مصر قدس الأقداس
محاكمة متأخرة لـ«مظفر النواب».. كيف خدعنا «شاعر الغضب العربى»؟

- أكثر من استفاد من قصائد مظفر النواب وأحمد مطر هم قادة ومحركو الجماعات الإسلامية الراديكالية
- قامت الدولة العثمانية بتسهيل الاستيلاء على أراضٍ فلسطينية داخل وخارج القدس
- القاهرة هى عروس مصريتنا- نحن المصريين- وعروس إسلامنا ومسيحيتنا
- الخطاب الشعرى الزاعق كان سببًا مباشرًا فى تمكين زناة الأرض من القدس وما تبقى من أرض فلسطين
منذ سنواتٍ كتب الشاعر العراقى مظفر النواب قصيدته الأشهر «القدس عروس عروبتكم».. وفيها سبّ كل حكام العرب بالأم واتهمهم بأنهم مَن أدخلوا كل زُناة الليل إلى غرفة نوم القدس وأنهم يستكثرون صراخها وهى تُغتصب! مظفر النواب الشاعر العراقى الثورى ألقى قصيدته تلك فى محافل ومناسبات عدة، وفى إحداها كان أحد أهم رجال حافظ الأسد حاضرًا حين أشار مظفر إليه وهو يلقى بالشطرات الأقسى من قصيدته.. «لستُ خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم.. إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم.. تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم.. لا تهتز لكم قصبة.. الآن أعريكم فى كل عواصم هذا الوطن..».
إلى أن يصل إلى ذروة سُبابه قائلًا: «القدسُ عروس عروبتكم.. فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟؟.. ووقفتم تستمعون وراء الباب.. لصرخات بكارتها.. وسحبتم كل خناجركم..وتنافختم شرفًا.. وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعِرض.. فما أشرفكم.. أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟!».
وعلى درب «النواب» سار شعراءٌ آخرون من أشهرهم العراقى أحمد مطر ولافتاته الشهيرة التى تميزت بطابعها الساخر، ولم تخلُ قطعًا من السباب الزاعق! وقطعًا لا ننسى أشعار نزار قبانى وغيرهم ممن ساروا فى طريقٍ واحد وجهوا خلاله أشعارَهم واتهاماتهم وسبابهم للحكام العرب فى العقود من الستينيات وحتى أعوامٍ قليلة مضت. واشتدت وتيرة السباب بعد نصر أكتوبر وتوقيع اتفاقيات السلام. لقد خلقت أشعارُ هؤلاء حالة أو قناعة- بمسئولية وتواطؤ حكام العرب- أقرب لأن تكون مسلمة تاريخية تجرعتها الشعوب العربية خاصة الأجيال التى لا تقرأ التاريخ وتخاصم أدوات البحث المعلوماتى العلمى فيما تخوض فيه. كانت هذه الأشعار أقرب لأن تكون علاجًا نفسيًا يريح ضمائر الجميع- بمن فيهم الخونة الحقيقيون- بعد أن يسبوا الحكام ويعلقوا فى رقابهم دم القدس ودم فلسطين!

أكثر من استفادوا من هذه الفكرة أو الحالة وتاجروا بها، وحققت لهم بالمجان كثيرًا من أهدافهم، هم قادة ومحركو الجماعات الإسلامية الراديكالية. فما حققته لهؤلاء قصائدٌ لشاعرٍ مثل مظفر النواب أو أحمد مطر وغيرهم- من غير المحسوبين على هذه التيارات- لم يكن يقدر بثمن، وكفى تلك الجماعات كثيرًا من الجهد الإعلامى الدعائى، وما كان يمكنه أن يكلف ذلك الجهدُ من أموال.
