الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

رأيت الله فى أوروبا 4

ممرات الله فى الفاتيكان.. أسرار التعايش بين الدين والسياسة فى إيطاليا

حرف

- حتى عام 1870 كانت البابوية تسيطر على مساحة كبيرة من إيطاليا بالإضافة إلى واحدة أو اثنتين من البؤر الاستيطانية الصغيرةالله فى الفاتيكان

- الفاتيكان دولة مستقلة وعدد حاملى جنسيتها يبلغ ٥٩٤ شخصًا.. وعند دخولها ترى - حراسها بزى ملون ودروع تعود لعصر النهضةالإيطاليون مستاءون من استغلال الفاتيكان إعفاءها الضريبى لإنشاء مشاريع تجارية مربحة

- يدعو العديد من الإيطاليين إلى الحد من نفوذ الفاتيكان وز يادة المساءلة

يستحيل فهم تاريخ البابوية والفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية عمومًا، دون اكتشاف إيطاليا، العدد الهائل من الكنائس التى تُشكل جزءًا أساسيًا من المشهد الإيطالى، هذا ليس سوى رمز بسيط للعلاقة الفريدة والأعمق بين الكنيسة وإيطاليا.

فى روما سألت صديقًا إيطاليًا: كيف تستعد إيطاليا للزلازل واحتمالات الـ«تسومانى» بعدما ضرب 200 زلزال جزر اليونان؟ أجاب مبتسمًا: لن تضربنا زلازل ولا تسونامى.

أجبته: هناك دراسات والجغرافيا والتغيرات المناخية تقول عكس ذلك.. أجاب: لكننا لدينا «البابا» لا يمكن أن يحدث لنا شىء.

قلت له: تقصد «الفاتيكان»؟ 

قال: لا.. البابا نفسه هو سيحمينا.. ثم ضحك ساخرًا وفهمت منه أنه يتحدث عما يعتقده بعض الإيطاليين.. أن روما يحفظها الله من أجل البابا! علاقة الإيطاليين مع الفاتيكان، علاقة مهمة ومعقدة فى الوقت نفسه، لا يزال كثيرون يعتقدون أن دور البابا كرئيس أساقفة كاثوليكى للبلاد، هو صاحب «السيادة العليا»، بينما يرى البعض أن البابا فرنسيس كان سيكون أكثر فاعلية لو كانت الفاتيكان خالية تمامًا من الإيطاليين، أو لو تحررت من صلاها بالكنيسة الإيطالية، أو حتى كانت توجد فى مكان آخر بعيد جغرافيًا عن إيطاليا، ويرى بعض الإيطاليين أنه من الأفضل أن تكون علاقة مختلفة بين إيطاليا والفاتيكان. 

يوبيل الفاتيكان 2025 

زرت إيطاليا فى فبراير الماضى، وفهمت أن هذا العام هو يوبيل الفاتيكان، وفهمت أنه كل ٢٥ عامًا، يكون هناك عام الحج، وبحسب الصحف المحلية، تتوقع روما دفعة اقتصادية بقيمة ١٧ مليار يورو بسبب احتفالات اليوبيل فى عام ٢٠٢٥، من المتوقع أن يتوافد أكثر من ٣٠ مليون حاج إلى روما، وبعد قرابة شهر، مرّ نصف مليون زائر عبر الباب المقدس فى كاتدرائية القديس بطرس.

على الرغم من ذلك، حجزت فندقى فى منطقة «ترمينى» فى وسط روما بسعر مناسب جدًا، ولم أفهم كيف؟ رغم أنه عام الحج ومن المتوقع أن ترتفع الأسعار.. أجابنى صديق: كانت هناك توقعات أن ترتفع الزيارات، لكن منذ بداية عام الحج فى ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ «الكريسماس»، لم تصل الأعداد المتوقعة حتى الآن، فقامت الفنادف بتخفيض الأسعار.

