الثلاثاء 01 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

طعم آخر

حرف

يرى البعض أن الدين إنما هو اكتشاف مصرى قديم، فقد كان المصريون القدماء هم أول من اهتدى لفكرة أن هناك إلهًا خالقًا لهذا الكون الكبير، وهو ما أكده القرآن الكريم بقوله: «فطرة الله التى فطر الناس عليها».

لذلك كان أتوم عند المصرى القديم هو الإله الذى خلق نفسه بنفسه، ولم يكن له أب أو ولد، وأسطورة الخلق التى تعود إلى آلاف السنين، تستند إلى هذا التصور الدينى لدى الإنسان القديم، وكان الكهنة المهيمنون على المعابد فى كل أنحاء مصر، يعتقدون أن الدين مسألة نخبوية يصعب على عامة الناس فهمها واستيعابها، والحقيقة أن وراء هذه الفكرة السلطوية اشتغال سواد الناس بالعمل الزراعى، وفى مصر القديمة كان ذلك العمل صعبًا وشاقًا، ويستلزم جهدًا جبارًا للسيطرة على نهر النيل، ويتراوح بين شق الترع وإقامة القصور وحرث الأرض وبذرها، إلى غير ذلك من الأعمال الصعبة، وكان الفلاح وعائلته يعملون منذ مطلع الشمس حتى غروبها، فكيف لأى منهم أن يفكر فى الدين وفلسفته، وهو المشغول بكل ذلك وبصد الفيضان الغشوم الذى يأتيه كل عام، فقد كان إيمان هؤلاء إيمانًا راسخًا مستندًا إلى وجود إله حق كلى القدرة، تُقدم له القرابين، وظل الدين لآلاف السنين لدى الإنسان المصرى القديم، دينًا أساسه الطقوس بكل أشكالها وتلاوينها، بكل ما تحمله من معانى التعبد والتقوى، وإيمان راسخ عميق.

وقد ظل الدين فى مصر، حتى يومنا هذا، مفعمًا بالطقوس، وحتى بعد دخول المسيحية مصر وانتشار الإسلام فيها؛ ليصبح دين الأغلبية من أهلها، وأكبر دليل على ذلك هو شهر رمضان المبارك، فطقوس هذا الشهر والاحتفاء به، هو الذى يجعل القاصى والدانى، يؤكدان أن لشهر رمضان فى مصر «طعمًا آخر» فعلًا وليس قولًا، فلا يوجد بلد من البلدان يحتفل بهذا الشهر الكريم مثلما يحتفل المصريون، ولا نعرف على وجه اليقين كيف كان يحتفل المصريون بهذا الشهر فى عصر الولاة وبعد دخول الإسلام مصر؟، ولكن منذ العصر الفاطمى هناك العديد من الكتابات التاريخية عن الاحتفال برمضان والعيد، فيذكر الأمير المختار عزالملك محمد بن عبيدالله، المعروف بالمسبحى فيما تبقى من تاريخه المفقود جانبًا من الاحتفال بذلك، قائلًا: «وفى يوم الجمعة سلخ شهر رمضان محمل السماط على الرسم: التماثيل والتزايين والقصور من السكر وشق به البلد، وتولى عمله الشيخ نجيب الدولة أبوالقاسم على بن أحمد الجرجرائى، وكان عدد قطعه مائة واثنتين وخمسين قطعة من التماثيل، ومن القصور السكر الكبار سبعة قصور، وشق البلد بالخيال والمجانية والطبالين من السودان الفرحية واجتمع الناس لرؤيته، وكان ذلك الأمر أو الحدث ذا طابع كرنفالى، حيث خيال الظل والطبالين وتماثيل السكر وفرجة الناس عليه من الطقوس الرمضانية المبهجة، ويبدو أن فانوس رمضان يعود إلى ذلك الزمان، وربما قبله زمن الدولة الطولونية والدولة الإخشيدية، فمنذ ذاك الدهر البعيد حتى يومنا هذا، ظل الفانوس هو أكثر ما يميز البهجة الرمضانية فى مصر، فبعد الإفطار يخرج الأطفال والصبية فى المساء حاملين الفوانيس من بيوتهم؛ ليدقوا على أبواب بيوت الجيران وقاطنى الحى وهم يغنون (وحوى يا وحوى إياحة)، والكلمة الأخيرة، تعود إلى الملكة إياح حتب أم الملك أحمس، التى حثته على محاربة الهكسوس وطردهم من الأراضى المصرية بعد مقتل والده فى المعارك معهم».

كان ذلك الغناء الطفولى ينتهى بمطلب، وهو الحصول على بعض طيبات شهر رمضان، كحلوان من الكبار للصغار الذين يغنون أيضًا «أعطونا العادة.. ربى خليكم»، فيقدم الكبار بعضًا من حبات التمر الناشف أو النقل للصغار، وهو البندق، واللوز وعين الجمل والزبيب وغير ذلك، ولقد مارست فى طفولتى هذا الطقس، عندما كنت طفلة صغيرة عندما كنت ألعب مع أبناء الجيران أمام البيوت بعد الإفطار.

فانوس رمضان هو ملمح أساسى تاريخى للطقوس الرمضانية المصرية، وهو صانع البهجة والفرح بالشهر الكريم، بشكله المميز التقليدى وبمواده المتكونة من النحاس أو الصفيح الأصفر وزجاجه الملون الرائع، وقد حافظت الجماعة الشعبية على شكل الفانوس وطريقة صناعته عبر قرون طويلة ممتدة، وكانت توضع بداخله شمعة تضىء ليل الشوارع والحوارى القاهرية بعد الإفطار، ففى تلك الأزمنة القديمة لم تكن هناك كهرباء، وظل الفانوس بشكله التقليدى القديم، أحد رموز هوية مصر الرمضانية عبر الزمان، لذلك فالعجب كل العجب، أن يأتى البعض بتلك الفوانيس السخيفة غريبة الأشكال من البلاد التى لا علاقة لها برمضان وطقوسه، ليفرضوها على الناس، ويتلاعبون بالمزاج الشعبى، ومزاحمة صناعة الفانوس الوطنى القائمة على إعادة تدوير المخلفات من الصفيح والزجاج الملون، والسؤال: كم يكلف البلاد استيراد ذلك الفانوس اللقيط، حيث يدفع مقابله بالعملة الصعبة التى نحن فى أمس الحاجة إليها، وهو فانوس بلا طعم ولا روح، وأشبه بالفرخة المجمدة الخارجة من الفريزر؟

فانوس رمضان الشعبى تاريخ وهوية وملمح مصرى خالص، وللأسف لا توجد دراسة واحدة عن تاريخه، ولا توجد دراسة جمالية تشكيلية له وهو جدير بتسجيله فى يونسكو كفن تراثى مصرى أصيل، والغريب أن لا أحد فى وزارة الثقافة أو غيرها يقول للمستوردين المتربحين من جلب الفانوس المسخ المنتشر بالمحلات الآن، عيب عليكم، وحرام تشويه وجدان أطفالنا وصغارنا بذلك الذى لا علاقة له بتاريخنا وهويتنا المصرية.