زكى نجيب محمود يجيب: لماذا نحن متخلفون؟ 4.. «مصريون مسلمون» لا «مسلمين مصريين»

قبل أسبوعين من الآن، وفى هذه المساحة، بدأت فى قراءة جديدة لكتاب «رؤية إسلامية» لفيلسوف مصر العظيم الدكتور زكى نجيب محمود.
كان السؤال الكبير فى هذه القراءة «لماذا نحن متخلفون؟»، وقد تكفل الدكتور زكى بإجابة وافية فى كتابه القيّم، وصُلب هذه الإجابة كان «التطرف».

بالطبع ليس التطرف السبب الوحيد لتخلفنا، نحن العرب والمسلمين، لكنه يظل سببًا رئيسيًا، ومعه البعد عن العلم أو التفكير العلمى بمعنى أدق.
لم يحسم المصريون إلى الآن سؤال الانتماء.. هل نحن مصريون أولًا؟.. أم مسلمون قبل أن نكون مصريين؟.. ثم ما هو موقع «الانتماء العربى» من الترتيب؟
وكان «سؤال الانتماء»، ولا يزال، موضع جدل فى المجتمع.
هذا الجدل دخل إليه الدكتور زكى نجيب محمودـ الذى احتفينا، هنا فى «حرف»، على مدار شهر، وانتهى إلى رؤية شديدة الأهمية فى مسألة «ترتيب الأولوية فى الانتماء».

يضع فيلسوفنا زاوتين للنظر فى الموضوع، الأولى «من خارج الذات»، و«الأخرى» هى أن ننظر إليه من داخل الذات، أما النظرة الأولى فتقدم إلينا ترتيبًا يقرره واقع الحياة الاجتماعية بكل ما تتضمنه تلك الحياة من دستور وقوانين، ونظم مختلفة، ويُضاف إليها بعض التقاليد التى ارتضاها المجتمع فى تنظيمه للعلاقات بين أفراده، وأما إذا نظر الفرد إلى الموضوع من ناحية ما يحسه هو فى دخيلة نفسه، ماذا يحب وماذا يكره، فقد يجىء الترتيب عندئذٍ بعيد الاختلافات عن الترتيب الذى ينتج عن ضرورات الواقع الخارجى.
من هنا فإن الدستور والقوانين، والنظم، والتقاليد، تفرض على المواطن- أحب هو ذلك أو كره- كثيرًا جدًا من الواجبات التى لا اختيار له فى القيام بها، كما أنها كذلك تقرر له كثيرًا جدًا من الحقوق، التى لا اختيار للآخرين فى إقرارها له، وهى تفرض عليه تلك الواجبات، وتقرر له هذه الحقوق، دون أن يكون لنوع عقيدته الدينية دخل فى الأمر، وإذن فمصرية المصرى هى الأساس، إذا كانت زاوية النظر مرتكزة على العوامل الاجتماعية التى ذكرناها.
ولكن هل يمنع ذلك أن نجد مصريًا يُعبر لنا عن شعوره الحقيقى الداخلى، فإذا به قد ضاق بمصريته تلك، وأخذ يفكر فعلًا فى هجرة عسى أن تنتهى به إلى التخلص من جنسيته واكتساب جنسية أخرى؟ فمثل هذا الإنسان، لو طلبنا منه أن يُرتب صفات هويته كما يشعر هو لا كما هو مفروض عليه من خارج ذاته، لما وضع مصريته فى أولى الدرجات.
إنهما زاويتان للنظر، لا زاوية واحدة، قد يتسع البعد بين الحكم بإحداهما عن الحكم بالأخرى، فتختلف صورة «الانتماء» عند المنتمى فى وقوعه بين الحالتين، على أن المثل الأعلى للمجتمع السوى هو أن نجد ما يشعر به المواطنون من داخل ذواتهم، فى ترتيبهم لدرجات انتمائهم متطابقًا مع ما تتطلبه منهم الدساتير والقوانين والنظم والتقاليد، فإذا ما تحققت لنا تلك الحالة المثلى، جاءت مصرية المصرى صفة أولى عن حبٍ ورضا وطواعية.