قال غالاردو، وهو رجل إيطالى يعمل فى السياحة لموقع «يورونيوز»: «لا يقيم الحجاج عادةً فى بيوت العطلات، بل يميلون إلى اختيار أماكن تُتيح لهم الإقامة مع حجاج آخرين، مما يُقلل من نفقاتهم». وأضاف أن «العديد من الزوار الذين لا يريدون أن يحيط بهم الزحام ويفضلون الاستمتاع بالمدينة كما هى، اختاروا تأجيل زيارتهم لمدة عام أو عامين». 

«فى يناير ٢٠٢٥، الشهر الأول من اليوبيل، انخفضت الحجوزات بنسبة ٦٠٪ إلى ٧٥٪ مقارنة بالعام الماضى والأعوام السابقة»، ولكن لا يزال من المتوقع أن يبلغ حجم الإيرادات المتوقعة للعاصمة الإيطالية بين ٤ و٤.٥ مليارات يورو، ومن المتوقع أن تستفيد مدن أخرى أيضًا. ووفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة السياحة الإيطالية، من المتوقع أن يُحقق مهرجان اليوبيل إنفاقًا يُقدر بنحو ١٧ مليار يورو فى روما وحدها.

سألت صديقًا مصريًا يعيش فى روما: ما المهم فى هذا اليوبيل؟ قال لى: إنه سيتم فتح ممرات الفاتيكان السرية، التى يعرف مكانها البابا وحده؟ وربما تكون هناك فرصة لأن يعبر بعض الحجاج من الممرات التى تشكل قيمة دينية كبيرة لديهم.

فى فترات عديدة من تاريخ الفاتيكان، هرب البابوات عبر ممر سرى، فى عام ١٢٧٧، شُيّد ممرٌّ مرتفعٌ ومُغطى بطول نصف ميل، يُدعى «باسيتو دى بورغو»، لربط الفاتيكان بقلعة سانت أنجيلو المُحصّنة على ضفاف نهر التيبر، وقد شكّل هذا الممرّ طريق هروب للبابوات، ولا سيما فى عام ١٥٢٧، عندما أنقذ على الأرجح حياة البابا كليمنت السابع أثناء نهب روما، وبينما كانت قوات الإمبراطور الرومانى المقدس شارل الخامس تجوب المدينة وتقتل الكهنة والراهبات، صدّ الحرس السويسرى العدوّ لفترة كافية سمحت لكليمنت بالوصول بأمان إلى قلعة سانت أنجيلو، على الرغم من أن ١٤٧ من قوات البابا فقدوا أرواحهم فى المعركة. فلا يزال الحجاج يتذكرون الماسأة ويرون النجاة بسبب ممرات البابا ويتمنون زيارتها.

توطين الفاتيكان فى روما

لم تصبح روما الموطن الأصيل للبابوات والحكومة المركزية للكنيسة إلا بعد سلسلة طويلة من الأحداث التى أدت إلى إعادة توطين الفاتيكان فى روما.

أولًا: كانت هناك «القرون المظلمة» بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى البلاط البابوى فى القرن العاشر، ثم جاءت فترات نُقل فيها البلاط البابوى إلى مدن إيطالية أخرى، وأخيرًا إلى جنوب فرنسا حيث استمرت «بابوية أفينيون» فى القرن الرابع عشر لما يقرب من ٧٠ عامًا. تلى ذلك عصر «المجمعية» (مبدأ أن للمجمع المسكونى سلطةً أكبر من البابا)، الذى أنهى «الانشقاق الغربى الكبير» فى القرن الخامس عشر، ثم عززت حركة الإصلاح المضاد فى القرن السادس عشر العلاقة المميزة بين البابوية وإيطاليا، ثم استمر البابوات فى حكم أجزاء واسعة من شبه الجزيرة الإيطالية، وذلك بعد أن رفض البابوات مغادرة الفاتيكان، حيث حكم البابوات مجموعة من الولايات البابوية ذات السيادة فى جميع أنحاء وسط إيطاليا حتى تم توحيد البلاد عام ١٨٧٠.

حتى عام ١٨٧٠، كانت البابوية تسيطر على مساحة كبيرة من إيطاليا، بالإضافة إلى واحدة أو اثنتين من البؤر الاستيطانية الصغيرة الأخرى خارج شبه الجزيرة، مثل كومتات فينايسين فى جنوب فرنسا، لكن اليوم، لا تمتد الدولة البابوية إلى ما هو أبعد من مدينة الفاتيكان.

