الخميس 24 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

درس «الرباط».. حين تتعثر الثقافة عند الحدود

حرف

- أسباب عقدة الخواجة متباينة، ولها جذور ممتدة إلى زمن الاستعمار ما قبل الغربى حتى

فى زمن باتت فيه الثقافة أداةً استراتيجية للتموقع الدولى وبناء الصورة الذهنية للدول، يبدو أن صناعة النشر فى مصر تواجه اختبارًا قاسيًا يهدد صدارتها التاريخية. أزمة تأخّر شحنة كتب الناشرين المصريين المشاركة فى معرض الرباط الدولى للكتاب «أبريل ٢٠٢٥» لم تكن مجرد خلل لوجستى، بل لحظة كاشفة تعكس اهتزاز منظومة التمثيل الثقافى، وتطرح علامات استفهام كبيرة حول أولوياتنا المؤسسية، وغياب الحد الأدنى من التنسيق والمسئولية الوطنية.

مالذى حدث؟ ومن المتسبب؟

شارك فى معرض الرباط الدولى هذا العام أكثر من ٣٥ ناشرًا مصريًا، يمثلون جزءًا معتبرًا من الحضور العربى فى المعرض، بتنظيم للمشاركة من اتحاد الناشرين المصريين. وكان من المفترض أن يتم شحن كتبهم عبر ثلاث حاويات بحريّة كافية للمحتوى، إلا أن ما تم فعليًا هو شحن «أربع حاويات»، ما أثار تساؤلات ما زالت حاضرة بقوة حول المحتويات الإضافية.  

وصل ممثلو دور النشر إلى الرباط قبل افتتاح المعرض، ليفاجأوا بغياب كتبهم. تأخر الشحنة لعدة أيام حوّل الأجنحة، ومنها جناح مصر الرسمى، إلى مساحة خالية، ما اضطر بعض الناشرين إلى الاكتفاء ببطاقات تعريفية، أو الوقوف أمام طاولات فارغة، فى مشهد شديد الإحراج.  

الشحنة لم تصل حتى اليوم الخامس من المعرض، فى وقت كانت فيه فعالياته قد انطلقت بالفعل بحضور رسمى مغربى ومصرى، من بينهم وزير الثقافة المصرية. والمثير للقلق أن هناك مزاعم بتضمين شحنات لكتب غير مدرجة ضمن دور النشر المشاركة، وسفر أفراد لم يكونوا ضمن قائمة الناشرين الرسمية، ما أثار الشكوك حول وجود خلل مؤسسى فى إدارة الملف.

دلالات ثقافية عميقة

من البديهى للمشتغلين فى حقل المعرفة أن الكتاب ليس مجرد منتج، بل هو حامل لهوية وطنية، وسفير صامت للدولة. ومشاركة مصر فى المعارض الدولية، خصوصًا فى العواصم الثقافية الكبرى كالرباط، لا تندرج ضمن «النشاطات الترفيهية»، بل تُعدُّ استثمارًا استراتيجيًا فى ترسيخ المكانة الثقافية المصرية عربيًا وإفريقيًا.

غياب التمثيل المصرى الفعلى فى الأيام الأولى للمعرض منح الفرصة لدول أخرى لملء الفراغ. كانت هناك أجنحة مغربية وجزائرية وتونسية ولبنانية وأجنحة ضيف شرف إماراتى تكتظ بالزوار والبرامج، فيما بدت المشاركة المصرية باهتة، أو غائبة، رغم أنها الأكبر تاريخيًا فى معارض المنطقة دائمًا.  

هل يُعقل أن دولة مثل مصر، التى كانت تصدّر الكتب إلى كل العواصم العربية منذ عقود، وتضم أكثر من ١٥٠٠ دار نشر مسجّلة، تعجز عن إيصال شحنة كتب فى موعدها إلى بلد عربى شقيق؟

مَنْ المتسبب؟، ومَنْ الذى سيحاسب؟، وكيف سنحسن صورة الثقافة المصرية؟

الخسائر الاجتماعية والمهنية

الأزمة تركت أثارًا مؤلمة فى نفوس عشرات الناشرين، خاصة المستقلين منهم. هؤلاء الذين تحمّلوا نفقات السفر والإقامة وتكاليف الطباعة، خسروا فرص البيع والترويج والتعاقد مع موزعين جدد.  

تقديرات أولية تشير إلى أن الخسائر المباشرة تجاوزت ٧ ملايين جنيه مصرى، فضلًا عن الانعكاسات المعنوية التى لا تقلّ أهمية.  