وبمقدار ما تضيق الزاوية أو تتسع بين أولويات الانتماء فى نفوس المواطنين، من جهة، وبين تلك الأولويات فى حساب المجتمع متمثلًا فى الدولة، من جهة أخرى، يمكننا قياس الاستقامة أو العوج فى ظروف الحياة القائمة، وما ينبغى عمله من إصلاح فى النظم الاقتصادية والتعليمية، والقضائية وغيرها.. فليست المسألة متوقفة على وعظٍ نُلقيه على الناس عبر قنوات الإعلام، قائلين لهم بالكتب والنشرات والخُطب والمقالات والأغانى والمسلسلات: إن انتماء المصرى لمصر واجب، نعم: هو أوجب الواجبات، كما يعلم ذلك كل مصرى علم بالفطرة ذاتها، إن لم يكن بحكم ما اكتسبه المصرى من تعلُّق طبيعى شديد بأرض الوطن، لكن ذلك كله تتغير موازينه فى قلوب الناس، وتأخذ المقومات الأخرى فى مزاحمة الروح الوطنية على الأولوية والصدارة، كما حدث بالفعل بالنسبة إلى مئات الألوف من مواطنينا، من هاجر ومن لم يهاجر.

الوضع الطبيعى فى البناء الاجتماعى السليم، هو أن تجىء مشاركة المواطنين فى وطنهم، بالواجبات وبالحقوق، أسبق من مشاركتهم أو عدم مشاركتهم فى الدين.
والمسألة هنا ليست تفاوتًا فى درجات «الأهمية»؛ فالعقيدة الدينية أيًا كانت، هى عند صاحبها فى قرة عينه وصميم قلبه، تلازمه أينما كان، أما إذا وجهنا أنظارنا، لا من داخل المؤمن بدينه وما يشعر به- بل من جهة البناء الخارجى الذى يسكن فيه ذلك المؤمن مع ملايين من مواطنيه، فالحكم فى ترتيب الأولويات يختلف، وربما اتضح الأمر إذا شبهنا حياة المواطنين معًا فى وطن واحد، بركاب سفينة تسافر بهم فى وسط المحيط، فبأى منظار ينظر قائد السفينة إلى سلوك الركاب من حيث المفاضلة بين شىء وشىء، أو من حيث خطأ السلوك وصوابه؟
إنه ينظر بمنظار سلامة السفينة بركابها، وأما العقيدة التى يؤمن بها كل راكب على حدة، فمتروكة لصاحبها، وهذا هو المعنى الذى عبرنا عنه فى ثورة ١٩١٩ بعبارة شاعت حتى استقرت فى الصدور، وهى عبارة تقول: الدين لله، والوطن للجميع.
وأسبقية الولاء الوطنى على الشعور الدينى أمر لا جديد فيه، فوقائع التاريخ تُقدِّم إلينا ما شئنا من أمثلة، وأبدأ بمثلين من التاريخ الإسلامى، حين لم يكن مضى أكثر من قرن واحد بعد ظهور الإسلام، وأحد المثلين مأخوذ من الحياة السياسية، والآخر مأخوذ من الحياة العلمية، أما أول المثلين فهو عن المشكلة التى ثارت فى القرن الثانى الهجرى، وأطلق عليها اسم «الشعوبية»، وهى تعنى أن كلًا من الشعبين العربى والفارسى، برغم أنهما كانا يعيشان معًا تحت مظلة الإسلام، قد أخذ يفاخر الآخر بمزايا قومه على القوم الآخرين، ولم تقف تلك المفاخرة عند التشدق بكلمات الزهو، بل جاوزت ذلك لتصبح تدبيرًا وتخطيطًا للوقيعة بالخصوم، وإننا لنعرف كيف استثمر العباسيون هذا العداء القومى بين الفرس والعرب فى الأمة الإسلامية الواحدة، بأن ناصروا الفرس سرًا ليستعينوا بهم فى هدم دولة الأمويين، لتقوم بعدها دولة العباسيين، حتى إذا ما انتصر العباسيون فى خطتهم، ومكنوا للفرس جزاء ما عاونوهم به، جاءتهم الفرصة المناسبة ليُعيدوا تعادل الميزان.