كانت هذه القصائدُ أشبه بعمليات التخدير التى تسبق الجراحات الكبرى. حيث خدرت هذه القصائدُ وما خلقته من المشاعرِ الخلايا العقلية للشعوب العربية، وجهزت تلك الشعوب دون قصدٍ للجراحة الكبرى بالاقتناع التام بعدالة ومنطقية وصواب خطاب التيارات الراديكالية، والقبول بالتجييش تحت رايات هذه الجماعات الإسلامية الثائرة لهدم الدول بزعم إسقاط الأنظمة، فكل حكام الدول العربية- حسب ذلك الخطاب الشعرى التعبوى- خونة وعملاء أو ضعفاء منبطحين فى مواجهة العدو المشترك! .
ولكى ندرك أهمية ما قدمه الشعر العربى من فئة شعر مظفر النواب لأساطين هذا الفكر، يكفى أن نعرف أن أحد أهم وأشهر خطباء جماعة الإخوان المفوهين فى مصر- سنوات حكم مبارك- د. محمد عباس قد كتب كتابًا ضخمًا استفاد بشكلٍ مباشر واستخدم فى عنوانه عنوانَ هذه القصيدة الأشهر لمظفر النواب.. ولقد حصل الكتابُ وقت صدوره على شهرة واحتفاء كبيرين وكان يحمل عنوان «بغداد عروس عروبتكم!»
وقد كتبه كجزء من الخطط الإعلامية لجماعة الإخوان لتثوير الشعوب العربية ضد حكامها بعد أحداث غزو العراق للكويت، وما ترتب على هذا الغزو من أحداث درامية انتهت بتدمير جيش العراق واحتلال العراق نفسه!
ولمن لا يعرف من هو محمد عباس من شباب مصر، أقول إنه كان أحد أهم مسوقى فكر الجماعة فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات. ولقد ابتعدوا به عن المشاركة المباشرة فى أنشطة الجماعة، واستفادوا من بلاغته استفادة كبرى كأستاذ جامعى أنيق لا ينتمى تنظيميًا بشكلٍ مباشر معلن للجماعة. وكان مقاله الأسبوعى بجريدة «الشعب» على صفحتها الأخيرة من المقالات التى كان ينتظرها كثيرون وساهم فى انتشار الجريدة حتى بين غير المنتمين للجماعة.
وكما كان لمحمد عباس الفضل فى هذا الانتشار، فقد كان أيضًا السبب المباشر فى إيقاف إصدار الجريدة تمامًا بعد آخر مقالاته بها بعنوان «من يبايعنى على الموت؟!»، كتب مقاله هذا فى إطار خطة الجماعة لإثارة طلاب الجامعات ضد إصدار وزارة الثقافة المصرية رواية «وليمة لأعشاب البحر». وبعد مقاله ثار طلاب جامعة الأزهر وأثاروا الشغب والفوضى، وتصدت لهم قوات الأمن، وسقط بعض الطلاب مصابين، وهو ما كانت تخطط له الجماعة للاستفادة من مشهد الاشتباكات بين الطلاب وبين قوات الأمن وتسويقها خارجيًا على أنها ممارسات قمعية لطلاب الجامعات المصرية! .

بعدها تم وقف ترخيص جريدة الشعب، وتم توزيع محرريها وصحفييها- وهم من جماعة الإخوان- على باقى الصحف المصرية، وربما يفسر ذلك توجهات بعض هؤلاء رغم عملهم فى مؤسسات صحفية لا تنتمى للجماعة.
كتاب محمد عباس «بغداد عروس عروبتكم» هو نسخة مكبرة من فكرة مظفر النواب، وفيه قطعًا يوجه عباس اتهاماته- ببلاغة لغوية وقدرة على دغدغة مشاعر العامة لا يمكن إنكارهما- لحكومات الدول العربية بالتسبب فى ضياع بغداد، وقطعًا حصلت مصر على النصيب الأكبر من هذه الاتهامات والسباب، وهو نفس ما وجهه مظفر النواب فى قصيدته فيما يخص ضياع القدس!