لاحقًا استولت الحكومة العلمانية الجديدة فى إيطاليا على جميع أراضى الولايات البابوية باستثناء رقعة صغيرة من الفاتيكان، واندلعت بعد ذلك حرب باردة بين الكنيسة والحكومة الإيطالية، حيث رفض البابوات الاعتراف بسلطة مملكة إيطاليا، وظلت الفاتيكان خارج السيطرة الوطنية الإيطالية.

ثم أعلن البابا بيوس التاسع نفسه «سجينًا للفاتيكان»، ورفض البابوات لما يقرب من ٦٠ عامًا مغادرة الفاتيكان والخضوع لسلطة الحكومة الإيطالية، حتى انتهى النزاع بين الحكومة الإيطالية والكنيسة الكاثوليكية عام ١٩٢٩ بتوقيع اتفاقيات لاتران، التى سمحت للفاتيكان بالبقاء كدولة مستقلة ذات سيادة، وعوضت الكنيسة ٩٢ مليون دولار «أكثر من مليار دولار بأسعار اليوم» عن الولايات البابوية، ومن هنا استخدمت الفاتيكان المبلغ كرأسمال أساسى لإنعاش خزائنها. ووقّع موسولينى، رئيس الحكومة الإيطالية حينذاك، المعاهدة نيابةً عن الملك فيكتور إيمانويل الثالث.

مع كل منعطف فى تاريخ البابوية والكنيسة الكاثوليكية، تغيرت إيطاليا أيضًا. ففترة الديمقراطية الحالية، القائمة منذ الحرب العالمية الثانية، ليست كفترة الفاشية «١٩٢٢-١٩٤٥». وبالمثل، فإن روما اليوم ليست كروما مجمع الفاتيكان الثانى وبداية الستينيات سنوات «الحياة الحلوة». كل هذا كان له تأثير عميق على البابوية والحكومة المركزية للكنيسة الكاثوليكية. 

كاتدرائية مدينة الموتى

العديد من القصص التى تروى وتجعل الفاتيكان فى مركز الكاثوليكية فى العالم، وأهمها قصة القديس بطرس، التى لها علاقة باختيار الفاتيكان هذا المكان فى روما على وجه التحديد.

كانت مقبرة رومانية قائمة على تلة الفاتيكان فى العصور الوثنية، وعندما دمر حريق هائل جزءًا كبيرًا من روما عام ٦٤ ميلاديًا، سعى الإمبراطور نيرون إلى إبعاد اللوم عن نفسه، واتهم المسيحيين بإشعال الحريق، ووقتها أعدمهم حرقًا على الخازوق، ومزقهم بالوحوش البرية، وصلبهم، وحينها قالوا إن نيرون حاول البكاء على روما، لكنه لم يتمكن، فطلب من حراسه أن يحضروا له كأسًا من الدموع!

من بين المصلوبين حينذاك كان القديس بطرس، تلميذ يسوع المسيح، وقائد الرسل، وأول أسقف لروما، الذى يُزعم أنه دُفن فى قبر ضحل على تلة الفاتيكان.

بحلول القرن الرابع، ومع الاعتراف الرسمى بالديانة المسيحية فى روما، بدأ الإمبراطور قسطنطين بناء الكاتدرائية الأصلية فوق أرض الدفن القديمة، وفى وسطها ما كان يُعتقد أنه قبر القديس بطرس. تم بناء الكنيسة الحالية فى بداية القرن السادس عشر، وتقع فوق متاهة من المقابر والقبر المشتبه به للقديس بطرس

بعد بناء كاتدرائية القديس بطرس الأصلية، أقام البابوات بشكل رئيسى فى قصر لاتيران قبالة روما، لكنهم غادروا المدينة كليًا عام ١٣٠٩ عندما انتقل البلاط البابوى إلى أفينيون، بفرنسا، بعد أن رتّب الملك فيليب الرابع انتخاب كاردينال فرنسى لمنصب البابا، ولاحقًا حكم سبعة بابوات، جميعهم فرنسيون، من أفينيون، ولم تعد البابوية إلى روما حتى عام ١٣٧٧، حين احترق قصر لاتيران وبدأ استخدام الفاتيكان كمقرّ بابوى. 

