العلاج بالكتابة.. قصة انتصار روائية هندية على الموت السريرى

يمر كلٌّ منّا بأيام باهتة، وأجد نفسى الآن فى إحداها. أشعر بأن مخزون طاقتى قد نفد، فلم أستطع أداء صلاة التراويح التى لطالما هذّبت روحى وشذّبتها، تمامًا كما يفعل البستانى بشجرة متناثرة الأوراق، يجمع شتاتها، ويعيد إليها رونقها، فتبدو أكثر جمالًا وسكينة. هكذا تفعل بى الصلاة.
لكن، لأن «لا حلاوة من دون نار»، فإن الصلاة تحتاج إلى جهد وصبر، وعندما تخور قواى- كما هو الحال الآن- لا أجد بدًا من إطفاء أنوار المنزل، والجلوس أمام حاسوبى، شاردة الذهن، متسائلة: هل الكتابة دواء للنفس أم عبء عليها؟
هل البوح يحرر أرواحنا فتنساب الكلمات بسلاسة بعد كتمانها؟ أم أنها تخرج بصعوبة، كما تُنتزع روح الظالم، كالشوك العالق فى صوف مبلل؟
مؤخرًا، أُوكلت إلىَّ مهمة ترجمة وإعادة تحرير بعض النصوص الصحفية المهمة والشيقة من مواقع أجنبية إلى العربية. كانت تجربة مكثفة، دفعتنى للبقاء على اطلاع دائم بأهم وأشهر المواقع الثقافية العالمية. ومن بين كل ما قرأت، لم يترك شىء أثرًا فىّ كما فعل مقال بعنوان «كاتبة بلا كلمات»، لكاتبة هندية أمريكية تُدعى سامينا على، صاحبة رواية «قطع لن تستردها أبدًا» هى كل أعمالها المنشورة.
فى مقالها، تسرد سامينا قصة شخصية مؤثرة، تعكس كيف يمكن للكتابة أن تكون طوق نجاة، رغم كل العوائق الجسدية والنفسية التى قد تواجه الكاتب.
حياة انقلبت راسًا على عقب
فى عام ١٩٩٩، كانت سامينا فى التاسعة والعشرين من عمرها، تعمل على كتابة روايتها عندما حملت بابنها الأول. لم تمر ولادتها بسلام، إذ تعرضت بعد عشرين دقيقة من الولادة لنوبة صرع كبرى قطعت عنها الأكسجين لثلاثين ثانية، ما تسبب فى نزيفين دماغيين وأدخلها وحدة العناية المركزة للأعصاب. لم تكن هذه سوى بداية معاناة طويلة، حيث عانت أيضًا من فشل كلوى، وفشل كبدى، وتلف فى القلب، وأزمة رئوية. تفاقم الأمر بانخفاض عدد الصفائح الدموية إلى حدٍّ جعل دمها غير قادر على التجلط، إضافة إلى تورم دماغى شديد كاد يدفع الأطباء لحفر ثقب فى جمجمتها لتخفيف الضغط.
حينها، أخبر طبيب الأعصاب عائلتها بأنها لو كانت محظوظة، فستموت سريعًا. أما إن نجت، فستظل فى حالة موت سريرى، تعيش فقط بفضل الأجهزة والأنابيب الطبية.
لكنها نجت، بأعجوبة. ومع ذلك، لم تخرج من هذه المحنة دون خسائر.
العودة إلى الصفر
كان الضرر الذى لحق بدماغها شديدًا. لم تعد قادرة على الوقوف أو المشى بمفردها، ولم تستطع حتى القيام بأبسط المهام اليومية كتنظيف أسنانها أو الاستحمام. فقدت البصر فى عينها اليمنى، وعانت من فقدان ذاكرة مؤقت، بينما كان حليبها ممتلئًا بالسموم، ما اضطرها إلى شفطه والتخلص منه.
لكن الضربة القاصمة بالنسبة لها لم تكن فى الإعاقات الجسدية، بل فى فقدانها القدرة على الكلام والتفكير. كانت هناك فجوات لغوية تمنعها من التحدث بطلاقة، بل حتى من التفكير بشكل سليم. لم تعد كاتبة ولا حتى مفكرة، فقد فقدت كليًا قدرتها على التخيل والتخطيط والإبداع.
انتهت حياتها كما عرفتها. لم يُحِلها أى طبيب إلى إخصائى نطق أو علاج طبيعى، ولم يَعِدها أحد بأنها ستتمكن من الكتابة مجددًا. حتى عندما أصبحت أمًا، وجدت نفسها عاجزة كطفلها حديث الولادة، لا حول لها ولا قوة.