من مؤلفات عباس الأخرى كتاب «مباحث أمن الوطن».. وهو رواية فقيرة المستوى الأدبى، لكنه اعتمد فيها على فكرة سياسية روجتها بعض الصحف اليسارية، وثبت كذبها فيما بعد، وهى عن التعذيب داخل معتقلات النظام المصرى.. وكتاب «إعلانات مبوبة»، وهو كتاب ساخر عبارة عن تخيلاته لإعلانات تقوم بها حكومة مصر لبيع مصر، أى أنها تعرض خدماتها لخدمة من يدفع أكثر!
هكذا كانت لقصيدة مظفر النواب هذا الأثر الكبير فى صياغة مشاعر قطاعات كبرى من الشعوب العربية- ومنها قطاعات من الشعب المصرى- تجاه حكومات الدول العربية، واستقرار هذه المشاعر على ما يشبه اليقين بتواطؤ حكام العرب فى قضية فلسطين. وهذا ما كانت تحلم به جماعات الإسلام السياسى، أن تقدم نفسها فى عقول العامة بديلًا لهؤلاء الحكام الخونة المتواطئين!.

بعد هذه السنوات، والأحداث التى قرأنا عنها أو عايشناها، يمكن أن نرد على هذا السيل من القصائد الشعرية التى وجهت مشاعر الشعوب العربية، وصاغت مواقفها على الأقل فيما يقرب من نصف قرن. لقد رحل عن عالمنا الشاعر الكبير مظفر النواب منذ سنواتٍ قليلة، لكن ما تركه خلفه مع إرث الشعراء الآخرين لا يزال باقيًا عند بعض المخدوعين.
ولنبدأ بعروس عروبتهم أو القدس. هل كان مظفر النواب محقًا فى توجيه سبابه لحكام الدول العربية؟ لن أستعير سبابه وأقول من هم أحق- فى هذه القضية- بأن ننعتهم كما نعت هو الحكام العرب بأنهم أولاد الـ....
لكننى سأصوغ السؤال ببعض ألفاظه الأخرى.. من هؤلاء الذين أدخلوا- بحقائق التاريخ- كل زناة الأرض إلى حجرتها؟
حين نحرر مشاعرنا وضمائرنا مما علق بها جراء هذا التأثر بقصائد الشعراء، ونفتش فى صفحات التاريخ عن الحقائق الرابضة فى محرراتٍ رسمية مقدسية، حين نفعل ذلك نصل للحقائق المجردة.
كانت سنجقية القدس تقع بشكل مباشر تحت ولاية وزير داخلية الدولة العثمانية على الأقل منذ نهايات القرن التاسع عشر. لم يكن لأى دولة عربية أى ولاية ولا قرار ولا سلطة لا على القدس ولا على باقى مديريات ما يسمى بأرض فلسطين. قامت الدولة العثمانية بتسهيل الاستيلاء على أراضٍ فلسطينية داخل وخارج القدس. كان بالقدس بالفعل سكان يهود بجوار السكان العرب المسلمين والمسيحيين. باعت الدولة العثمانية قرى كاملة فى مزادات علنية بعد أن استولت عليها من الفلاحين وقام بالشراء يهود. وقامت عائلات عربية من فلسطين ولبنان وسوريا ببيع أراضٍ أخرى ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. واحتفظت وثائق فلسطينية بحصر وتسجيل هذه الأراضى. سهلت دولة الخلافة الهجرة اليهودية، وفضحت الصحافةُ المصرية والعربية ذلك الدور منذ بدايات القرن العشرين.
فى عدة عقود فى ذلك التوقيت، وقبل حرب ٤٨ بسنوات طويلة، وبرعاية عثمانية كاملة وموافقة ومشاركة أسر إقطاعية عربية، تغير الواقع الديموجرافى تمامًا. قفزت الأعداد من ٤٦٦ ألف عربى، منهم ٣٤٠ ألفًا فى القدس و٢٥ ألف يهودى يقطنون فى أربع مدن، هى: القدس وطبريا والصفد والخليل، وذلك فى عام ١٨٨٣م- إلى عدد سكان يبلغ مليونًا و٧٠٠ ألف، منهم ٥٢٨ ألف يهودى فى بدايات الأربعينيات وقبل الحرب! أى أن نسبة اليهود قد ارتفعت من أقل من ٥٪ عام ١٨٨٣م- وهم سكان أصليون مثلهم مثل المسلمين والمسيحيين- إلى الثلث، أى أكثر من ٣٠٪ من سكان فلسطين قبل المواجهة العربية العسكرية.

