أزمة الدراما.. الواقع والمتخيل

هل ثمة رسالة يحملها العمل الفنى، وما حدود العلاقة بين الواقع المحيط والمتخيل الدرامى، وهل من إمكانية للنهوض بصناعة الدراما، وتصويب مساراتها، ووضعها فى سياقات إبداعية تلامس جوهر الفن، وتضع يدها من قريب على اشتراطاته الجمالية، وروحه الحرة الوثابة.
من هنا إذن يمكننا أن نبدأ من فكرة الفن ذاته، بوصفه وجهًا أصيلًا من وجوه الحرية، ولذا تبدو العلاقة بين الفن والحرية علاقة جدلية بامتياز، وحتى فى أزمنة بعيدة كان الفن يتخفى من قبضة الرقابة عبر الرمز، أو إفساح مناطق التخييل الدرامى لمدى أبعد.
حين تتأمل أزمة الدراما بحق لدينا، ستجد أن إشكاليتها الحقيقية تبدأ من شيوع ما يسمى بالسرديات الجاهزة داخلها، وبما يفضى إلى ما يسمى «تنميط الدراما»، حيث اللجوء إلى خلطة جاهزة من العنف اللفظى والجسدى، وتسويق فكرة البطل الذى لا يقهر، ليس بدافع موضوعى حتى، ولكن بوصفه «الفتوة» و«الشجيع»، وليت ذلك يتم من منظور قيمى، فى أضعف الحالات الفنية، ولكن من زاوية «البلطجة»، والتفنن فى إظهار قوة عبثية، مرتكنة على حوارات ركيكة، بدعوى أنها ابنة الحياة اليومية، وأنها تستلهم الواقع، ويغيب عن هؤلاء جميعهم أن الفن ليس نقلًا مرآويًا للواقع، وليس انعكاسًا ميكانيكيًا أو آليًا له، وإنما هو استجابة جمالية لواقع متغير باستمرار، وشخصيات من لحم ودم، تتحرك وفق منطق جمالى خاص، هو منطق الدراما نفسها، وليس شرطًا بالمناسبة أن تكون النهايات دومًا سعيدة، ولا بد فيها من انتصار البطل، أيًا ما كان.
إن فكرة البطل نفسها فى الفن بشكل عام، تعرضت لتحولات متعددة، فالبطل الذى لا يقهر لم يعد له مكان فى الواقع، وإن وجد، فليس شرطًا أن نعممه باستمرار، والبطولة ذاتها ليست عملًا من أعمال البلطجة، ولا عنفًا سلوكيًا، ولا لغة حوارية مفخخة بالعنف اللفظى، ولو عدت إلى أعمال درامية عديدة شهدتها الدراما المصرية فى عهدها الذهبى، لأمكن لك مثلًا أن ترى الدكتور مفيد أبوالغار فى مسلسل «الراية البيضا»، لا يصنع انتصارًا بالضربة القاضية على ما يسمى بالبطل الضد «فضة المعداوى»، بل يأتى حاملًا الراية البيضاء فى مشهد درامى مؤثر نفسيًا، ودافع للتأمل على المستوى الذهنى، حيث تكتفى الدراما بوضع المشكلة أمام المشاهد، وتوريطه عاطفيًا فى المأساة التى يحملها العمل، هنا تلعب الدراما دورًا افتقدناه إلا قليلًا فى جعل المتلقى يقف على عتبات التفكير والمساءلة، وهو ما يتسق مع فكرة الفن ذاته، حين وصفه الكاتب المسرحى الشهير هنريك إبسن: إن علينا أن نطرح الأسئلة، وليس علينا أن نقدم الحلول والإجابات الجاهزة.
إن الفهم المغلوط لحقيقة الفن، وأعنى هنا جوهره، فحقيقة الفن هى قدرته على صناعة الخيال ورصد الواقع وتأمل مساراته بنعومة. ودقة، وانتخاب ما هو جوهرى ودال من وجهة نظر المبدع الحقيقى.
لقد بدت كلمات الرئيس السيسى عن الدراما دالة، ودقيقة، حين صرح فى حفل إفطار القوات المسلحة قائلًا: «إياكم أن ترعوا الغث فقط، والهزل فقط، والكلام الذى لا يبنى أمة فقط». وقد دعا الرئيس أيضًا إلى تقديم أعمال إيجابية وجدية، وأكد ضرورة تنشئة الأجيال على القيم والأخلاق المصرية الأصيلة.
إن تأكيد الرئيس على حتمية عدم رعاية الغث، والساقط من الأشياء يعد أمرًا حيويًا فى هذا السياق، فالدراما كانت ولا تزال أداة حيوية فى صناعة العقل العام من جهة، وصياغة الوجدان الجمعى للأمة المصرية من جهة ثانية، وعلينا جميعًا، كتابًا، ومفكرين، ونقادًا وخبراء، وأكاديميين أن نعزز مما أسميه انتصار المعنى، وأن تصبح الدراما متعة جمالية وفكرية فى الآن نفسه.