أحد الناشرين المتضررين كتب يقول:  

«لم نذهب لنبيع فقط، بل لنعيد تقديم صورة مصر الثقافية إلى إفريقيا، وكنا نجهّز لذلك منذ شهور. ما حدث أشبه بصفعة على وجه كل ناشر مصرى».  

وأشار أحد ممثلى دور النشر المصرية الكبرى إلى أن هذه الأزمة ربما تدفعهم إلى التفكير مستقبلًا فى الاعتماد على جهودهم الفردية بدلًا من التنسيق الرسمى، وهو مؤشر خطير على اهتزاز الثقة بين القطاع الخاص والجهات المنظمة.

الأثر الاقتصادى والوطنى

الكتاب هو حجر زاوية فى «الاقتصاد الإبداعى»، وهو ما تؤكده اليونسكو مرارًا. مشاركة مصر فى المعارض الدولية ليست رمزية فقط، بل تفتح أبواب تصدير للكتاب المصرى، الذى يُعدُّ الأرخص والأكثر انتشارًا فى العالم العربى.

تقديرات السوق المغربية للكتاب العربى تشير إلى مبيعات سنوية تتجاوز «٢٠٠ مليون درهم مغربى»، والمشاركة المصرية تمثل عادة ما بين «٢٥٪ و٣٠٪» من حجم السوق فى المعارض الدولية المقامة هناك. إذن، فنحن لم نخسر مجرد مبيعات، بل خسرنا حصةً سوقية، وفرصة ترويجية كان يمكن البناء عليها استثماريًا.

الأخطر من ذلك هو الضرر المعنوى الذى أصاب سمعة مصر الثقافية. فأمام حضور دولى واسع، بدت المشاركة المصرية متخبطة، بلا رؤية، وبلا إدارة مهنية. وهذا مشهد لا يليق بتاريخ مصر الثقافى، ولا بمستوى الطموح الذى تعلنه الدولة فى محافلها الرسمية.

من المسئول؟ وما الحل؟

من الواضح أن هناك تقصيرًا مؤسسيًا يجب أن يخضع للمساءلة. اللجنة المكلفة بالتنسيق مع شركة الشحن، وتلك التى تابعت الشحن، وتحديد آليات الشحن، كلها يجب أن تكون تحت المجهر، مجهر الدولة، مجهر المصلحة الوطنية.  

محاولة احتواء الأزمة عبر «لجان داخلية» لا تكفى. أو إلصاق التهمة فقط بشركة الشحن لن يجدى، يجب تشكيل لجنة وطنية محايدة من وزارة الثقافة، واتحاد الناشرين، وبعض المتضررين، بالإضافة إلى جهة قضائية أو رقابية، لفتح تحقيق شفاف.

كما أنه من الضرورى وضع «مدونة سلوك مهنية» لتنظيم المشاركات الخارجية، تتضمن معايير واضحة للتمثيل، واشتراطات لوجستية، ومسئوليات مالية، وآليات محاسبة، على أن تُعلن هذه المدونة للناشرين قبل كل معرض.

الدرس الأهم.. صورة مصر أولًا

علينا أن ندرك أن العالم لم يعد يرى الدول فقط من خلال اقتصادها أو جيوشها، بل من خلال صورتها الثقافية. الكتاب هو جزء من هذه الصورة. والمعارض الدولية باتت ساحات للنفوذ الرمزى، وفيها تُبنى التحالفات الثقافية، وتُصاغ التكتلات الفكرية.

ما حدث فى الرباط ليس استثناءً، بل قد يتكرر إن لم يُواجَه بالجدية اللازمة. ولعل من المفيد أن نستعيد قول «مالك بن نبى»:  

«كل فكرة تنجح أولًا فى عالم الكتب، ثم تترسّخ فى عالم السياسة».  

وإذا كان الكتاب لا يصل، فإن الأفكار لا تصل. وإن غابت الأفكار، غابت صورة الوطن.

كى لا يكون الرباط... بداية الانفكاك

ما حدث فى معرض الرباط يجب أن يكون فرصة لمراجعة شاملة، لا لحملة تبريرات. مصر تملك المقوّم الثقافى، والخبرة، والكوادر، ولكن ينقصها الآن التخطيط المحترف والتنسيق بين المؤسسات والقطاع الخاص.

لن تعود مصر لقلب الخريطة الثقافية العربية بمجرد التصريحات أو دعم المعارض، بل حين يُدار الملف الثقافى كاستثمار وطنى استراتيجى.

نحن لا نطالب بمحاكمة أحد، بل بنقاش وطنى صادق. فصورة مصر، ومكانة الكتاب، وقيمة الثقافة... تستحق أكثر.