الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

لا فضائيين ولا «أتلانتس».. متى تتوقف محاولات سرقة الحضارة المصرية؟

حرف

- مدينة خفية أسفل الأهرامات آخر ادّعاء.. وزاهى حواس لـ«حرف»: «أكاذيب»

لا تزال الحضارة المصرية القديمة واحدة من أكثر الحضارات التى تثير الدهشة والإعجاب فى العالم، ليس فقط بسبب إنجازاتها العظيمة فى الهندسة والطب والفن والدين، بل أيضًا لما خلفته من إرث مادى هائل، ما بين الأهرامات والمعابد الضخمة والكنوز الذهبية والبرديات التى حفظت أسرار بقيت لآلاف السنين، ما جعل البعض يعتقد أن المصريين القدماء امتلكوا أسرارًا تتجاوز قدرات الإنسان العادى.

لذا، ليس من الغريب ظهور العديد من الادعاءات المثيرة حول الحضارة المصرية القديمة، على مر العقود ومن كل مكان تقريبًا، بعضها يستند إلى رغبة فى كشف غموض ما عجز العقل الحديث عن فهمه، والآخر تقف وراءه دوافع سياسية أو أيديولوجية، وكان آخرها ما نشرته العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية العالمية عن «مدينة خفية تحت أهرامات الجيزة»... فما قصة هذه المدينة؟ وما حقيقتها؟

المدينة الخفية

خرج باحثون من إيطاليا واسكتلندا، فى منتصف شهر مارس الجارى، ليعلنوا عن التوصل إلى «مدينة خفية» تحت هرم «خفرع». ووفقًا للصحف والمواقع العالمية التى نشرت هذا الادعاء، استخدم هؤلاء الباحثون أجهزة نبضات رادارية لإنشاء صور عالية الدقة من أعماق الأرض، بنفس الطريقة التى يستخدم بها رادار «السونار» لرسم خرائط أعماق المحيطات.

ويروج هؤلاء الباحثون لوجود مدينة ضخمة تحت الأرض، تمتد على مسافة تزيد على ٦٥٠٠ قدم تحت أهرامات الجيزة، ما يجعلها أكبر بـ١٠ مرات من الأهرامات نفسها. ووفق الدراسة المثيرة للجدل، هناك ٥ مبانٍ متطابقة أسفل قاعدة هرم «خفرع» متصلة بـ٨ مسارات هندسية على شكل هياكل أسطوانية رأسية تمتد لأكثر من ٢١٠٠ قدم تحت الهرم، بالإضافة إلى المزيد من الهياكل غير المعروفة على عمق ٤٠٠٠ قدم.

وفى ظل انبهار العالم الذى لا ينتهى بالحضارة المصرية القديمة وبالغموض المحيط بها، انتشرت هذه الدراسة وأصبحت حديث الجميع، خاصة مع إعلان الباحثين عن نيتهم عرض «إثبات علمى» على روايتهم.

لكن منذ الدقيقة الأولى لانتشار هذه الرواية أو «البحث»، بدأ المتخصصون والعلماء فى المصريات، سواء من المصريين أو الأجانب، تكذيب «الدراسة»، فى ظل إثباتات علمية تؤكد أن أهرامات الجيزة مبنية على هضبة من الحجر الجيرى الصلب.

بالحديث مع الدكتور زاهى حواس، عالم الآثار العالمى، نفى بشكل قاطع ما تم تداوله مؤخرًا حول وجود أنفاق أو «مدينة ضخمة» تحت أهرامات الجيزة، خاصة أسفل هرم الملك «خفرع»، واصفًا هذه الأنباء بأنها «أكاذيب تفتقر إلى أبسط معايير العلم الرصين، صادرة عن غير متخصصين فى الحضارة المصرية القديمة وتاريخ الأهرامات، وتقع فى دائرة المبالغات والتضليل».

