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الإسبانية، لكنها لم تتمكن من المواصلة، وتم طردها من العمل بسبب تدخلاتها فى النصوص، وتغييرها لحوارات الشخصيات النسائية حتى تبدو أكثر ذكاءً، حتى أنها قامت بتأليف نهاية مغايرة لنهاية قصة «سندريلا»، مدعية أنها فعلت ذلك لكى تسمح لبطلتها بالعثور على مزيد من الاستقلالية وفعل الخير فى العالم، وربما كان ذلك هو سر مواجهتها بالحقيقة الصادمة من مواطنها الشاعر التشيلى الأكبر بابلو نيرودا، عندما ذهبت إليه لإجراء حوار صحفى معه بعد فوزه بجائزة «نوبل للآداب» عام ١٩٧١، وكان صديقًا لابن عم والدها الرئيس سلفادور الليندى، وهى الواقعة التى حكتها بنفسها أكثر من مرة، فقالت فى حوار تليفزيونى إن نيرودا عندما اشتد عليه المرض، قرر العودة إلى تشيلى لكى يموت ويدفن فيها، فذهبت إليه فى منزله فى إيسلا نيجرا لإجراء حوار صحفى معه، ولأنه كان صديقًا لابن عم والدها، ويعرفها جيدًا، فقد رحب بها، وتحدث معها طويلًا فى الكثير من الأمور حتى تأخر الوقت، وتقول: «تناولنا الغداء، وكان عبارة عن سمك ونبيذ أبيض، ثم قلت له: هل يمكننا أن نبدأ المقابلة لأن الوقت تأخر، ويجب أن أعود إلى سانتياجو؟ فتساءل: أى مقابلة؟، فقلت: جئت لأجرى مقابلة صحفية معك، فأجابنى: لا.. لن أجرى معك أى مقابلة، أبدًا، فأنت الصحفية الأسوأ فى هذا البلد، إنك تكذبين دائمًا.. ولا يمكنك قول الحقيقة أبدًا، فأنت تحشرين أنفك فى كل شىء، وتضعين نفسك وسط كل حدث، ولهذا فلا يمكنك أبدًا أن تكونى موضوعية.. أنا واثق بأنه إذا لم يكن لدىّ ما أقوله فستختلقين قصة ما، حتى لو لم يكن هناك أى شىء.. لم لا تتجهين لكتابة الأدب، حيث تصبح كل هذه العيوب مميزات وفضائل؟!».. الطريف أن تلك المقابلة التى قدم لها فيها نصيحة ذهبية بكتابة الرواية، أدت إلى نشر أول كتاب لها، حيث أسر لها وهو يودعها بإعجابه بمقالاتها الساخرة، وطلب منها أن تجمعها فى كتاب، ففعلت ذلك بالفعل، وأصبح هو أول كتاب منشور لها.
وقتها كانت هى على أبواب عامها الثلاثين، وكانت تعمل بالصحافة التى بدأت رحلتها معها بالعمل فى مجلة «باولا» النسائية فى عام ١٩٦٧، بعد عودتها من مسيرة التنقل الطويلة مع عائلتها حول العالم، وقرارها الاستقرار فى تشيلى، وهى المجلة التى انتقلت منها إلى أخرى متخصصة فى الكتابة للأطفال، هى مجلة «مامباتو».. وبنفس الأريحية التى تروى بها تفاصيل الحياة الخاصة لبطلات رواياتها، تحكى عن مشوارها الصحفى قائلة: «أنا مثل كثير من كتاب أمريكا اللاتينية الذين بدأوا كصحفيين، وحتى عندما أصبحوا روائيين استمروا فى العمل بالصحافة.. أعتقد أن الصحافة مهمة للكاتب، لأنها تجعله يحتك بالواقع، وهذا الاحتكاك هو ما يمنحه الكثير من الأفكار التى يحتاجها فى عمله، وبالنسبة لى بدأت كصحفية لكنى كنت صحفية سيئة، ولم أستطع أبدًا أن ألتزم بالوقائع والحقائق، أو أن أكون موضوعية فيما أكتبه».
على خطى يوسا وماركيز
بعد عشر سنوات من لقائها بنيرودا، بدأت إيزابيل الليندى كتابة روايتها الأولى «بيت الأرواح» التى نشرت عام ١٩٨٢، وهى الرواية التى وضعت اسمها بقوة ضمن تيار «الواقعية السحرية» الذى انتشر فى أمريكا اللاتينية فى النصف الثانى من القرن العشرين، والذى بدأه ماريو فارجاس يوسا، واستحوذ عليه جابرييل جارسيا ماركيز منتقلًا به إلى العالمية، وهو الكاتب الذى تصفه الليندى بأنه «أستاذ الأساتذة»، وتعترف بأن روايته «مائة عام من العزلة» هى التى جعلتها ترغب فى كتابة الرواية قائلة «كانت شخصياته أكثر شبهًا بأفراد عائلتى، وصوته بدا سهلًا بالنسبة لى».
