الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عودة الأسير.. عندما تغنى محمود درويش بمصر

محمود درويش
محمود درويش

النيلُ ينسى

والعائدون إليكِ منذ الفجر لم يَصِلُوا

هناك حمامتان بعيدتان

ورحلةٌ أخرى

وموتٌ يشتهى الأسرى

وذاكرتى قويَّه

والآن، ألفظُ قبل روحى

كلَّ أرقام النخيل

وكلَّ أسماء الشوارع والأزقَّة سابقًا أو لا حقًا

وجميعَ مَنْ ماتوا بداء الحب والبلهارسيا والبندقيَّهْ

ما دَلنى أحدٌ عليكِ

وأنتِ مصرْ

قد عانقتنى نَخْلةٌ

فتزوَّجَتنى

شَكَّلَتنى

أنجَبَتْنى الحبَّ والوطن المعذّبَ والهويَّهْ

ما دلّنى أحَدٌ عليكِ

وجدتُ مقبرةً... فنمتُ

سمعتُ أصواتًا.. فقمتُ

ورأيت حربًا... فاندفعتُ

وما عرفتُ الأبجديَّهْ

قالوا: اعترفْ

قلت: اعترفتْ

يا مصر.. كِسرى سباكِ ولا الفراعنةُ

اصطفوكِ أميرةً أو سَّيدةْ 

قالوا: اعترفْ

قلتُ: اعترفتْ

ونوازت الكلماتُ والعضلاتُ

كانوا يقلعون أظافرى

ويُقَشِّرون أناملى

ويبعثرون مفاصلى

ويفتِّشون اللحمَ عن أسرار مصرْ...

وتدفّقت مصرُ البعيدةُ من جراحى

فاقتربتْ

ورأيتُ مصر

وعرفتُ مصر

ما دلّنى أحدٌ خناجرهم تفتِّشنى فيخرج شكلُ مصر

يا مصر.. لستِ خريطةً

قالوا: اعترفْ

قلت: اعترفتْ

واصلتُ يا مصر اعترافاتى

دمى غطّى وجوه الفاتحينَ

ولم يغطِّ دمى جبينَكِ، واعترفتُ

وحائط الإعدام يحملنى إليك إليكِ...

أنتِ الآن تقتربين.. أنت الآن تعترفينَ

فامتشقى دمى 

والنيلُ ينسى

ليس من عاداته أن يُرجع الغرقى

وآلافُ العرائس مَنْ تقاضى أجرها؟

النيل ينسى

والقرى رفعتْ مآذنها وشكواها

وأخفتْ صدرها فى الطينِ...

والمدنُ- الجنودُ الغائبون- الاتحادُ الاشتراكىُّ- المغني

راقصاتُ البطن- والسيّاحُ- والفقراءُ

سبحان الذى يعطى ويأخذُ 

ليس من عادات هذا النيل أن يصغى إلى أحدٍ

كأنَّ النيل تمثالٌ من الماء استراح إلى الأبد

ماذا يقول النيلُ

لو نطقتْ مياه النيلِ؟

يسكت مّرةً أخرى

وينسانى...

لتسكتْ جوقة الإنشاد حول جنازتى 

وخذى عن الجثمان أعلامَ الوطن

يا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر... تحيا مصرُ

غطّى حفنة من رمل سيناء التى ابتعدتْ عن العينين

والتجأتْ إلى الرئتين

وامتشقى دمى

وخذى عن الجثمان أعلام الوطن

سيناء ليس كفن 

والنيلُ ينسى

ماذا يقول النيلُ، لو نطقتْ مياهُ النيلِ؟

يسكت مرةً أخرى

ولا يستقبل الأسرى

ليسكت ههنا الشعراءُ والخطباءُ

والشّرطىُّ والصحفىُّ

إنّ جنازتى وصلت

وهذى فرصتى يا مصرُ.. أعطنى الأمان

يا مصر.. أعطنى الأمان

إنى حرستُك. كانت الأشياء آمرةً وآمنةً وكان المطربُ

والسمىُّ يصنع من نسيج جلودنا وَتَرَ الكمان

ويُطْربُ المتفرِّجين

قد زيَّفوا يا مصر حنجرتى

وقامةَ نخلتى

والنيل ينسى

والعائدون إليك منذ الفجر لم يَصِلوا

ولستُ أقول يا مصر الوداع

شَبَّتْ خيول الفاتحين

زرعوا على فمك الكروم، فأينعتْ

قد طاردوكِ- وأنتِ مصر

وعذَّبوكِ- وأنت مصر

وحاصروكِ- وأنت مصر

هل أنت يا مصر؟

هل أنت... مصر؟