مع ذلك، تطلب الأمر الكثير من أعمال الترميم، لأن الفاتيكان كانت قد تدهورت إلى درجة أن الذئاب كانت تحفر بحثًا عن الجثث فى المقبرة، حتى إن الأبقار كانت تتجول فى البازيليكا.

دولة الفاتيكان

فى الواقع، فإن دولة الفاتيكان هى دولة مستقلة، دولة داخل دولة، وهى تشبه إلى حد كبير إحدى دول المدن الإيطالية، سان مارينو، مساحة الأرض التى تسيطر عليها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الآن ضئيلة مقارنةً بالماضى، لكن نفوذها فى إيطاليا المعاصرة لا يزال كبيرًا. وبينما لم تعد الفاتيكان تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضى، إلا أنها تمتلك ممتلكات عقارية ضخمة فى إيطاليا.

الفاتيكان دولة صغيرة، أسوارها واضحة فى مركز روما، تُحيط بها حدود بطول ميلين مع إيطاليا، تمتد على مساحة تزيد قليلًا على ١٠٠ فدان، ما يجعلها ثُمن مساحة سنترال بارك فى نيويورك، بوابتها صغيرة مثل الحواجز الحديدية التى تقع فى مفترقات الطرق.

تُحكم الفاتيكان بنظام ملكى مطلق، ويترأسها البابا، تصدر الفاتيكان يورو خاصًا بها، وتطبع طوابعها، وتُصدر جوازات سفر ولوحات ترخيص، وتُدير وسائل إعلام لها، ولها علم ونشيد وطنى خاص بها. تُدرّ إيرادات الفاتيكان من رسوم دخول المتاحف، ومبيعات الطوابع والهدايا التذكارية، والتبرعات، لكن تنقصها شىء واحد فقط: الضرائب.

عند دخول الفاتيكان تجد الحراس بزيهم الملون ودروعهم التى تعود إلى عصر النهضة، وعرفت أنه حرس سويسرى، وجد هناك ليحمى البابا والفاتيكان منذ عام ١٥٠٦، فى ذلك الوقت، عيّن البابا يوليوس الثانى، على خطى العديد من المحاكم الأوروبية فى ذلك الوقت، إحدى قوات المرتزقة السويسرية لحمايته الشخصية، ومنذ ذلك الحين تم الاستعانة بالجنود السويسريين.

يقتصر دور الحرس السويسرى فى الفاتيكان على حماية سلامة البابا. ورغم أنه يعتبر رسميًا أصغر جيش نظامى فى العالم ويبدو مظهره هادئًا ورسميًا، إلا أن جنوده مدربون تدريبًا مكثفًا ويتمتعون بمهارات عالية فى الرماية. 

سكان الفاتيكان فى الخارج يبلغ عددهم ٦٠٠ نسمة، واعتبارًا من عام ٢٠١١، بلغ عدد حاملى الجنسية الفاتيكانية ٥٩٤ شخصًا. شمل هذا العدد ٧١ كاردينالًا، و١٠٩ أعضاء من الحرس السويسرى، و٥١ عضوًا من رجال الدين، وراهبة واحدة داخل أسوار الفاتيكان، إلا أن أكبر مجموعة من المواطنين كانت تضم ٣٠٧ أعضاء من رجال الدين فى مناصب دبلوماسية حول العالم.

كما تجرى الفاتيكان أبحاثًا فلكية باستخدام تلسكوب متطور يقع على قمة جبل غراهام فى جنوب شرق أريزونا، لأنه مع توسع روما، زاد تلوث الضوء من المدينة من صعوبة رؤية علماء الفلك فى مرصد الفاتيكان، الواقع على بُعد ١٥ ميلًا من المدينة فى المقر الصيفى للبابا فى كاستل غاندولفو، لسماء الليل. 