فالذى أدخل زناة الأرض إلى غرف نومها لم يكن الحكام العرب، بل كانوا حكام الخلافة العثمانية وأسرًا فلسطينية وعربية شامية لبنانية وسورية! .
استجاب حكام العرب لنداء إنقاذ فلسطين وإنقاذ عروس عروبتهم بعد أن كانت بالفعل قد أوشكت على الضياع، وبعد أن سلم ثغورَها وغرفَ نوم سكانها حكامُها المسلمون وبعضُ هؤلاء السكان. خسر العربُ الحرب وكانت خسارة منطقية لجيوش دولٍ غالبُها يقبع تحت الاحتلال الفعلى رغم الاستقلال الاسمى، وجيوش مفككة غير وطنية وغير مستقلة وخارج التاريخ العسكرى الحديث وقت خوض المواجهة!
لم تواجه جيوشُ العرب كما يعتقد البعض عصاباتٍ غير منظمة، بل واجهت جيشًا أكثر تقدمًا، ويبلغ قوامه ضعفى جيوش العرب مجتمعة. بلغ تعداد جيوش العرب حوالى عشرين ألفًا مقابل حوالى ستين ألفًا، غالبيتُهم قد حصلوا على خبراتٍ عسكرية متقدمة سابقة خلال الحرب العالمية الثانية. وكانت ما يطلق عليها العربُ عصابات اليهود عبارة عن جيشٍ عصرى مُسَاندٍ من بريطانيا عسكريًا وتسليحيًا وسياسيًا. ورغم ذلك فقد كان ممكنًا الخروج من الحرب بمكتسباتٍ لو كان العرب قبلوا وقتها رسميًا قرار التقسيم، الذى لم يكن سوى إقرارٍ لأمر واقع قد تم وانتهى بالفعل قبل بدء الحرب، وكان قرار التقسيم وقتها لا يشمل الاستيلاء على القدس!
الخطاب الشعرى الزاعق كان سببًا مباشرًا فى تمكين زناة الأرض من القدس وما تبقى من أرض فلسطين! هذه هى الحقيقة الغائبة. لقد ارتفع هذا الخطاب بسقف طموحات الشعوب العربية إلى ما يفوق قدراتهم، ويتجاوز حقائق الأرض والتاريخ. أصر هذا الخطاب على مبدأ «كل فلسطين التاريخية- كما هى فى مخيلاتهم- أو فالكل خائنٌ والكل متواطئ!» لقد دفع هذا الخطاب قادة سياسيين إلى ارتكاب أخطاء سياسية وعسكرية تقرب إلى الحماقة انتهت بمشهد الخامس من يونيو. وما بين نتائج حرب ٤٨ ونكسة يونيو كانت سنوات حاسمة. حمل عبء المواجهة ثوار فلسطينيون وقادة مقاومة وطنية، ودولة عربية واحدة هى مصر قامت بالدور الرئيسى الأول والأهم من خارج فلسطين. خاضت مصر جولات حرب ومواجهة أغفلها التاريخ مثلما قامت به كتيبة مصطفى حافظ. تحملت مصر عبء المواجهة ودفع الثمن. ولما تعرضت مصر للنكسة تنكر لها أصحابُ الخطاب الشعرى، وكل ما قاموا به هو تبنى خطاب انهزامى. لم تحفل أشعارهم بقصائد ثقة فى قوتها وقدرتها على الوقوف من كبوتها، أو حتى قصائد تشحذ همم مصر وشعبها!.
