الثلاثاء 01 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خير الأشرار.. حميدة.. فنان عالمى يعيش بيننا

حرف

- شخصية «بابا ماجد» صفعة قوية على وجه الأشرار الجدد والذين ظنوا أن التشخيص بالعروق المنتفخة و«الزعيق» فى وجه المشاهد

- أخرج حميدة شخصية الخواجة تاكى فى «الوسية» إلى مساحات إبداعية جديدة للشر

منذ أيام انتهى عمل فنى متكامل رائع البناء والتكوين اسمه «ولاد الشمس»، وسعدت بالاحتفاء الكبير ببطلى العمل الشابين أحمد مالك وطه دسوقى، اللذين قدما صورة مضيئة لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الفن المصرى، فى ظل جيل قادم يحمل راية السنوات المقبلة، وربما يكون هذان الشابان تحديدًا هما اللبنة التى سوف يقوم عليها بنيان السينما والتليفزيون فى المستقبل القريب، فى موقف أراه مشابهًا إلى حد كبير لبداية جيل عادل إمام الذهبى، الذى كان فيه دور عادل ومحمود ياسين ونور الشريف بمثابة القاطرة التى جرت قطار مواهب عبقرية سيطرت على فن السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات بعد ذلك، مثل أحمد زكى ومحمود عبدالعزيز ويحيى الفخرانى وصلاح السعدنى وغيرهم.. وصولًا إلى بداية الألفية وتسليم الراية لجيل جديد أو قاطرة جديدة، كان عنوانها «صعيدى فى الجامعة الأمريكية»، أو ما يمكن تسميته بجيل هنيدى ورفاقه الممتد حتى الآن.

ليس هذا موضوعنا على أى حال ربما نتعمق فيه بعد ذلك، لكننى لاحظت فى غمرة احتفائنا بمالك وطه أن أحدهم يقف هناك فى الزاوية لم يأخذ حقه كما ينبغى، عملاقًا مخيفًا ضخم الموهبة عظيم الشأن اسمه محمود حميدة أو «بابا ماجد» رجل المسلسل القوى الذى تتجمع فى قبضته خيوط اللعبة كلها من أولها حتى نهايتها.. لولا حائطه الفولاذى لانهار بنيان العمل كله ولن يسعفه حينها توهج موهبة الثنائى الشاب، فبغير قوة دور بابا ماجد، ما شعرنا بالدهشة من قوة وتماسك دورى «ولعة ومفتاح».

بابا ماجد بالنسبة لى هو الشرير الحق الذى يعيد إلى الأذهان نماذج مضيئة فى تاريخنا الفنى أدت هذه النوعية كدنا ننسى عظمة تشخيصها أدوار الشر فى غمرة غرقنا منذ سنوات داخل شلالات «التبريق» و«الشخط والنطر» التى احترفها الأشرار الجدد وحولوا معها كاراكتر «شرير» العمل إلى شكل كاريكاتيرى ساذج قائم على انتفاخ الأوداج وبروز العروق وجحوظ العينين وما تيسر من حشرجة فى الحناجر، لكن جاء بابا ماجد ليلقى بدرس مجانى لمن يريد أن يتعلم كيفية التشخيص، الهادئ الشرير الواثق الذى يعطيك ما تريد من دفقة مشاعر مختلطة بين الكره والاحترام والإعجاب بهدوء وروية أشبه بمعجزة «الدون فيتو كورليونى» الذى أبدعه مارلون براندوا فى «the godfather».

وإذا كنت من مرضى احتقار الذات بالتأكيد سوف تسخر من تشبيه حميدة بمارلون براندوا، وقد تمصمص شفاهك سخرية وتقول: «مارون براندو حتة واحدة»، هنا أدعوك إلى مراجعة نفسك وذاكرتك والبحث عن أدوار ومشاهد أيقونية لمحمود حميدة زخرت بها أعماله وصدقنى ستصل لا محالة إلى قناعة هامة، وهى ببساطة يمكن تلخيصها فى جملة واحدة: «نحن نمتلك داخل جدران وطننا العريق فنانًا عالميًا اسمه محمود حميدة.. وهذا الموضوع فى حب هذا الرجل «بابا ماجد».

مولد نجم صاعد فى التسعينيات

مع بداية حقبة التسعينيات فى الوقت الذهبى للدراما التليفزيونية ظهر على الشاشات مسلسل جديد مبنى على قصة واقعية كاتبها هو صاحبها، واسم المسلسل هو «الوسية»، ومنذ اللحظة الأولى التى عرض فيه تعلق به الناس حينها، كما حفر داخل وجدان الأجيال التالية بصمة لا تمحى، وظل صوت محمد الحلو وهو يشدو بكلمات سيد حجاب وأنغام ياسر عبدالرحمن «مين اللى قال الدنيا دى وسية» إعلانًا عن رفض الظلم فى كل زمان ومكان حتى الآن.