علاقة خاصة مع روما

رسّخت معاهدة لاتران لعام ١٩٢٩ استقلال الفاتيكان وحددت علاقتها بإيطاليا، وأقرّت هذه المعاهدة بسيادة الفاتيكان، مع منح إيطاليا مسئوليات محددة تتعلق بأمنها وبنيتها التحتية، ورغم استقلال الفاتيكان، فإن محدودية أراضيها تُلزمها بالاعتماد بشكل كبير على الخدمات الإيطالية. وهذا يُشكّل توازنًا معقدًا، يتطلب تعاونًا دبلوماسيًا مستمرًا بين الكيانين.

يحدّ صغر حجم الفاتيكان من اكتفائها الذاتى اقتصاديًا. فرغم امتلاكها أصولًا ضخمة «بما فى ذلك المتاحف والمجموعات الفنية»، إلا أنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على إيطاليا فى توفير العديد من السلع والخدمات الأساسية. ويرتبط هذا الاعتماد الاقتصادى برفاهها المالى بالاقتصاد الإيطالى الأوسع. ومع ذلك، يمتد نفوذ الفاتيكان إلى ما وراء حدودها، من خلال سلطتها الدينية ودبلوماسيتها الدولية ومؤسساتها المالية.

يشهد اقتصاد مدينة الفاتيكان ازدهارًا ملحوظًا بفضل السياحة. تجذب متاحف الفاتيكان وكاتدرائية القديس بطرس ملايين الزوار سنويًا. إلا أن هذه السياحة تُثقل كاهل البنية التحتية المشتركة، ما يتطلب التعاون مع السلطات الإيطالية فى مجال ضبط الحشود والنقل والأمن.

يُعزز القرب تبادلًا ثقافيًا واسع النطاق، ولا شك أن الثقافة الإيطالية تتغلغل فى الحياة اليومية فى الفاتيكان. إلا أن دور الفاتيكان كمركز عالمى للكاثوليكية يُمارس تأثيرًا متبادلًا كبيرًا على الثقافة والمجتمع الإيطاليين. ويُمثل هذا التبادل الثقافى ديناميكية مستمرة تُشكل الكيانين.

لكن إذا اعتبرت الفاتيكان أن جانبًا من سياسات الحكومة الإيطالية غير مستساغ، فسوف تعبر عن رأيها، وسوف يهرع السياسيون الإيطاليون المؤيدون لها للدفاع عنها وتقديم دعمهم غير المشروط، بما فى ذلك منع التشريعات التى يُنظر إليها على أنها تتعارض مع تعاليم الكنيسة.

ومع ذلك، يبدو أن قلة من الناس فى إيطاليا يعتبرون أن السياسيين الإيطاليين الذين يتعاونون مع الفاتيكان يقومون بشىء قد يعتبر خيانة فى دول أخرى.

الاقتصاد السرى للفاتيكان

على مدار قرون، لم تنشر الفاتيكان إلا القليل عن شئونها المالية واستثماراتها، فمعظم الناس يجهلون كيفية تحقيق أرباحها كدولة ذات سيادة، وذات اقتصاد خاص، حيث تحيط السرية اقتصاد الفاتيكان، ويعتقد البعض أن أرقامها المالية عامة ليست دقيقة.

«الكرسى الرسولى» هو الهيئة الحاكمة للأمة ويجنى الأموال من خلال التبرعات؛ ويحصل الكرسى الرسولى على إيراداته من «بنسات بطرس»، وهو مصطلح يعود تاريخه إلى القرن الثامن للإشارة إلى التبرعات التى يتلقاها الكاثوليك فى جميع أنحاء العالم. ثم يستثمر جزءًا من تلك الأموال فى الأسهم والسندات والعقارات. فأى عقار أو سيارة يحملان لافتة «vc» يعنى أنهما يتبعان الفاتيكان.

تاريخيًا، استثمر «الكرسى الرسولى»، وهو الهيئة الإدارية الرسمية للفاتيكان بشكل رئيسى فى الصناعات الإيطالية، موزعًا محفظته الاستثمارية بين الأسهم والسندات، وحصر حصته فى الشركات بأقل من ٦٪. وقد اتبع نهجًا استثماريًا متحفظًا، فاختار شراء شركات راسخة فى قطاعات قوية والاحتفاظ بها؛ لذلك، فإن استثماراته فى العالم النامى محدودة.