والحكاية أنه خلال وجودها فى المنفى بمدينة كاركاس الفنزويلية تلقت مكالمة هاتفية تبلغها بأن جدها البالغ من العمر ٩٩ عامًا على وشك الموت، فجلست لتكتب إليه رسالة «على أمل إبقائه على قيد الحياة، على الأقل روحيًا»، فتطورت الرسالة، وتدفقت الكلمات بما يزيد على ٥٠٠ صفحة، وصولًا إلى رواية «بيت الأرواح»، التى قالت إن الهدف منها كان هو طرد أشباح ديكتاتورية بينوشيه، والطريف أنه تم رفض الرواية من قبل عدد كبير من الناشرين فى أمريكا اللاتينية، حتى أرسلتها فى النهاية إلى ناشرة فى العاصمة الأرجنتينية «بوينس آيرس»، فأحدثت ضجة هائلة، وسرعان ما توالت طبعاتها لأكثر من عشرين طبعة باللغة الإسبانية، كما تمت ترجمتها إلى عشرات اللغات، ومقارنة الليندى بماركيز ويوسا، فقالت: «لا أعتقد أننى كنت سأصبح كاتبة جادة لو بقيت فى تشيلى، سأكون محاصرة فى الأعمال المنزلية، فى الأسرة، فى الشخص الذى يتوقعه الناس لى».
على أن التحدى الأكبر كان فى روايتها الثانية، وتحديدًا عندما قالت لها وكيلتها الأدبية كارمن بالسيلز إن «الجميع بإمكانه تأليف كتاب أول جيد، لأنهم يضعون فيه كل ما فى حوزتهم، ماضيهم وذكرياتهم وتوقعاتهم.. الكاتب الحقيقى يثبت نفسه فى الكتاب الثانى»، ولتثبت لها أن نجاح العمل لم يكن ضربةَ حظ، بدأت فى كتابة روايتها الثانية فى ٨ يناير ١٩٨٢، وهو يوم مقدس بالنسبة لها، تتفاءل به، وتبدأ كتابة جميع رواياتها فيه، إلى جانب حفاظها على روتين صارم للغاية، فهى تكتب على جهاز كمبيوتر، وتعمل من الساعة التاسعة صباحًا إلى السابعة مساء، من الإثنين إلى السبت، وتقول: «أبدأ دائمًا فى ٨ يناير، وهو تقليد بدأته عام ١٩٨١، برسالة كتبتها إلى جدى».. وتقول موسوعة «ويكيبيديا» غير الدقيقة أحيانًا، أن روايات إيزابيل الليندى ترجمت إلى أكثر من ٤٢ لغة، وبيعت منها أكثر من ٧٧ مليون نسخة.
أما عن اتخاذها الكذب سردًا كطريق إلى قول الحقيقة فتقول: «لقد حدثنا ماركيز عن ماهيتنا، عمن نكون، فى صفحات رواياته رأينا أنفسنا كما لو كنا ننظر فى المرآة.. عندما تقبل ككاتب أن السرد المتخيل هو مجرد كذب، تصبح حرًا.. عندها يمكنك أن تفعل أى شىء، فتبدأ بالمشى فى دوائر، وكلما كبرت الدائرة، صارت الحقيقة أكبر وأقرب، بعدها يمكنك الحصول على الحقيقة كاملة.. كلما اتسع الأفق مشيت أكثر.. وكلما تباطأت أكثر عند كل شىء، كانت لديك فرصة أفضل لرؤية الأجزاء المتناهية الصغر من الحقيقة».
النجاة فى المنفى
ولدت إيزابيل الليندى فى مدينة ليما عاصمة البيرو، فى الثانى من أغسطس عام ١٩٤٢، وهى ابنة فرانشيسكا لونا المعروفة بلقب «دونا بانشيتا»، وتوماس الليندى، الذى كان وقتها يعمل كسكرتير ثان فى السفارة التشيلية فى جمهورية البيرو، وهو ابن عم سلفادور الليندى الذى انتخب رئيسًا للجمهورية فى عام ١٩٧٠، وتمت الإطاحة بحكمه بعدها بثلاث سنوات.