ظهرت على تتر المسلسل أسماء الأبطال، بداية من نجم المرحلة أحمد عبدالعزيز حتى باقى الأبطال.. أسماء مجردة متتالية حتى ظهر اسم آخر بطريقة عرض مختلفة تستطيع أن تسميها نبوءة لما حدث بعد ذلك فعليًا، كتب كالتالى: «النجم الصاعد محمود حميدة فى دور الخواجة تاكى».

الخواجة تاكى كان هو الشرير الأول لملحمة الوسية، فهو الرجل الذى يحاول استعباد الفلاحين الغلابة فى وسيته الكريهة التى بناها من عرقهم وحرمهم من أبسط حقوقهم.

كان لجوء إسماعيل عبدالحافظ إلى الوجه الصاعد محمود حميدة لتشخيص هذا الدور الأهم فى المسلسل هو مغامرة محمودة لصعوبة الشخصية القائمة على فكرة مستهلكة «الخواجة المفترى صاحب العربى المكسر»، وهى تيمة إن لم يجد الفنان لمحة جديدة للدخول إلى الشخصية ستتحول إلى دور تقليدى معتاد.

لكن حميدة أسبغ على الدور لحمًا ودمًا جديدًا، استخدم فيها شخصيته المعتدة بنفسها فى الحقيقة فى خلق نفسية مغرورة متكبرة بالغة الاستفزاز لهذا الخواجة الكريه، الذى يحمل ملامح أجنبية وعجرفة غربية بلا حدود.

خطف محمود الأضواء بدور الخواجة تاكى، وخلق حالة تساؤل عن هذا الوجه الجديد الذى توهج أمام نجم دراما التسعينيات أحمد عبدالعزيز، وظهرت للعيان مبادئ فنان ذى نكهة جديدة يبرز فى الأفق الفنى، يناطح بطلته المميزة جيلًا تربع على عرش السينما منذ السبعينيات، وهو ما حدث بشكل فعلى فى نفس العام، عندما عرضت السينمات فيلمًا لهذا الوجه الجديد أمام أحمد زكى وهو «الإمبراطور»، وكتب اسمه على تتر الفيلم بنفس الصيغة المميزة «الوجه الجديد محمود حميدة».

المارشال برعى.. كيف تخطف الأضواء من عادل إمام؟

فى العام التالى لعرض فيلم «الإمبراطور»، كانت دور السينما تتأهب للفيلم الجديد لبطل المرحلة الأول وفتاها الذهبى عادل إمام، فيلم مأخوذ عن الرواية الخالدة «العظماء السبعة» التى صيغت عشرات المرات فى الغرب والشرق، وقد استهوت الرواية عادل، خاصة أنها تخدم الصورة الذهنية التى بدأ فى تخليقها منذ العقد الفائت عن البطل المغوار خفيف الظل المنقذ الذى يجيد الأكشن بنفس درجة إجادته الكوميديا ملعبه الأساسى وسبب أسطورته.

هنا ظهر أفيش فيلم «شمس الزناتى»، والقصة ببساطة كما نعرفها ونحفظها عن ظهر قلب هى قصة شمس وأصدقائه، الذين يجدون أنفسهم فى اختبار أخلاقى، هو محاولة إنقاذ أهالى واحة صغيرة غارقة فى مجاهل الصحراء القاحلة، من براثن رجل شديد الشر فاقد الضمير يسمونه «المارشال برعى».

اختار سمير سيف الوجه الصاعد بسرعة الصاروخ محمود حميدة؛ ليقوم بهذا الدور المتوهج الذى يجد صاحبه نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يأخد الدور فى مساره التقليدى العام، رجل شرير يغالى فى افترائه على أهالى الواحة الطيبين، أو يحاول أن يسحب الدور إلى أرضيته هو ليصبغ روحا جديدا خاصة به عليه ختمه الخاص، مثل كل عباقرة الشر غير التقليدين.

ما حدث كان مبهرًا فقد أحبت الكاميرا طلة المارشال بشكل غير متخيل، واستطاع محمود حميدة بأدواته وموهبته المطواعة الصمود بهذا الدور أمام كاريزما عادل إمام الكاسحة، وهى الفترة الذهبية فى حياة عادل بعد تدشينه زعيمًا رسميًا لجيله.

وكما هو متوقع عندما عرض فيلم شمس الزناتى فى سينمات القاهرة عام ٩١ حقق نجاحًا جماهيريا كاسحًا، وخرج أغلب الجمهور راضين عن فيلمه الذى حبس أنفاسهم لمدة ساعتين، وتعلقوا بكل أبطاله من أول عادل وسوسن بدر ومرورًا بمصطفى متولى وأحمد ماهر ومحمود الجندى ورشدى المهدى، لكن فى تقديرى أن محمود حميدة ألقى فى قلوب الجميع قطعة إضافية من الدهشة والارتباط بشخصية المارشال برعى ليدشن حميدة طريقة جديدة فى تشخيص شرير الفيلم الذى لا تستطيع أن تمنع نفسك من الإعجاب به وبحركاته وسكناته المدروسة دون أن يقل معدل كرهك لشره المفرط.