وأضاف «حواس»، لـ«حرف»: «المجلس الأعلى للآثار لم يمنح أى تصاريح لهؤلاء الأشخاص لتنفيذ أى أعمال داخل هرم الملك خفرع. بالتالى لم تُستخدم أى أجهزة رادار داخل الهرم»، مؤكدًا أن «كل ما قيل عن وجود أعمدة أسفل الهرم ليس له أى أساس من الصحة، ولا يوجد أى دليل علمى يؤيد هذا الكلام، ولا توجد أى بعثات تعمل فى هرم الملك خفرع الآن».

وأفاد وزير الآثار الأسبق بأن قاعدة هرم الملك «خفرع» نُحتت من الصخر بارتفاع نحو ٨ أمتار، ولا يوجد أسفلها أى أعمدة، وذلك بناءً على الدراسات والأبحاث العلمية التى أُجريت حول الهرم فى السنوات الأخيرة، مشددًا على أن «هذه الادعاءات محاولة فاشلة للنيل من الحضارة المصرية القديمة، وشائعات ستذهب إلى مزبلة التاريخ». 

الأفروسنتريك

الادعاء سالف الذكر ليس الأول، ولن يكون الأخير بطبيعة الحال، فالادعاءات حول الحضارة المصرية القديمة كثيرة بقدر عظمة هذه الحضارة، والمنجزات الخالدة التى تركتها ولا تزال تحير العالم بكل ما أوتيه من علم وتقدم تكنولوجى كبير.

يأتى على رأس هذه الادعاءات ما تروجه «حركة المركزية الإفريقية» المعروفة اختصارًا بالـ«أفروسنتريك»، والتى ظهرت فى القرن العشرين، وتنشط بشدة فى الأعوام الأخيرة.

وبالعودة إلى تاريخ هذه «الحركة»، نجد أنها عبارة عن تيار فكرى ظهر فى الولايات المتحدة، ويركز بشكل أساسى على إبراز دور الشعوب الإفريقية فى التاريخ العالمى.

ونجح الـ«أفروسنتريك» فى ضم العديد من الشخصيات العالمية الشهيرة، خاصة من أصحاب البشرة السمراء، والذين يعملون على الترويج لادعاءات «الحركة» ودعمها ماديًا ومعنويًا.

وفيما يخص الحضارة المصرية القديمة بالتحديد، تدّعى «المركزية الإفريقية» أن «المصريين القدماء كانوا سود البشرة تمامًا»، وأن حضارتنا ليست نتاجًا للمصريين الأصليين، بل لحضارات جنوب إفريقية مثل «النوبة» و«كوش»، مستندين إلى صور ومنحوتات معينة يرون أنها «تصور المصريين القدماء بملامح إفريقية واضحة».

وتنتقى هذه الحركة أدواتها جيدًا بما يسمح لها بالترويح لأفكارها المغرضة، وعلى رأسها الأعمال الفنية الدرامية والوثائقية لترسيخ هذه الأفكار، والتى ربما من أشهرها مسلسل «الملكة كليوباترا»، الذى عرضته منصة «نتفيلكس» منتصف عام ٢٠٢٣، وأظهر الملكة «كليوباترا»، صاحبة الأصول اليونانية، سمراء البشرة، وهو ما لاقى استجهان الكثير من محبى الحضارة المصرية، سواء من المصريين أو الأجانب.

وحسب الدكتور حسين عبدالبصير، مدير «متحف الآثار» فى مكتبة الإسكندرية، فإن الادعاءات التى ترددها حركة الـ«أفروسنتريك» غير مدعومة بأى أدلة علمية أو أثرية، مؤكدًا أن «الدراسات الجينية الحديثة أثبتت أن المصريين القدماء لم يكونوا من أفارقة جنوب الصحراء، بل كانوا ينتمون إلى شمال إفريقيا، مع خليط من الجينات الشرق أوسطية والأوروبية».