بعضهم كان يترنح سكرًا، ثم ينعى العرب بقصيدة عصماء قبل أن يغط فى نوم عميق! تركوا مصر تواجه مصيرها، وحملوها عبء قضية فلسطين التى ضاعت- بالفعل والتاريخ وحقائق الواقع- حتى قبل عام ٤٨م! والغريب والمثير للدهشة أن هؤلاء الشعراء وما قاموا بنشره بين الشعوب العربية لم يقترب بالإدانة تلويحًا أو تصريحًا من المدانين الحقيقيين، أولئك الذين كانت فلسطين فى ولايتهم القانونية والفعلية ثم باعوها وقبضوا الثمن وحجبوا الحقائق ثم تصدروا مشاهد المتاجرين بالقضية!

لم أقرأ قصائد شعرية تسب الخلافة العثمانية التى باعت فلسطين لأغنياء اليهود، ولم أقرأ شعرًا عربيًا ثوريًا يهجو ويسب أرباب عائلات الإقطاع بأمهاتهم وهم الذين باعوا قرى كاملة فى مزادات علينة!
اقتطعت مصر من أقوات شعبها ما جهزت به جيشها ونفسها لاسترداد أرضها. فلما فعلت ذلك وقدمت لأهل القضية بدماء أبنائها فرصة تاريخية لاستدراك ما فاتهم، وقف أمثال مظفر النواب- ومعه من نصبوا أنفسهم مالكى الحق الحصرى لتوكيل القضية الفلسطينية- من مصر موقفًا مشينًا. سبّوها وسبّوا قيادتها وشعبها، واتهموها بالخيانة والتفريط فى عروس عروبتهم!
اتهموا الدولة- التى صنعت المقاومة المنظمة فى عاصمتها، والتى قدمت عشرات الآلاف من أرواح أبنائها فى مواجهة كان من المفترض أن تكون مواجهة عربية- بالخيانة.
رأوا فيما قدمته مصر- فى مشاهد مفاوضات السلام- فرصة للرقص شعرًا على جثث شهدائها. هجوها شعرًا ونثرًا وسياسة ودبلوماسية، ثم اتبعهم الغاوون فقاطعوها، وجرحوا كرامتها باستغلال محنتها الاقتصادية الناجمة عن استنزاف مواردها فى أربع مواجهات عسكرية فى أقل من أربعة عقود من أجل عروس عروبتهم!
أضاعوا فرصة كبرى لإعادة كتابة تاريخ فلسطين بشكل جديد يمحو مشاهد الهزيمة السابقة ويحفظ لمن بقى من أهلها صامدًا حقهم وأملهم فى وطن، ولم ينسوا وهم يهدرون هذه الفرصة أن يقرضوا الشعر هجاءً لمن منحتهم إياها بدماء أبنائها! حقًا ما أشرفكم!
موقفهم هذا أعطى القيادات المصرية درسًا كبيرًا ومهمًا، ملخصه..
أنّ مصر- ومصر فقط منفردة دون غيرها- هى قدس أقداسنا الأقدس..
وأنّ القاهرة هى عروس مصريتنا- نحن المصريين- وعروس إسلامنا ومسيحيتنا.
حسنًا فعلوا بمواقفهم، حيث منحوا لمصر فرصة لإعادة أو لتصويب بوصلتها والالتفات لهذا الشعب المصرى الصابر الذى دفع أثمانًا لمواقف ومواجهاتٍ، كثيرٌ منها لم يكن له بها ناقة ولا جمل. ورغم ذلك فقد قررت مصر- وهى تعيد صياغة سياستها الخارجية بما يضع المصلحة المصرية فى المقام الأول- أن هذا لا يعنى أن تتخلى عن شرفها ومسئوليتها تجاه جيرانها. لقد وقفت دائمًا- وحتى فى ذروة سنوات إنكار الفضل والجحود- فى مساندة الحق الفلسطينى. وكانت مصر بشكلٍ فعلى حقيقى هى شريان الحياة الأوحد لملايين الفلسطينيين منذ توقيع اتفاقية السلام وحتى الآن. لم يمنع مصر ما فعلوه معها أن تفتح أبوابها لإغاثتهم. وهى التى دفعت فى اتجاه مفاوضات السلام الثانية، التى حصل الفلسطينيون بمقتضاها على تلك الحقوق والاعترافات الدولية بحقهم فى الأرض والدولة.

