الثلاثاء 01 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خاص.. أمين سر الموسيقار.. حديث مع آخر أصدقاء عبدالوهاب

عبدالوهاب
عبدالوهاب

- نشأ فى بيئة دينية.. أول أسطوانة له كانت فى عمر 8 سنوات.. وعمل فى بداية حياته عند رجل يُدعى «بحبح» فى باب الشعرية

- تجاوز بيتهوفن بتأليف 150 قطعة موسيقية فى 5 دقائق

- لم يكن يأكل إلا المسلوق ويتجنب أى طعام فيه ثوم أو بصل

- القصر هدد «موسيقار الأجيال» بالقتل لإجباره على تطليق نسل شاه

حين زرت الأديب الكبير مصطفى نصر فى الإسكندرية، لم أكن أعلم أن حديثًا عابرًا سيقودنى إلى كنز فنى عن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، مُخبأ وسط مدينة الثغر. 

خلال نقاشى مع الأديب مصطفى نصر، وجدته يذكر اسم المؤرخ محمود حسن، واصفًا إياه بـ«مجنون عبدالوهاب»، لشغفه اللا محدود بالموسيقار الأسطورى، ولم يكتفِ بذكره، بل تواصل معه أمامى عبر الهاتف، فحدثته واستأذنته فى لقائه، فكان ترحيبه حارًا ودعوته مفتوحة.

حين دخلت مكتبه فى منطقة المنشية، وجدت نفسى وسط عالم خاص بـ«موسيقار الأجيال». هناك كأننى عبرت بوابة إلى أرشيف نادر يضم صورًا وأفيشات سينمائية وأسطوانات قديمة، وصولًا إلى خطابات بخط يد «عبدالوهاب» نفسه، وأخرى من شقيقه ونجله، فكأن المكان أشبه بمتحف غير رسمى، يحفظ إرثًا فنيًا يستحق أن يُروى.

وخلال جلوسى مع محمود حسن، بدأ يسرد قصته مع «عبدالوهاب»، التى بدأت منذ طفولته وحياته وسط أسرة عاشقة للطرب الأصيل، حيث تعلّق بأعمال الموسيقار إلى حد الهوس، ليؤسس لاحقًا «ركن عبدالوهاب» فى مكتبه بالإسكندرية، كملاذ لحفظ كل ما يتعلق بالفنان الكبير. 

ولم يكن هذا الشغف مجرد متابعة عن بُعد، بل تطور إلى علاقة شخصية، إذ أصبح «محمود» من المقربين لـ«عبدالوهاب»، يزوره أسبوعيًا فى الإسكندرية والقاهرة، ليعيش معه لحظات نادرة، حمل منها أسرارًا وقصصًا لم تُروَ من قبل، كشفت لى جانبًا آخر من شخصية «موسيقار الأجيال».

فى السطور التالية، نحلق مع الحكايات التى يرويها محمود حسن كسيرة موازية لـ«عبدالوهاب»، نتعرف عليها من خلال خطابات ومكاتبات ومحادثات بينهما، تكشف عن جوانب أخرى فى حياة الموسيقار الكبير.

محمود حسين وعبد الوهاب

قرأ كل خطابات إعجابى به.. وأرسل يطلبنى لمنزله

بدأت حكايتى مع «عبدالوهاب» عندما سمعته لأول مرة وعمرى عشر سنوات، وكنت أشترى كل أسطواناته، وأكتب على كل أسطوانة كلمات إعجاب، ثم أرسل نصها إليه فى خطابات، وفى الحقيقة، لم أكن أعرف عنوانه الذى يقيم فيه بالضبط فى تلك الفترة، لكنى عرفت لاحقًا أن كل ما أرسلته إليه قد وصل إليه ورآه، بل إنه هو من بحث عنى.

ذات مرة وجدت سيارة تقف أمام مكتبى، ونزل منها المطرب الشهير آنذاك عبدالغنى السيد، ومعه حامد مرسى، زوج الفنانة عقيلة راتب، وكان ذلك عام ١٩٤٥، وأخبرانى بأن «عبدالوهاب» يرغب فى رؤيتى.