وأوضح «عبدالبصير»، لـ«حرف»، أن «تحليل الحمض النووى لمومياوات مصرية، مثل مومياوات الأسرتين ١٨ و١٩، أظهر تطابقًا كبيرًا مع سكان شمال إفريقيا والشرق الأدنى القديم، وليس مع دول إفريقيا جنوب الصحراء».

وأضاف عالم الآثار المصرى: «الجداريات المصرية القديمة تُظهر بوضوح التنوع العرقى فى مصر، فقد ميّز المصريون القدماء أنفسهم عن النوبيين والأفارقة والآسيويين، وتركوا آلاف التماثيل والنقوش التى تصوّر ملوكهم وأفراد مجتمعهم بملامح واضحة تختلف عن الملامح الإفريقية جنوب الصحراء».

وشدد على أن الحضارة المصرية القديمة لم تكن حضارة إفريقية «سوداء»، وإنما كانت نتاج تفاعل حضارى بين شعوب شمال إفريقيا والشرق الأدنى، مضيفًا: «كانت مصر دائمًا فى موقع تواصل ثقافى وتجارى مع إفريقيا وآسيا وأوروبا، لكنها لم تكن حضارة نوبية أو إفريقية جنوب الصحراء كما يدّعى الأفروسنتريك».

أتلانتس تحت «أبو الهول»

تعتبر قارة «أتلانتس» الضائعة من أشهر الأساطير القديمة. ووفقًا للفيلسوف اليونانى أفلاطون، كانت هذه القارة فى المحيط الأطلسى غرب أوروبا وإفريقيا، وامتلكت حضارة متقدمة للغاية، قبل أن تغرق فجأة فى المحيط بسبب كارثة طبيعية.

ومنذ ذلك الحين نُسجت العديد من القصص الخرافية حول هذه الحضارة الضائعة، إلى أن ادّعى البعض أن أصحابها ممن استطاعوا النجاة هربوا إلى مصر، ومعهم معارفهم وأسرارهم المتقدمة وكنوزهم الثمينة، ودفنوها فى ممرات وغرف سرية تحت تمثال «أبوالهول»، وهى رواية سيطرت على الكثير من العقول لفترة طويلة، إلى أن نفاها العلم جملة وتفصيلًا.

ومن أبرز العلماء الذين نفوا هذه الأسطورة، الدكتور روبرت شوك، أستاذ الجيولوجيا فى جامعة «بوسطن»، المعروف بأبحاثه حول «أبوالهول»، والذى قدم تصريحات مهمة حول ادعاءات «أتلانتس» والغرف السرية تحت التمثال المصرى الشهير.

وأجرى «شوك» مسحًا جيولوجيًا باستخدام تقنيات الموجات الزلزالية «Seismic Survey» على الصخور المحيطة بتمثال «أبوالهول»، أظهرت بما لا يدع مجالًا للشك عدم وجود أى غرف أو ممرات سرية أسفل التمثال.

وأوضح الباحث الأمريكى، فى أحد لقاءاته: «البيانات الجيولوجية لا تدعم أى فكرة عن وجود قاعة سجلات أو غرف مخفية تحت أبوالهول»، مشددًا على أن «هذه مجرد خرافات».

وأشار فى محاضراته وأبحاثه إلى أن «المصريين القدماء طوروا حضارتهم بشكل مستقل، ولم يكن هناك أى ناجين من قارة غارقة ساعدوا فى بنائها»، متابعًا: «نظرية أن أتلانتس كانت متقدمة جدًا ثم فجأة اختفت ليس لها أى دعم علمى، فالحضارات الحقيقية لا تظهر فجأة، بل تتطور تدريجيًا».

وانتقد «شوك» بشدة الكتب والمصادر التى تروج لوجود قارة «أتلانتس»، قائلًا: «هذه الادعاءات تعتمد على أساطير وأوهام، وليس على أدلة أثرية حقيقية.. من السهل خلق قصة جذابة، لكن من الصعب دعمها علميًا».