الطريق إلى «ولاد الشمس» مفروش بالروعة

بعد دور المارشال برعى صار محمود حميدة من الأحصنة الرابحة فى السباق السينمائى وأصبح محط أنظار كثير من صناع السينما لما امتلكه من حضور طاغ وطلة مختلفة مفعمة بالكاريزما عند أدائه أى شخصية تجعل اسمه مقترنًا بالأدوار المركبة الصعبة، التى قد يرفضها النجوم خوفًا أو ترفعًا، وظلت التسعينيات تطوى سنواتها ومحمود حميدة يزداد ألقًا وتزدهر حصيلته من الأدوار الخالدة التى تغفر له أى زلل أو تجارب غير ناجحة خلال الرحلة، لكننى هنا سأتوقف عند دور آخر لا تستطيع أن تقول عنه دور شر، لكنه أعجب ما يكون فهو دور «طبل» الجثة منزوعة الأسنان فى فيلم جنة الشياطين، أواخر التسعينيات وتحديدًا عام ١٩٩٩.

وتوالت الأدوار السينمائية المبهرة التى حولت محمود حميدة لما يعرف فى اللغة السينمائية «تقالة» العمل، أى عنصر القوة فيه مهما كان حجم الدور، وهو أمر لم ينظر إليه الرجل تمامًا فلا يهم حجم الدور، الأهم هو التأثير، حتى عندما صار يعرف قبل اسمه بالفنان القدير لم يفقد بوصلته الفنية المركبة.

ولا يصح هنا أن نغفل رسالة محمود حميدة التى حاول أن يوصلها بكل الطرق إلى معشوقته الأولى السينما الأمر الذى دفعه إلى تدشين شركة إنتاج ليست هادفة للربح قدر ما كان هدفه المساهمة فى التجارب الجادة السينمائية أو حتى التسجيلية، ناهيك عن تجربته المؤسسة الرائدة فى المجال الصحفى بإنشاء مجلة «الفن السابع»، التى عنى فيها الرجل إلى نشر الثقافة السينمائية المجردة، كل ذلك وهو مستمر فى ملء جعبته من الأدوار السينمائية أو حتى التليفزيون بعد عودته له بقوة فى السنوات الأخيرة.. لنصل أخيرًا إلى دوره الجميل الممتع الممتنع على غيره وهو دور «بابا ماجد».

اعتياد الإبداع ظلم «بابا ماجد»

من الأكلشيهات المعتادة والجمل المأثورة التى نسمعها دائمًا فى شكل تحذيرات دينية أو مجتمعية هى فكرة اعتياد النعمة، فرجال الدين يقولون إن اعتياد النعمة نقمة، لا تجعلنا ندرك مقدار بحر المنح الربانية التى نغرق فيها كل يوم.

ويبدو أن اعتيادنا على إجادة محمود حميدة أدواره المركبة وإمساكه بزمام أمور موهبته جعلنا لا نعطيه حقه فى دوره الأيقونى «بابا ماجد»، كما أن توهج الثنائى أحمد مالك وطه دسوقى قد ملأ الكادر وتوارى إبداع الأستاذ الكبير صاحب الطلة المبهرة، لكن حقيقة الأمر أن تألق «ولعة ومفتاح» كان هو الثمرة التى طرحت من شجرة وارفة الإبداع اسمها محمود حميدة.

«بابا ماجد» هو ذلك الشخص الذى وقعنا كلنا فى أسره مثلما وقع فيه عبيد.. ابنه قصير القامة الذى أحضره صغيرًا من السيرك لينظم إلى سجنه الجميل، الذى صنعه على عينه فى شكل بيت أيتام، مارس فيه الرجل كل آيات الشر المطلق من أول استغلال حاجة الأطفال حتى تعذيبهم، ومرورًا بقتلهم إذا لزم الأمر، كما فعل مع قطايف ومن بعده مفتاح، كل ذلك بمنتهى الهدوء والسكينة والنظرة الناعسة التى استطاع حميدة بمنتهى العبقرية أن يحملها دلالات الغدر والشر المطلق دون أن يضطر إلى نفخ عروقه أو رفع الصوت لمستوى «الزعيق» مع اتساع غير مبرر لحدقة العين، فقط عين ناعسة ونبرة صوت مطواعة هادئة تستطيع توصيل المشاعر بعذوبة وخفة منقطعة النظير.. بختم جودة إستثنائى اسمه «محمود حميدة».