اندهشت كثيرًا، وأخذانى بالسيارة إلى فيلا كبيرة جدًا، دخلت إلى التراس، وانتظرت «عبدالوهاب»، لم أكن أصدق أننى على وشك رؤيته، وبالفعل نزل «عبدالوهاب» مرتديًا بيجامته، فوقفت تحية له. فسأل: أين محمود حسن؟ فقلت: أنا هو. فنزل ليجلس معنا. فبادرته قائلًا: سمعت أغنية «يا جارة الوادى»، فلفت نظرى شىء ما. ثم أنشدت له الأبيات الأولى من الأغنية: 

يا جارة الوادى طربت وعادنى.. ما زادنى شوقًا إلى مرآك 

فقطعت ليلى غارقًا نشوان فى.. ما يشبه الأحلام من ذكراك 

قلت له: أنت هنا وضعت ثمانية موازير موسيقية، بينما فى قصيدتك «الليل لما خلى»، ليس بها إيقاع لكنها موزونة. وبالفعل، أثبت حديثى أن قصيدة «الليل لما خلى» كانت موزونة. وبسبب ذلك، أخذ «عبدالوهاب» الأسطوانة البلاتينية المسجل عليها القصيدة وأهدانى إياها.

بعد ذلك، دعانى إلى بيته فى القاهرة. ومنذ ذلك الحين، فكرت فى إنشاء ركن أو مكتبة خاصة فى الإسكندرية أسميها «ركن عبدالوهاب»، ومن ذلك التاريخ، ١٥ سبتمبر ١٩٤٥، حتى وفاته، كنت أراه أسبوعيًا، وشاهدت عنده كل الباشوات.

شقيقه كان يضربه ويسحله بسبب الغناء

نشأ محمد عبدالوهاب فى بيئة دينية، حيث كان أخوه الحاج حسن ووالده متدينين، واسمه الكامل هو محمد عبدالوهاب محمد أبوعيسى «عبدالوهاب» الشعرانى، ومن هنا جاءت صلة عائلته بحى «باب الشعرية» فى القاهرة.

كان الشيخ حسن، أخو «عبدالوهاب»، يحاول منعه من الغناء فى بداية حياته، ولدىّ أسطوانة نادرة غناها «عبدالوهاب» وهو فى الثامنة من عمره فقط! تخيل ذلك، طفل فى الثامنة يغنى كلمات مثل: 

ويلاه ما حيلتى، ويلاه ما عملى.. ضاع الرشاد وضاعت فى الهوى سبلى 

وبعد عام واحد فقط، أخرج أسطوانة أخرى يقول فيها: 

أتيت فألفيتها ساهرة.. وقد حملت رأسها باليدين

فى صدرها زهرة ناضرة.. رأيت بأطرافها دمعتين. 

عمل «عبدالوهاب» فى بداية حياته عند رجل يُدعى «بحبح» فى باب الشعرية، وعندما أخبروا الحاج حسن بأن أخاه يغنى، قام بضربه ضربًا قاسيًا، وسحله من باب الشعرية حتى وصلوا إلى البيت.

وكان الحاج حسن يضايق «عبدالوهاب» باستمرار. ولكن مع الوقت تغيرت الأمور، وأصبح «حسن» نفسه يعشق الموسيقى، بل إنه غنى وشارك ككومبارس فى أعمال «عبدالوهاب»، وعندما سألته: «لماذا كل هذا؟ لماذا آذيته فى الماضى؟» أجابنى ببساطة: «نحن عائلة، ونحن مع بعضنا».

حلاقه الخاص كتب له «حب الوطن فرض عليا»

كان أمين عزت الهجين الحلاق الخاص بالموسيقار الكبير، وقد فتح له أمير الشعراء أحمد شوقى محلًا للحلاقة باسمه بجوار الأوبرا القديمة التى احترقت لاحقًا.

وكتب أمين عزت لـ«عبدالوهاب» أغنية شهيرة بعنوان «حب الوطن فرض عليا» التى يقول فيها: 

حب الوطن فرض عليا.. أفديه بروحى وعينيا 

ليه بس ناح البلبل ليه.. فكرنى بالوطن الغالى 

قضيت أعز شبابى فيه.. وفيه حبايبى وعزالى 

وغنى «عبدالوهاب» هذه الأغنية التى كانت تحمل فى طياتها هجومًا على الإنجليز، كما كتب أمين عزت أغنيات أخرى لعبدالوهاب، منها «روحى معاكى» من فيلم «يوم سعيد»، و«يا ناسى وعدى»، و«حبيب القلب»، والعديد من الأغانى الأخرى. 