القادمون من السماء

من الأساطير الأخرى التى ارتبطت بالحضارة المصرية القديمة، ويمكن وصفها بالأسطورة الأقدم والأشهر، تلك التى تحكى عن «قادمين من السماء» علّموا المصريين القدماء أسرار الفلك والهندسة والطب، وهى الفكرة التى رُوجت من عدة كُتّاب ومشاهير على مر السنين، ولا تزال حتى يومنا هذا، ربما فى محاولة لتفسير ما عجزت العقول عن تصديقه.

واستند هذا الادعاء إلى عدة «أدلة»، أبرزها ما يعرف باسم «فرضية محاذاة الجبار»، التى طرحها الكاتب والباحث روربرت فال، فى أوائل التسعينيات، وادّعى فيها أن مواقع الأهرامات الثلاثة تتطابق مع مواقع النجوم الثلاثة فى حزام «كوكبة الجبار»، زاعمًا أن «المصريين القدماء تلقوا إرشادات من الفضائيين للتوصل لهذه الحسابات الفلكية الدقيقة».

ويرى أصحاب هذا الادعاء استحالة التعامل مع الأحجار التى اُستخدمت فى بناء الأهرامات من قِبل بشر طبيعيين، نظرًا لضخامتها التى وصلت إلى ٨٠ طنًا للحجر الواحد فى بعض الأحيان، ما جعل البعض يجزم باستخدام تقنيات متقدمة لنقل هذه الأحجار الضخمة، بالإضافة إلى شكل بعض المومياوات المكتشفة، التى يرى البعض أنها بجماجم ممدودة بشكل غير طبيعى، ما يجعلها «أقرب لشكل الكائنات الفضائية».

واستشهد البعض من مروجى هذه النظرية بنصوص قديمة تتحدث عن «الآلهة القادمة من السماء»، موضحين أن «هذه النصوص تتحدث عن آلهة نزلت من السماء لتعيش فى الأرض المقدسة مصر». ويعتقد هؤلاء أن هذه النصوص تشير إلى أن «كائنات فضائية زارت الأرض لتساعد المصريين فى بناء حضارتهم، ثم صعدت للسماء مرة أخرى».

ولا تنتهى مثل هذه الادعاءات، فهناك نقوش وقطع أثرية ينسبها البعض إلى «الفضائيين»، وغيرها من الأكاذيب الأخرى.

ورد العديد من المتخصصين على هذه الفرضية الكوميدية، ربما من أبرزهم الدكتور مارك لينر، عالم المصريات الشهير، الذى تخصص فى دراسة الأهرامات لعقود، وقال بشكل واضح: «لدينا أدلة أثرية دامغة على أن المصريين القدماء هم من بنوا الأهرامات، وليست كائنات فضائية».

وأضاف: «وجدنا ورش العمل وأدوات البناء ومخطوطات المهندسين، ومقابر العمال الذين شاركوا فى البناء. لذا، هذه النظريات لا تستند إلى أى دليل علمى، بل إلى خيال محض».

وواصل: «نحن نعرف كيف تم بناء الأهرامات خطوة بخطوة. وجدنا محاجر الحجر الجيرى، وبقايا الطرق المستخدمة لنقل الأحجار، وأدلة على النظام اللوجستى المعقد الذى نظّمه المصريون القدماء لتوفير الطعام والمسكن للعمال»، مشددًا على أن «كل هذه الاكتشافات تثبت أن بناء الأهرامات لم يكن لغزًا خارقًا، بل إنجازًا بشريًا عظيمًا».

وأتم بقوله: «الأفكار التى تروج لأن الفضائيين هم من بنوا الأهرامات ليست فقط غير علمية، بل أيضًا تقليل من شأن المصريين القدماء وعبقريتهم الهندسية».