وأما المثل الثانى الذى نأخذه من الحياة العلمية، فهو أن علماء اللغة، حين انكبوا على دراسة اللغة العربية دراسة مستفيضة وعميقة، باعتبارها الخطوة الضرورية الأولى لفهم القرآن الكريم فهمًا مؤسسًا وموثقًا، رأينا هؤلاء العلماء وقد انقسموا مدرستين مختلفتين فى وجهة النظر: إحداهما كانت فى البصرة، ومن أبرز أعضائها سيبويه الفارسى الأصل، وأما الثانية فكانت فى الكوفة، وكان رجالها عربًا خُلصًا، فعلى الرغم من أن موضوع الدراسة علمى بحت، إلا أن الروح القومية تسللت إلى عملهم، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وكان مدار الخلاف بين الجماعتين، هو ماذا يكون مرجعنا فى تمييز ما يجوز وما لا يجوز فى اللغة واستعمالها استعمالًا صحيحًا؟
أما علماء الكوفة فلم يترددوا فى أن يكون المرجع فى الحكم هو ما قاله العرب الأقدمون وما لم يقولوه، فاللغة لغتهم، وعنهم يأخذ الخلف، فما استعملوه يُعَد صحيحًا، وما لم يستعملوه لا يجوز لمن جاء بعدهم أن يجيزوا استعماله لأنفسهم، لكن علماء البصرة كانت لهم نظرة أخرى، وهى أن نترك للعقل المحض أن يشتق من الأصل اللغوى ما «يمكن» اشتقاقه من مفردات، وما دامت هى مشتقة وفق القاعدة فهى صحيحة حتى ولو لم نجدها مستعملة عند الأقدمين فيما تركوه من شعرٍ ونثر، لا، بل إنه ليجوز لعلماء الخلف أن يصفوا بالخطأ ما قد استعمله أحد الأقدمين، إذا كان قد جاوز فيه القاعدة العقلية فى استدلال الفروع من الأصول، فإلى هذا الحد يبلغ أثر الروح الوطنية حتى ليظهر ذلك الأثر فى مجال العلم، وليس بخاف على أحد أن علماء اللغة فى البصرة وفى الكوفة جميعًا كانوا يدينون بالإسلام، بل كان دافعهم الأول إلى البحث فى اللغة هو خدمة الكتاب الكريم، لكن تلك المشاركة فى الدين لم تمنع أن يتأثر كل فريق بما يعلى من شأن قومه، فعرب الكوفة يعلون من شأن الأصول العربية، والمُتأثرون بالفرس بالبصرة، يلجأون إلى منطق العقل، ليكون المعنى الضمنى فى ذلك ألا فضل للعربى على سواه حتى فى موضوع اللغة العربية ذاتها.
ثم إذا نظرنا إلى العالم الإسلامى فى يومنا هذا تجد روح الأخوة والمساندة قائمة بين شعب مسلم وشعب مسلم آخر، لكن الشعبين لا يتردَّدان فى أن يخوضا أهوال الحرب، أحدهما ضد الآخر، إذا اقتضت سلامة أوطانه أن تنشب الحرب، فإيران والعراق شعبان مسلمان، والمغرب وأهل الصحراء الغربية شعبان مسلمان، وباكستان وبنجلاديش شعبان مسلمان، لكن حدث فى تلك الحالات كلها ما ظنه أبناء الشعبين المتخاصمين خطرًا على سلامة الوطن، فأصبحت الأولوية أمرًا مقطوعًا به بين الانتماء للوطن والانتماء للدين المشترك.
على أن أولوية المشاركة فى الوطن على المشاركة فى الدين، وهى أولوية تكون خافية فى وقت المصالحة، ثم تظهر إذا ظهرت دواعى المخاصمة، غالبًا ما تكون الدعامة التى تستند إليها، هى قوة الدولة التى من شأنها أن تصون للوطن الواحد وحدته، أما إذا انهارت أركان الدولة فى وطن ما، أو ضعفت ضعفًا يدنو من الانهيار، فالأغلب هنا أن تطفو الانقسامات الدينية، ما دام السقف القومى الذى كان يظللها ويحميها قد زال فتعرت رءوسها.
إنه فى الحالة السوية للبناء الاجتماعى، يكون هنالك- مبثوثًا فى صلب الحياة نفسها- عدة انتماءات للفرد الواحد، منها انتماؤه لمصريته، ومنها- فى الوقت نفسه- انتماؤه لعقيدته الدينية، وعندئذٍ لا تظهر فكرة الأولويات بين تلك الانتماءات لأنه لا يكون ثمة داع لظهورها، لكن ذلك البناء الاجتماعى نفسه قد يصيبه خلل ما، ما يستدعى أن تنشأ المشكلة بأى الولاءين يبدأ المواطن، إذا ما جاء الموقف الذى يضطره إلى اختيار.
وهنا يقول الدكتور زكى نجيب محمود: إن الأولوية يجب أن تكون للانتماء القومى، إذ إن تلك الأولوية فى الحياة الاجتماعية التى هى شركة بين المواطنين جميعًا، لا تنفى وجود ترتيب آخر يكنه الفرد الواحد فى نفسه، فزاويتا النظر، من الخارج ومن الداخل، قد تتباعدان فى الفترات الشاذة، والمثل الأعلى هو أن تجىء الحياة الاجتماعية على صورة لا تثير الفارق فى حساب الأولويات بين باطن وظاهر!