والمفارقة أن أمين عزت الهجين لم يكن يحلق لغير «عبدالوهاب»؛ فقد كان يجعل الصبيان يحلقون للعامة، بينما كان هو نفسه يحلق للموسيقار فقط، وكان صديقًا شخصيًا لأمير الشعراء أحمد شوقى، ما أضاف بُعدًا آخر لعلاقته بالفن والأدب. 

أحمد شوقى أطلعه على سر حبيبته.. ساكنة باريس

حكى لى «عبدالوهاب» أنه حين تعرّف على أحمد شوقى، أخذه معه إلى فرنسا عام ١٩٢٥. وكان «عبدالوهاب» يتوقع أن ينزلا فى فندق فاخر من فئة الخمس نجوم، لكنه تفاجأ عندما قال «شوقى» للسائق: «أريد الذهاب إلى الحى اللاتينى». 

ونزلا أمام «بنسيون» متواضع جدًا، لا يليق بمكانة أمير الشعراء، فتساءل «عبدالوهاب» فى نفسه عن سبب هذا الاختيار.

وعندما دخلا البنسيون، رأى «شوقى» يربت على السرير والطاولة بحنين. وتبين أن «شوقى» كان يدرس الحقوق فى فرنسا، وكان يقع فى مواجهة البنسيون بيت حبيبته التى كانت تطل عليه من البلكونة، وكانت بينهما قصة عشق كبيرة، ولهذا كان شوقى دائمًا يختار الإقامة فى هذا البنسيون المتواضع كلما زار فرنسا. 

وتطورت الأحداث عندما رأى «شوقى» حبيبته تقف مع بعض الشباب، فغضب غضبًا شديدًا وكتب فيها قصيدة تقول: 

خدعوها بقولهم حسناء.. والغوانى يغرهن الثناء 

أتراها تناست اسمى.. لما كثرت فى غرامها الأسماء 

وعندما تزوجت حبيبته، كتب فيها قصيدة أخرى تقول: 

علموه كيف يجفو فجفا.. ظالمٌ لا قيتُ منه ما كفى 

مسرفٌ فى هجرهِ ما ينتهى.. أتراهم علّموه السرفا. 

وحين ماتت كتب فيها قصيدة مؤثرة تقول: 

يا ناعمًا رقدت جفونه.. مضناك لا تهدأ شجونه 

حمل الهوى لك كله... إن لم تعنه فمن يعينه. 

هذه الحكايات تعكس الجانب الإنسانى العميق لأمير الشعراء أحمد شوقى، وعلاقته الوثيقة بالفن والحياة، التى تأثر بها «عبدالوهاب» وأمين عزت الهجين، ما أضاف لمسات من الإبداع والعاطفة إلى تراثهما الفنى.

أول من ابتكر «البلاى باك» و«الفيديو كليب»

فى سبتمبر ١٩٣٣، عرض فيلم «الوردة البيضاء» للموسيقار محمد عبدالوهاب، وهو يُعتبر علامة فارقة فى تاريخ السينما المصرية. 

فى ذلك الوقت، كانت الفنانة نادرة تعد فيلمًا بعنوان «أنشودة الفؤاد»، ونصحها «عبدالوهاب» قائلًا: «انتظرى حتى يخرج فيلمى، وتلاشى الأخطاء التى قد تقعين فيها»، وكان فيلم نادرة يُخرجه مخرج إيطالى، وكل طاقم العمل من الإيطاليين، كما أن نصف الفيلم كان صامتًا والنصف الآخر صوتيًا، واحتوى على أغنية واحدة متقطعة. 

وكان التمثيل فى الفيلم خطابيًا إلى حد كبير، حيث إن معظم الممثلين كانوا من المسرحيين مثل جورج أبيض وغيره. ولهذا السبب أُطلق على فيلم «أنشودة الفؤاد» أنه أول فيلم غنائى مصرى، لكن هذا الوصف غير دقيق.