حين كان مظفر النواب يلقى بقصيدته فى أحد الأعوام بعد استيلاء حماس على قطاع غزة ويسب حكام العرب، كان مقاتلو حماس يولون وجوههم وأسلحتهم شطر الحدود المصرية لا نحو القدس عروس عروبتهم، وكانوا يوجهون كتلًا من الشعوب العربية للتظاهر أمام مقرات بعض السفارات المصرية، فى نفس الوقت الذى كان مبارك يعقد مؤتمرًا صحفيًا يرفض فيه حصار قطاع غزة! حقًا ما أشرفكم!
مرة تلو المرة تقوم مصر بإنقاذ حياة أهل القطاع عبر رفض الدولة المصرية الاستجابة لدعوات الكيان بحصار القطاع، وفى كل مرة تكون حماس هى من تورط القطاع فى المواجهة، ثم تختفى وتترك السكان لمصيرهم.. ثم حين تهدأ الأمور عبر جهود الدولة المصرية، يعود مقاتلو حماس للاعتداء على الحدود المصرية! وبلغت ذروة موقفها المعادى لمصر بعد أحداث يناير ٢٠١١م حين حاولوا إدخال كل زناة الأرض لمصر لمقاتلة جنودها الذين حملوا دائمًا عبء هذه القضية منذ أن أصبحت قضية.. وحين تواطأوا بشكل صريح لسرقة قطعة من أرض مصر ونسوا تمامًا عروس عروبتهم! حقًا ما أشرفكم! .
بعد أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م، كلنا شاهدنا يومًا بيوم ما حدث.. اتضح أن القدس ليست إلا مطية لمن يطلقون على أنفسهم مقاومين، وهم ليسوا إلا مقاولى تنازل عن قضايا وطنية. رفضوا دائمًا كل محاولات مصر للتهدئة وحقن دماء أهل القطاع. قيادة مصر هى التى أوقفت تهجير السكان بالتنسيق مع قيادة الأردن أولًا، ثم التنسيق مع قيادات أو حكام الدول العربية الفاعلة. فى أكثر من عامٍ ونصف العام، من أحق بسباب مظفر النواب، حكام دول عربية رفضوا إنهاء القضية أم الذين ظلوا لعقودٍ طويلة يتاجرون بها ويتهمون الحكام بالتواطؤ والخيانة؟!
ما سبق وما تزامن وما لحق بالقمة العربية بالقاهرة لا يجب أن نمر عليه مرورًا عابرًا. اتفقت الدول العربية تقريبًا على الرؤية المصرية لحقن الدماء والحفاظ على حق أهل القطاع فى أرضهم وإعادة إعمارها. الكل كان يعرف أن الموقف الفلسطينى هو المحك. حماس والسلطة وأهل القطاع. كان على حماس أن تتنازل عن فكرة الاستمرار فى الحكم، وأن تسلم أسلحتها للسلطة، أو تحت إشراف مصر والاتحاد الأوروبى. وأن تتولى لجنة فلسطينية إدارة القطاع. أشعلت حماس قنواتها الإعلامية المعروفة رفضًا لفكرة تسليم سلاحها. كان صوتها زاعقًا جنونيًا.. لقد انتصرنا.. إنهم يتحدثون عن هزيمة متخيلة! لماذا نسلم سلاحنا أو سلاح المقاومة وقد انتصرنا؟! وتم اتهام مصر بأنها تريد نزع سلاح المقاومة!
ألقى موقف حماس بظلالٍ من الشك على مدى قدرة الدول العربية على تنفيذ المبادرة رغم قوة الموقف العربى وحصوله على تأييد دولى. فى هذا التوقيت الذى تواجه فيه مصرُ الإدارة الأمريكية من أجل الحق الفلسطينى، يُفاجأ العالمُ بمباحثات حماس المنفردة مع الولايات المتحدة!