وفى تأكيد جديد من الرئيس السيسى، فى لقاء المرأة المصرية والأم المثالية، ذكر أيضًا أن الدراما المصرية «كانت صناعة وأصبحت تجارة، والدولة المصرية كانت تسهم فى هذا القطاع من خلال إنتاج مبنى على رؤية من متخصصين فى الإعلام وعلم النفس وعلم الاجتماع»، وهذه العبارات تشير بوضوح إلى ضرورة انفتاح الدراما على الواقع، واعية بمشكلاته، وطموحه، وتطلعاته صوب المستقبل، ما يعزز من قيمة الدراما بوصفها تعبيرًا جماليًا يتجه لقطاعات ممتدة من الجماهير، ومن ثم فهى تحمل أبعادًا تنويرية بامتياز، وتتجه لصياغة الإنسان الفرد الواثق فى نفسه، والمنتمى إلى واقعه، والساعى صوب غدٍ أكثر جمالًا، وإنسانية.
وتتواتر الأفكار المغلوطة عن الدراما أيضًا، بتجاهل بعض صناع الدراما مركزية أن تلعب الدراما دورًا تنويريًا فى معركة الوعى، وأن تمارس دورها فى تفكيك الواقع، وتأمله، ومن ثم مساءلته. فالدراما تلعب على تلك المسافات الحرة بين الواقع و الخيال، وهى فى مداها التوثيقى تتخذ خطوة أبعد مدى حين تنعش الذاكرة الوطنية، وتعاين عالما سكنته الاستقطابات الحادة، والشائعات المتناثرة، ومن الشواهد الناجحة على هذا المسار مسلسلات من قبيل «الاختيار»، بأجزائه الثلاثة، و«العائدون»، حيث بدت الدراما فى متن المعركة، وفى قلبها الحى، تكشف الزيف، وتعرى انتهاك الوطن تحت لافتات ادعاء القداسة، واستثمار المقدس لمصلحة الجماعات المتطرفة بأطيافها المختلفة من الإخوان فى «الاختيار»، إلى داعش فى «العائدون».
تجد الدراما التى ترصد الواقع تحديًا هائلًا أمامها، يبدأ من التقاط الجوهرى فى هذا الواقع، واختيار لحظات فارقة فى عمر أبطالها، وقد تلجأ الدراما إلى التخييل بوصفه بيئة خصبة للدلالة، على غرار ما رأيناه فى مسلسل «جزيرة غمام»، من قبل، والرسالة السرمدية التى حملها، حيث الحب أصل الأشياء، وجوهرها الذى لا يخبو ولا يموت.
إن نظرة معمقة للدراما فى هذا العام، يتلوها تصفح لمواقع التواصل الاجتماعى، يخبرك على الفور بحجم الصخب الذى شهدته دراما رمضان، والمتأمل للمسارات الراهنة يجد أن بعضًا من الأعمال الدرامية قد وقعت فى فخاخ البطل الذى لا يقهر، ومشاهد العنف اللفظى والسلوكى، وابتذال الإفيهات، وتحويل الحوارات إلى ثرثرات فارغة، وإن كان هذا لا ينفى وجود مسلسلات على درجة من الإتقان والحرفية من قبيل «قلبى ومفتاحه»، و«قهوة المحطة»، و«ولاد الشمس»، و«النص»، و«أشغال شاقة جدًا»، وغيرها.
وهى تتنوع ما بين الرومانسى، والبوليسى، المحتفظ بطابع التشويق الدرامى، والتراجيدى، والكوميدى، مع تداخل بين هذه الخطوط فى بعضها.
ويمكن أن نشير أيضًا إلى مسلسل «لام شمسية» الذى يعالج قضية خطيرة، ويقتحم المسكوت عنه ببراعة، وكذلك مسلسل «الغاوى»، الذى يعيد الاعتبار لشخصية «ابن البلد الشهم»، بعيدًا عن الصورة النمطية الجاهزة التى رأيناها فى أعمال درامية أخرى، تم الترويج لها ليلًا ونهارًا، وقد عاقبها المشاهد نفسه الذى يعد فى أحيان كثيرة طاقة إنسانية جبارة قادرة على الفرز.
إن الدراما جزء أصيل من القوة الناعمة المصرية، وصناعة الدراما تبدأ من الورق، من كتابة رائقة، فنية الطابع، تعتمد على الإقناع والإمتاع، ومن انتخاب جمالى لما يطرح، يعتمد على الجدارة الإبداعية الخالصة، والتنوع الخلاق، وهذا يحققه كتاب سيناريو محترفون بحق، ولدينا كتاب عديدون صنعوا ذلك بمهارة، واستعمال تكنيكات إخراجية أكثر حداثة، وإعداد جيد للممثل، واستثمار للعالم الرقمى الجديد، فى توزيع الأعمال الدرامية.
وبعد.. الدراما حياة إبداعية موازية، يجب أن ننميها، ونطور من أداءاتها باستمرار، ولا نركن إلى تاريخنا العظيم فيها، وإنما يجب أن نظل فى حال من العمل المتجدد المستمر، والمساءلة المنهجية، والاقتراحات العملية اللازمة لصناعة مركزية فى معركة الوعى المصرى، وصناعة المتعة والجمال بالأساس.