فى ندوة عُقدت فى أكاديمية الفنون بالهرم، أشرت إلى أن فيلم «الوردة البيضاء» يحتوى على ٨ أغنيات كاملة، وكان فيلمًا ناطقًا بالكامل، وهو إنتاج مصرى خالص لـ«عبدالوهاب»، وإخراج مصرى لمحمد كريم. وبالتالى، فإن فيلم «الوردة البيضاء» هو أول فيلم غنائى مصرى حقيقى، وليس فيلم «أنشودة الفؤاد» لنادرة، وهو الخطأ الذى تكرر فى كتابات العديد من المؤرخين الفنيين.

أما عن تقنية «البلاى باك» فى «الوردة البيضاء»، فهذه التقنية تعنى تسجيل الصوت أولًا، ثم تصوير المشاهد مع تحريك الشفاه فقط ليتناسب مع التسجيل الصوتى. وقد اكتشف «عبدالوهاب» هذه التقنية فى أثناء تصوير فيلم «الوردة البيضاء».

وعندما سافر «عبدالوهاب» إلى ألمانيا، وجد قصيدة للشاعر بشارة الخورى بعنوان «جفنه علم الغزل»، وطلب من المخرج محمد كريم أن يضمّنها فى الفيلم. ووافق الأخير على الفكرة، وسجل «عبدالوهاب» الأغنية فى باريس عام ١٩٣٣، ثم تم تصوير المشاهد باستخدام تقنية «البلاى باك»، حيث كان الموسيقار يحرك شفتيه بما يتناسب مع التسجيل الصوتى.

كما كان المخرج محمد كريم يسجل الأغانى مع المناظر الطبيعية، حيث كان يطابق ما يقوله «عبدالوهاب» فى الأغنية مع الصور الطبيعية، ويضع صوته فى الخلفية، وهذه الطريقة كانت بمثابة النواة الأولى لما يُعرف اليوم باسم «الفيديو كليب»، وهى فكرة أخرى يُعتقد أن عبدالوهاب كان من أوائل من استخدمها فى السينما المصرية.

وهذه التفاصيل تُظهر كيف كان محمد عبدالوهاب رائدًا فى استخدام التقنيات الحديثة فى السينما والموسيقى، وكيف أسهم فى تطوير الفن المصرى بطرق مبتكرة ومؤثرة.

بيرم لم يكن يحبه بسبب غنائه «عيشة الفلاح» فقط!

كنت فى ميدان رابعة العدوية، واقترب منى شخص يسأل عنى، فأشاروا إليه إلى مكان وقوفى بجوار عاطف صدقى. فتعرفتُ على الرجل، وكان هو يوسف خليف، رئيس كونسرفتوار باريس، وهو جزائرى يحمل الجنسية الفرنسية. 

وكان يوسف خليف قد كتب مقالًا بعنوان «شجرة الورد على ضفاف النهر الخالد»، وأجرى دراسة موسيقية شاملة ذكر فيها أعظم الموسيقيين فى التاريخ، مثل بيتهوفن وباخ من أوروبا الغربية، وتشايكوفسكى من أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى موسيقيين من تونس مثل الرياحى، ومن مصر مثل المسلوب وعبده الحامولى ومحمد عبدالوهاب. وقال فى دراسته إن كل هؤلاء الموسيقيين العظماء «بايعوا» عبدالوهاب أميرًا عليهم فى عالم الموسيقى. 

وثائق بخط يد عبدالوهاب

وأشار يوسف خليف إلى أن بيتهوفن، على سبيل المثال، لديه سيمفونية تحتوى على لزمتين موسيقيتين وتستغرق ساعة ونصف الساعة، بينما قام عبدالوهاب بتأليف ١٥٠ قطعة موسيقية، كل منها لا يتجاوز الخمس دقائق، وتحتوى كل قطعة على ١٢ مازورة، وكل منها يحمل موضوعًا موسيقيًا متكاملًا. 

بذلك، اختزل «عبدالوهاب» ساعتين من الإبداع الموسيقى فى خمس دقائق فقط، ووصف يوسف خليف ذلك بأنه «إعجاز موسيقى»، مؤكدًا أن إنجازاته تفوقت على الكثير من العمالقة فى تاريخ الموسيقى العالمية. 