معركة العقل والقلب
فى الشهور الأولى من فترة النقاهة، غرقت سامينا فى اكتئاب شديد. لم تستطع تقبّل حالتها، وامتلأت بالمرارة والغضب، فألقت باللوم على الأطباء الذين فشلوا فى التدخل أثناء الولادة، وعلى النظام الطبى العنصرى، وعلى العالم بأسره. شعرت بأنها سقطت فى هاوية لا خروج منها، وأن جسدها قد خانها.
ومع ذلك، وسط كل ذلك الظلام، ظلت هناك شرارة صغيرة لم تنطفئ، رغبة لا تُقاوم فى الكتابة، فى الإبداع، فى استعادة جزء من حياتها القديمة.
على مدار السنوات الأربع التالية، خاضت معركة شاقة مع ذاتها. كان مجرد ترتيب الكلمات فى عقلها يسبب لها صداعًا مُنهكًا، لكنها كانت تكتب رغم الألم حتى تنهك قواها بالكامل، فتسقط على الأرض بجانب مكتبها، مُلتفّة على نفسها كجنين يبحث عن مأوى.
فى الأيام الصعبة، لم تكن تحتمل الكتابة لأكثر من خمس دقائق قبل أن تعجز عن الاستمرار. أما فى الأيام الجيدة، فكانت تصل إلى عشر دقائق. لكنها لم تستسلم.
كلمات ضائعة فى متاهة العقل
لم يكن فقدان القدرة على الكلام مجرد مشكلة فى النطق، بل امتد إلى الكتابة أيضًا. كثيرًا ما كانت تفكر فى كلمة معينة، لكنّ يديها تكتبان شيئًا آخر تمامًا. تظهر على الشاشة كلمات عشوائية لا علاقة لها بما تريد قوله- «زلاجات جليد» بدلًا من «الهند»، و«خوخ» بدلًا من «مطر».
والأسوأ من ذلك، كانت هناك لحظات يصبح فيها عقلها عاجزًا عن إدراك أن ما تكتبه ليس سوى هراء، أحيانًا مجرد حروف مجمّعة بلا معنى.
رغم كل ذلك، لم تتوقف عن المحاولة. كانت خائفة جدًا من الاعتراف بأن حياتها السابقة قد انتهت، فواصلت الكتابة كأنها تتشبث بخيط الحياة الأخير.
الشفاء عبر الكتابة
تسأل سامينا: كيف نقيس تعافينا؟
تُدرك الآن أن كتابة روايتها أنقذتها، رغم أنها لم تكن تعلم ذلك حينها. فعملية إعادة سرد تجربتها الشخصية أجبرت عقلها على العمل— على استرجاع الذكريات، والتخطيط للمستقبل، وربط الكلمات بالأفكار.
على مدى شهور وسنوات، جلست يوميًا أمام الكمبيوتر، مجبرةً عقلها على تكوين روابط جديدة بين خلاياه، تُعرف بالمسارات العصبية، ما ساعدها تدريجيًا فى استعادة جزء من وظائفها الإدراكية.
ورغم أنها لم تعد كما كانت تمامًا، ولا تزال تعانى بعض المشكلات الإدراكية حتى اليوم، إلا أنها تعتبر نفسها قد تعافت.
لكن المفارقة، أنها هجرت الكتابة بعد ذلك. خلال العشرين عامًا التى تلت نشر روايتها، لم تجرؤ على قراءتها مجددًا.
الكتابة بين الشفاء والعذاب
قصة سامينا على ليست مجرد شهادة على قوة الكتابة، بل أيضًا على ثقلها. فالكتابة التى أنقذتها كانت أيضًا مرآة عكست أعمق آلامها. ورغم أنها ساعدتها فى إعادة بناء نفسها، إلا أنها لم تُشفها بالكامل.
وهنا أعود إلى سؤالى الأول: هل الكتابة تشفى أم تُشقى؟
هل هى بلسم للروح أم سكين ينكأ الجراح؟
بالنسبة لسامينا، كانت الكتابة معجزة أعادت تشكيل عقلها، لكنها فى الوقت ذاته حمّلتها عبئًا نفسيًا هائلًا. وبالنسبة لى، أجد نفسى أحيانًا فى منتصف هذا الصراع بين الحاجة إلى الكتابة كوسيلة للتنفيس، والخوف من أن تزيدنى انغماسًا فى الألم.