ولم تتوقف المفاجأة عند فكرة الانسلاخ عن الموقف العربى الجمعى، والعمد إلى إضعافه وتفكيك توحده، بل تخطاه إلى ما أعلنه الجانب الأمريكى بأن حماس مستعدة لتسليم سلاحها، والتعهد بعدم تصدر المشهد مقابل إنهاء الحرب!
ما هذا بحق السماء؟! حماس التى ما زال البعض يهلل لها كحركة مقاومة تقبل من الأمريكيين- الذين أعلنوا عن خطتهم بتهجير أهل القطاع- ما رفضته من مصر والدول العربية التى اجتمعت من أجل الحفاظ لأهل القطاع على أرضهم! حقًا ما أشرفكم أولاد ال.....!
لو أتيح لمظفر النواب أن يعيش هذه اللحظة وأن يكتب شعرًا.. فماذا تراه أن يكتب؟ وما الوصف، أو ما هو السباب المناسب- بما أن شعره يحوى سبابًا- الذى كان يمكنه أن يصف أو يسب به قادة هذه الحركة فى ذلك الموقف تحديدًا؟!
استعار د. محمد عباس عنوان قصيدة مظفر النواب لكتابٍ كامل ضخم.. بغداد عروس عروبتكم. لكى يقول إن حكام العرب- ومصر أولهم لموقفها من غزو الكويت- هم من تواطأوا لضياع بغداد.
يتجاوز تمامًا عن جريمة غزو دولة عربية لدولة أخرى، كما وافق قادة فلسطينيون على هذه الجريمة رغم أن الدولة التى تم الاعتداء عليها كانت فى غاية الكرم مع هؤلاء القادة!
تجاوز الكاتب الإخوانى عن حقائق كبرى فى المشهد العراقى الذى انتهى إلى ما انتهى إليه. دولة عربية مستقلة ذات سيادة ولا تقبع تحت احتلال حتى يتم تعليق ما حدث لها فى رقاب دولٍ وشعوبٍ أخرى. دولة مستقلة غنية أنفقت قيادتها تلالًا من الأموال فى شراء صحفيين وإعلاميين من دول أخرى ثم تختتم هذه القيادة سيرتها بسقطة قاتلة يتم بمقتضاها القضاء على جيشها ومقدراتها.. فلماذا تكون بغداد عروس عروبتنا؟! بغداد هى مسئولية شعبها ودولتها وقيادتها. لكنه الإفك الإخوانى والمتاجرة بكل محنة فى أى وطن لإسقاط وطنٍ آخر! سبٌّ لقادة الدول واتهامات معلبة لها فى حين لم نسمع عن متطوعين إخوان مثلًا قرروا الدفاع عن العراق ضد الغزو الأمريكى! الغزو الأمريكى الذى جاء وعلى مقدمة دباباته شخصياتٌ عراقية محلية! فلماذا تكون بغداد عروس عروبتنا ولماذا يحمّلنا بعضُهم إثمَ قيادتها وبعض نخبها؟!.
إننى خلصتُ من قراءة تاريخ دول هذه المنطقة- السياسى، والأدبى المختلط بالسياسة، والفكرى الدينى- أنها منطقة عاشتْ شعوبُها عقودَها الأخيرة فى بحرٍ من الأكاذيب والأوهام.
أوهامٌ صنعها خطابٌ شعرى شعبوى غير واقعى وأيضًا غير عادل وغير دقيق. خطابٌ جنح إلى مداهنة الدهماء والغوغائية، والحصول على تصفيقهم الحار الذى يقومون بمنحه لأصحاب هذا الخطاب لأسباب نفسية. فهو خطابٌ كالخطاب الدينى الزائف، يقدم تبريرًا للتكاسل والتواكل الحضارى والتخلف القيمى أحيانًا والفساد الضميرى والأخلاقى.