وكان بيرم التونسى، الشاعر الكبير، يكره «عبدالوهاب» فى البداية، لأن عبدالوهاب غنى له أغنية واحدة فقط هى «محلاها عيشة الفلاح»، وهذه الأغنية تحتوى على حركة مازورية معقدة يعجز عنها أى ملحن، لكن «عبدالوهاب» تعامل معها ببراعة. ويقول مطلع الأغنية: 

محلاها عيشة الفلاح.. محلاها عيشة الفلاح 

مطمن قلبه ومرتاح.. يتمرغ على أرض براح 

والخيمة الزرقا ساتراه.. ياه ياه 

وتحتوى الأغنية على جملة موسيقية مكسورة صعبة، لكن «عبدالوهاب» عالجها بإضافة «ياه ياه ياه ياهى ياه يااااه»، ما أعطى الأغنية طابعًا خاصًا وجعلها من أبرز أعماله.

طلق إقبال نصار لأنها «طولت لسانها عليه»

أولى زيجات محمد عبدالوهاب كانت من زبيدة الحكيم، وهى سيدة تكبره فى السن ولديها أبناء من زواج سابق. 

وكانت «زبيدة» تهتم به كثيرًا، حيث كانت تحضر له الكرافتات والملابس الفاخرة المزينة بدبابيس ألماظ، وعندما توفيت تزوج «عبدالوهاب» سرًا من الأميرة نسل شاه، التى أصبحت فيما بعد زوجة الأمير عبدالمنعم. 

وكانت الأميرة تزور «عبدالوهاب» ليلًا وتغادر مع الفجر، وكان هو يذهب إلى منيل الروضة ليقابلها فى شقة هناك، حيث يبقى معها حتى الفجر قبل أن يعود إلى بيته فى العباسية. 

وكانت الأميرة نسل شاه مصدر إلهام لـ«عبدالوهاب» فى أغنيته الشهيرة: 

أمانة يا ليل تقول للفجر يستنى.. خلينى بالوصل أفرح ليلة وأتهنى 

دا العمر كله انكتب لى الليلة فى الجنة 

وحكى «عبدالوهاب» لأمير الشعراء أحمد شوقى قصة ولعه بالأميرة وكيف كان يتمنى ألا يأتى الفجر ليقطع ليلته معها، فكتب «شوقى» قصيدة تعبر عن هذا الشعور: 

يا ليلة الوصل استنى... أفرح بِحِبى واتمتع 

الصبح ليه ياخدوه منى... والفجر مين قال له يطلع 

وعندما علم القصر بزواج الأميرة من «عبدالوهاب»، تدخل الملك فاروق وتم التفريق بينهما بالقوة، حتى إن «عبدالوهاب» تلقى تهديدات بالقتل، وكادوا يقتلونه بالفعل، وتأثر بشدة بفراق زوجته، وغنى مُعبرًا عن حزنه: 

مسكين وحالى عدم... من كتر هجرانك 

ياللى تركت الوطن... والأهل على شانك 

وأذكر أنه فى ذلك الوقت، كان عبدالوهاب عائدًا من أوروبا، وكنت أنتظره فى الميناء، وحين هبط إلى الميناء، اقتربت منه ليلى مراد وأسرت شيئًا فى أذنه، فوجدت وجهه قد احمر وتغير لونه تمامًا، فقال لى: «تعال يا محمود، اذهب إلى مدير الجمارك وقل له نريد مركبًا»، فأخذنا مركبًا وذهبنا إلى رشيد، ثم إلى المنيا، حيث اختفى «عبدالوهاب» لمدة ستة أشهر عند صديقه عبدالحميد عبدالحق باشا. 

وبالنسبة لقصة طلاقه من إقبال نصار، أذكر أن «عبدالوهاب» حينها كان يسكن فى الهرم، ثم انتقل إلى العباسية، ثم إلى الزمالك. 

وفى إحدى المرات، قال لى: «سنذهب إلى حفل خطبة قريبة زوجتى إقبال نصار»، فارتدى «عبدالوهاب» بذلته وذهبنا إلى الحفل، وقبل انتهاء مراسم الخطبة، قال «عبدالوهاب» إنه متعب ويريد العودة إلى البيت. فقالت له إقبال: «الحفل ما زال أمامه بعض الوقت»، فأصر على العودة، وذهبنا إلى البيت. 