ومع ذلك، اتسمت استثماراتهم الأخيرة بطابع دولى، لا سيما فى عملات وسندات أوروبا الغربية، مع بعض النشاط فى بورصة نيويورك، وللكرسى الرسولى أيضًا استثمارات فى العقارات حول العالم، لا سيما فى الأراضى والكنائس.

على عكس الكرسى الرسولى، تحصل مدينة الفاتيكان على إيرادات من مشاريع فخمة تقليدية. وبقوة عاملة تبلغ حوالى ٤٨٠٠ موظف، حيث تعتمد المدينة على عدد قليل من الصناعات الصغيرة لتوليد الدخل.

والمفاجأة كانت أن بنك الفاتيكان كان فى قلب العديد من الفضائح المالية، فى فبراير ٢٠١٨، أعلن بنك الفاتيكان أنه يتهم رئيس البنك السابق ومحاميه باختلاس ٥٠ مليون يورو، من خلال مخططات احتيالية فى مجال العقارات وغسيل الأموال، ما دفع البابا فرنسيس إلى إدخال إصلاحات توفر المساءلة المالية والشفافية، تخضع مالية الفاتيكان لعمليات تدقيق دورية. تُجرى شركات خارجية، مثل برايس ووتر هاوس كوبرز، عمليات تدقيق مالية لضمان الامتثال للأنظمة والمعايير المالية، ما يعزز الشفافية والمساءلة.

اعتبارًا من سبتمبر ٢٠٢٤، تواجه الفاتيكان صعوبات اقتصادية، على الرغم من استمرارها فى إصلاح شئونها المالية للوصول فى النهاية إلى الإنفاق بدون عجز، حيث ألقى المسئولون باللوم على ضعف الاقتصاد الأوروبى مؤكدين أن الفاتيكان تقوم بدور عظيم هو نشر الكاثوليكية.

تجذب الفاتيكان، إلى جانب كنيسة سيستين، وكاتدرائية القديس بطرس، ومتاحف الفاتيكان، ملايين السياح والحجاج الدينيين كل عام، كما تتمتع الفاتيكان بإعفاء ضريبى داخل أراضيها، فالضرائب تُعدّ عبئًا إضافيًا: فهى تؤثر على السعر النهائى الذى يدفعه المستهلكون، وانخفاض الضرائب يعنى انخفاض الأسعار. فى إيطاليا، تُدار الفنادق التى تديرها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تتمتع بإعفاء من ضريبة الأملاك. هذا يعنى أن هذه الفنادق التى تديرها الفاتيكان يُمكنها أن تفرض أسعارًا أقل من نظيراتها التى يديرها القطاع الخاص، ونتيجةً لذلك، لا تستطيع المنشآت غير المملوكة للكنيسة المنافسة؛ ما يسمح لفنادق الفاتيكان بالهيمنة على قطاع الضيافة، حيث تقدم عروضًا بتخفيضات كبيرة ما يخلق تحديات تنافسية للشركات الخاصة، ولكن ما فهمته أن ضمن تلك الفنادق والبيوت يسرى عليها نظام الكنيسة «فلا يمكن العودة إلى الفندق بعد الساعة ٩ مساء»؛ ما جعلنى استبعدها فورًا من خياراتى!

يتباين الرأى العام حول وضع الفاتيكان فى روما، حيث يدعو العديد من الإيطاليين إلى الحد من نفوذ الفاتيكان وزيادة المساءلة، لا سيما فيما يتعلق بالالتزامات الضريبية خلال الأزمات الاقتصادية.

الحد من نفوذ الفاتيكان

يبدو نفوذ الفاتيكان، دولة مستقلة، فقوة الفاتيكان الجاذبة تُدر دخلًا هائلًا على روما سنويًا، حيث يتوافد السياح والحجاج لإلقاء نظرة خاطفة على البابا، أو الاستمتاع بروائع كنيسة سيستين مقابل ١٥ يورو للزيارة، والإقامة فى فنادق المدينة العديدة.