خطابٌ يسب قيادات الدول، على اعتبار أنها الشيطان ذاته، وسببُ تخلف هذه الشعوب وهزائمها. يسبون القيادات فى قضية فلسطين، وينسون أن قطاعًا كبيرًا من أهل القضية متصالح بالفعل مع المحتل ويحمل جنسيته ويعمل لديه، وقطاعاتٌ أخرى تاجرت بالقضية وجنت أموالًا كثيرة، وقطاعات ثالثة حين تمكنت من حكم قطعة من أرض فلسطين وشعبها سامت من تبقى من هذا الشعب من باقى مواطنيهم سوء العذاب والظلم والقهر، وصمت هؤلاء المقهورين عن هذا القهر ولم يفكروا فى الثورة من أجل أنفسهم وتصويب بوصلة مقاومتهم.
شعوب هذه المنطقة سقطوا فى فخ هذا الخطاب الشعرى ممزوجٍ بخطاب دينى خرافى أو طائفى متطرف وأحيانًا دموى. يقتلون بعضُهم بعضًا حين يملكون قرارهم، ويقترفون من الجرائم الجماعية الطائفية ضد بعضهم البعض ما ينافس فى خسته ما يقوم به الكيان، ثم يترنحون جميعا طربًا لقصائد عنترية تسب الحكام الخونة! حقًا ما أشرفكم!.
كما خلصتُ من هذه القراءة أنه أمام المصريين طريقٌ طويل وشاق، عليهم أن يسيروا به إن أرادوا عصمة بلادهم دون السقوط فيما سقط فيه آخرون.
هذا الطريق عنوانه واحدٌ مختصر محدد.. مصر قدس أقداسنا!
هذا العنوان- مصر قدس أقداسنا- يجب أن يتحول إلى عقيدة راسخة فى قلوب وعقول المصريين.. عنوانٌ غير قابل للهزيمة أمام أى عنوانٍ آخر.. عنوانٌ قادر على مقاومة أبناء الأفاعى الذين لن يكفوا عن محاولة هزيمته. يجب أن يكون هذا العنوان هو أداة المصريين الحقيقية للفرز بين الجميع. من كان حديثه يتسق مع هذا العنوان فأهلًا به، ومن كان حديثه غير ذلك- مهما يكن اسمه وصفته وصنعته– فلا أهلًا به ولا سهلًا، وحديثه مردودٌ عليه، مقذوفٌ فى وجه!
من أراد دغدغة مشاعرنا وتحويلها عن بوصلة مصر إلى أى بوصلة أخرى فحديثه فاسدٌ لا يلزمنا. ومن أراد عولمة قضية مصر تحت هوية أخرى دينية أو عروبية فهو يريد خداعنا وحديثه فاسدٌ لن يقودنا إلا إلى الهاوية!
مصر قدس أقداسنا.. نعتصم بها وحولها ونذود عنها بما نملك.. أما دونها ومهما يكن فهو مجرد تفاصيل نتداخل بها على قدر ما يحفظ لنا قدس أقداسنا، وننأى عنها حين نشتم روائح أصبحنا لا نخطئها!
فى يوم المرأة.. خرج علينا أحدُهم يحتفل به، مقدِّما النموذج الأمثل من وجهة نظره والقدوة الأحق بالتمجيد فى صورة امرأة إحدى الجنسيات العربية وليست المرأة المصرية!
مثل هذا الحديث فى تلك المناسبات حديثٌ غير مصرى الهوى مردود على صاحبه الذى يبدو فى الأشهر الماضية وكأنه تحول لمتحدث رسمى باسم تلك الجنسية فى الديار المصرية!
فى يوم الشهيد نحن نعظم شهداء مصر.. وفى يوم المرأة نشيد بأمهات شهدائنا وبالمرأة المصرية المكافحة التى تعيل أكثر من ثلث الأسر المصرية!
مصر قدس أقداسنا.. وشهداء مصر هم سادتنا.. وأمهات مصر هن تاج رءوسنا.. هذا هو ردى على كل قصائد السب والشتم العروبية.. وهذا هو خلاصة ما أود توجيهه للمصريين!.