انفصل والداها عام ١٩٤٥، فعادت الأم بأطفالها إلى العاصمة التشيلية سانتياجو، وقبل أن تكمل إيزابيل عامها الحادى عشر، تزوجت أمها من دبلوماسى آخر هو رامون هويدوبرو، فانتقلت العائلة معه إلى بوليفيا، ومنها إلى بيروت، قبل أن تقرر هى العودة إلى تشيلى واستكمال دراستها الثانوية عام ١٩٥٨، حيث التقت بطالب الهندسة وقتها ميجيل فرياس الذى ارتبطت معه بعلاقة غرامية وتزوجته وهى فى العشرين من عمرها، وقيل وقتها إنها تزوجت من عائلة محبة للثقافة الإنجليزية بسبب ارتباطها بالتعليم الإنجليزى، إذ التحقت خلال وجودها فى بوليفيا بمدرسة أمريكية خاصة، وعندما انتقلت إلى العاصمة اللبنانية التحقت بأخرى إنجليزية، وقيل إنها عاشت فى تلك الفترة حياة مزدوجة، فهى فى المنزل الزوجة والأم المطيعة، وفى عملها هى الشخصية التليفزيونية والكاتبة المسرحية والصحفية المعروفة.
بدأت حياتها العملية بعد عام واحد من زواجها مع «منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة» فى سانتياجو، ثم فى بروكسل، وأماكن أخرى فى أوروبا، واستمر ذلك حتى عام ١٩٦٥، حين قررت العودة والاستقرار فى تشيلى، حيث التحقت بالعمل فى مجلة «باولا» النسائية المتخصصة، ونتيجة لترحال الأسرة الطويل، سواء مع والدها أو زوج أمها أو بسبب عملها، اختزنت ذاكرة إيزابيل الليندى الكثير من الحكايات والتفاصيل الدقيقة والحميمة، والتى حولتها إلى روايات كاشفة، عملت على تطويرها، ومدها بما يلزم من خيالها المتقد، وقدرتها الفذة على تأليف المواقف والحكايات والأكاذيب، وتسبيكها بيد وعقل أنثى ماهرة، أو كما قال لها نيرودا.. كاذبة محترفة.
فى سبتمبر ١٩٧٣، كانت قد بدأت شهرتها ككاتبة مسرحية وكاتبة قصص للأطفال، تمت الإطاحة بحكم ابن عم والدها سلفادور الليندى الذى قُتل أثناء عملية الاستيلاء على القصر الرئاسى التشيلى «لا مونيدا»، وذلك خلال الانقلاب الدموى الذى قاده الجنرال أوجستو بينوشيه، فوجدت إيزابيل نفسها تقوم بترتيب ممر آمن للأشخاص المدرجين فى «قوائم المطلوبين»، وهو ما واصلت القيام به حتى نجت والدتها وزوجها من الاغتيال بأعجوبة، وفى عام ١٩٧٥، عندما أضيفت هى نفسها إلى القائمة، وبدأت تتلقى تهديدات بالقتل، هربت «وقيل إنها نفيت» إلى العاصمة الفنزويلية كاركاس، حيث مكثت بها لمدة ١٣ عامًا، عملت خلالها كاتبة عمود فى جريدة «إل ناسيونال»، قبل أن تنتقل للعمل مديرة لإحدى المدارس الثانوية، وقبل مرور ثلاث سنوات من استقرارها فى فنزويلا بدأت الانفصال المؤقت عن زوجها الأول، فعاشت نحو شهرين فى إسبانيا عام ١٩٧٨، لكنها عادت إليه مرة أخرى، لينتهى بهما الأمر إلى الطلاق النهائى بعدها بتسع سنوات، وخلال جولة لتوقيع كتبها فى كاليفورنيا عام ١٩٨٨، التقت إيزابيل الليندى بزوجها الثانى المحامى والروائى الأمريكى ويليام سى جوردون وتزوجته فى نفس العام، وهى الزيجة التى استمرت حتى ٢٠١٥، لتتزوج من محام آخر فى نيويورك هو روجر كوكراس بعدها بأربع سنوات وتحديدًا فى عام ٢٠١٩.
وأغلب الظن أن حياة إيزابيل الليندى الحقيقية هى كلمة السر فى تلك الحالة العجيبة من التأكيد الدائم، من قبلها، على عدم قدرتها على التزام الموضوعية، أو سرد حقيقة ما حدث، وبين تصور القراء حول العالم لمصداقية ما تحكيه فى رواياتها، بمن فيهم أفراد عائلتها الصغيرة، حتى أنها فى حوار مع الصحفية المغربية خديجة إمنضو تقول ردًا على سؤال حول ذكرها كثيرًا من تفاصيل حياتها الشخصية فى أعمالها: «ليس لدى مشكلة فى الكتابة عن نفسى وعن حياتى. لا أملك أسرارًا شخصية. الأسرار الوحيدة التى أحرسها هى تلك التى أسرَّها لى الآخرون.. عند كتابة مذكراتٍ، أحرص على عدم الإساءة إلى الأشخاص الذين أذكرهم فى الكتاب، وأعرض المخطوطة على كل شخص ذكرت اسمه وأطلب موافقته، وقد طلب منى ابنى وزوجته عدم الكتابة عنهما بعد الآن، ويجب أن أحترم ذلك».