ولكن من ضمن المقترحات القانونية التى تجد الفاتيكان صعوبة فى استيعابها حاليًا، الدعوة إلى إخضاع مبانى الكنائس فى إيطاليا لضريبة عقارية جديدة، على الرغم من أن إيطاليا لا تنوى حاليًا فرض ضرائب على أماكن العبادة، لكن العديد من الإيطاليين مستاءون من استغلال الفاتيكان إعفاءها الضريبى لإنشاء مشاريع تجارية مربحة، كالفنادق والمطاعم، دون دفع أى ضرائب على العقارات التى تقع فيها.

يرى الدكتور ستيفانو بونينو محاضر فى قسم العلوم الاجتماعية بجامعة نورثمبريا وزميل الجمعية الملكية للفنون. أن عُدِّلت معاهدة لاتران عام ١٩٨٥، حين لم تعد الكاثوليكية الرومانية دين الدولة الرسمى. ومع ذلك، ظلّ الكرسى الرسولى، باعتبار الفاتيكان كيانًا ذا سيادة، يتلقى دعمًا ماليًا كبيرًا من دافعى الضرائب الإيطاليين، ويواصل ممارسة نفوذ كبير على السياسة الإيطالية. منذ نشوء الجمهورية الإيطالية من رماد مملكة إيطاليا عام ١٩٤٦، لم يكن طريقها نحو الديمقراطية العلمانية سلسًا دائمًا.

العلمانية والفاتيكان

المقر الرئيسى للكنيسة الكاثوليكية التى يبلغ عدد أتباعها ١.٢ مليار نسمة، دولة الفاتيكان «الكرسى الرسولى»، هى جيب داخل مدينة روما، وبالتالى الأراضى الإيطالية. زعيم الكنيسة العالمى، البابا، هو أسقف روما، ومن هنا تأتى العلاقة الخاصة بين الإيطاليين والكنيسة، فالدين فى إيطاليا تاريخيًا مرتبط بهيمنة الكنيسة الكاثوليكية، أكبر فرع للمسيحية، منذ الانشقاق بين الشرق والغرب، ويرجع هذا جزئيًا إلى أهمية روما فى تاريخ الكنيسة، بما فى ذلك مكانتها التاريخية كبطريركية رائدة ووجود الفاتيكان، مقر الكنيسة الكاثوليكية ومقر إقامة البابا.

نظريًا، ليس لإيطاليا دين رسمى للدولة، لكن فى الواقع، لديها دين رسمى، ألا وهو الكاثوليكية الرومانية، لا يقع المقر الرئيسى للكاثوليكية الرومانية فى إيطاليا، بل فى الفاتيكان، قلب روما. يعتقد الكثير من الإيطاليين، وإن لم يكن جميعهم، أن الكاثوليكية الرومانية إيطالية بامتياز.

لكن فى الوقت نفسه اتخذت إيطاليا خطوات جدية وواثقة نحو العلمانية، التى هى عمليًا تعنى الفصل بين الكنيسة والدولة، الفاتيكان تعارض هذا التوجه بشدة، يُنظر إليه على أنه «إلحاد متشدد».

خاضت إيطاليا معركةً ضاريةً لإقرار قوانين طلاق وانفصال أكثر اعتدالًا. لا توجد قوانين للحق فى الحياة فى إيطاليا، ويعود ذلك أساسًا إلى ضغوط الفاتيكان. باختصار، أى اقتراح قانون فى إيطاليا يُنظر إليه على أنه يتعارض مع مبادئ الفاتيكان سيواجه معركةً شاقة. 

لكن على الرغم من العلمانية إلا أن الحياة الكنسية نابضة بالحياة إلى حد ما، فبعض الحركات والجمعيات الأكثر نشاطًا هى كاثوليكية، بما فى ذلك منظمات متنوعة مثل العمل الكاثوليكى «AC»، والجمعية الكاثوليكية الإيطالية للمرشدات والكشافة «AGESCI»، والشركة والتحرير «CL»، وطريق الموعوظين الجدد، وحركة الفوكولارى، والجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين «ACLI»، وجماعة سانت إيجيديو، وما إلى ذلك، والتى شارك معظمها فى الأنشطة الاجتماعية وزودت السياسة الإيطالية بأعضائها بشكل متكرر.

إيطاليا، رغم علمانيتها الرسمية، تتأثر بشدة بالكاثوليكية الرومانية، وفى قلبها مدينة الفاتيكان، ما يؤثر على السياسة والسياسات العامة. 

وهناك أسباب أخرى فهمتها من الإيطاليين عن تحجيم نفوذ بابا الفاتيكان فى روما خلال العقود الأخيرة، والسبب هو أن البابا الحالى هو فرنسيس، المولود باسم خورخى ماريو بيرجوليو، وهو من الأرجنتين، وقبل انتخابه فى عام ٢٠١٣، كان رئيس أساقفة بوينس آيرس منذ عام ١٩٩٨. فرنسيس هو البابا غير الإيطالى الثالث على التوالى، بعد يوحنا بولس الثانى «١٩٧٨-٢٠٠٥» من بولندا وبندكتس السادس عشر «٢٠٠٥-٢٠١٣» من بافاريا، ألمانيا.

فضلًا عن سبب آخر، وهو أنه بسبب الهجرة، ولا سيما تدفق المسلمين والمسيحيين الأرثوذكس الشرقيين والبروتستانت والبوذيين والهندوس، بالإضافة إلى التبشير والعلمانية، زادت التعددية الدينية فى إيطاليا فى القرن الحادى والعشرين، وفقًا لمسح أجرته شركة Ipsos عام ٢٠٢٣، كان ٦٨٪ من سكان البلاد ملتزمين بالمسيحية، بما فى ذلك ٦١٪ كاثوليك و٤٪ بروتستانت و٣٪ مسيحيون آخرون، وكان ٢٨٪ غير متدينين و٢٪ فضلوا عدم الإفصاح، وكان ١٪ مسلمين و١٪ ملتزمين بأديان أخرى.

كيف ينظر الإيطاليون إلى الفاتيكان

ليس الجميع فى إيطاليا راضين عن نفوذ الفاتيكان، هناك عدد كبير من الإيطاليين الذين لا يوافقون على مدى نفوذ الفاتيكان على إيطاليا، ويرغبون فى تقليص هذا النفوذ بشكل كبير، وهناك الكثيرون من الذين التقيتهم يريدون أن تكون إيطاليا خالية من أى تأثير دينى، بينما يعتقد آخرون أن أيطاليا هى إيطاليا بسبب وجود الفاتيكان. لاحظت مواقف متباينة.

بعض الناس يفكرون فى الفاتيكان من منظور سياسى، وبالتالى إما أنهم يعتقدون البابوية أصبحت مثل المملكة على جزء من وسط إيطاليا، لكنها لم تخدم الأهداف الرئيسية للبابوية، وأن تركيزهم أصبح على السلطة الدنيوية، وهناك من يعتقد أن وضع الفاتيكان جيد، خاصة البابوات الثلاثة الأخيرين لم يكونوا إيطاليين، فإنهم لم يعودوا يتدخلون «أو لم يعودوا قادرين على التدخل» فى السياسة الإيطالية وهذا أمر جيد بشكل عام.

ألتقيت مسيحيين كاثوليك اسمًا، لكنهم لم يذهبوا إلى الكنيسة، إلا ليحضروا حفلات زفاف وجنازات ومعمودية، ويختلفون فى عدد من القضايا الاجتماعية، ويرون أن البابا فرنسيس أفضل من أسلافه، وأن هذا لا يؤثر ذلك عليهم عمومًا.

مع ذلك هنا من يعترض ويغضب من أن ينتقد باباهم، حتى لو لم يكونوا يكترثون للكنيسة عمومًا. البابا ملكهم، خاصةً هذا البابا، وليس لأحد غيرهم الحق فى الشكوى.

وهناك الإيطاليون النشطون، نشطون للغاية فى الكنيسة، وفى الكشافة، وفى أى عدد من الحركات المرتبطة بالكنيسة، وهم يحبون البابا، ويعتقدون أنه حقًا سيحميهم من الزلازل والـ«تسونامى».