وهناك، قال لى: «سأغير البذلة ونذهب إلى مشوار فنى» وعندما عادت «إقبال»، وجدته قد غير ملابسه، فغضبت وأطلقت لسانها عليه. فقال لها: «هذا عمل»، وكان هذا سبب الطلاق بينهما. وبعد الطلاق، غنى لها أغنية «لا مش أنا اللى أبكى».

عبدالوهاب وعدد من الأصدقاء

كتب نوتة موسيقية على ورقة لحمة

تقربت من «عبدالوهاب» كثيرًا لدرجة أننى شهدت عقد زواج ابنته، التى كان يطلق عليها «إش إش»، من عبدالله الدسوقى باشا. 

ومن خلال هذه العلاقة، تعرفت على الوسط الفنى بشكل أعمق، حتى إن الفنان كرم مطاوع والشاعر فاروق شوشة جاءانى فى يومٍ ما، وأخبرانى أن «عبدالوهاب» قد لحن أغنية لـ«شوقى» فى مسرحية «مصرع كليوباترا»، يقول فيها: «أنطونيو.. أنت الحب والحب أنا.. مالى روحين للحب غنا.. لم بعت الهوى لتاجى منا». ثم سألانى عن معنى الأغنية، فشرحت لهما أن هناك تاجين للملك مينا، وشبهته بموحد القطرين، مما أثار دهشتهما.

كان «عبدالوهاب» دائم التفكير فى الموسيقى، حتى فى أثناء جلوسه معك، كان يسرح بخياله ثم يعود للحديث، ثم يسرح مرة أخرى. 

وفى أحد الأيام، بينما كان ذاهبًا إلى الإذاعة، قال لى: «تعال معى»، فركبت معه فى السيارة، وفجأة طلب من السائق التوقف أمام محل جزار، وطلب منه أن يحضر ورقة من المحل، فأحضر السائق ورقة من تلك التى تُستخدم فى لف اللحوم، فأمسكها عبدالوهاب وكتب عليها نوتة موسيقية للحن جديد.

ومن عاداته أنه كان يبقى أيامًا دون نوم إذا انشغل بفكرة موسيقية. وفى زياراتى له، كنت أجد أوراقًا مبعثرة فى كل مكان، فأعرف أن فكرة جديدة قد خطرت له، وكثيرًا ما كان يبدو مرهقًا، غير قادر على الكلام بسبب انشغاله بالبحث عن نغمة أو لحن. وبسبب هذا، أعرف أن هناك العديد من الألحان التى لم ترَ النور، وكنت أسعى دائمًا لجمع أسطواناته، حتى إننى سافرت إلى تونس وإنجلترا للحصول على أسطوانات لموسيقار الأجيال.

وكان «عبدالوهاب» لا يأكل إلا المسلوق، ويتجنب المأكولات ذات الرائحة النفاذة، التى كان يسميها «المعطرة»، ويعنى بها تلك التى تحتوى على ثوم أو بصل، وقد التزم بهذا النظام الغذائى منذ عام ١٩٤٠ حتى وفاته.

وكان يخاف من يوم الجمعة، لأنه يوم إجازة الأطباء، وكان يحمل همًا كبيرًا خشية أن يمرض فى هذا اليوم، لذا، كان يحاول ألا يُجهد نفسه فيه. وقد تحققت مخاوفه، حيث توفى فى يوم جمعة.

فى إحدى زياراتى له، كان يجلس يفكر ولا يتحدث، يسرح مع الفكرة ثم يعود للحديث، ثم يسرح مرة أخرى. 

أعطى على الكسار 500  جنيه لأنه «مكنش لاقى ياكل»

لحن «عبدالوهاب» لحنى «إنت عمرى» و«إنت الحب» من كلمات أحمد رامى لأم كلثوم. وحدث أن جاء «عبدالوهاب» إلى فيلته فى جليم، فاتصل بى وذهبت إليه، فوجدت أحمد رامى وأم كلثوم وإحسان عبدالقدوس وآخرين هناك. 

فقال «عبدالوهاب» لى: « واحشنى وإنت قصاد عينى، وشاغلنى وإنت بعيد». ثم سألنى أمامهم: هل مر عليك هذا الكوبليه؟، فقلت له: «نعم، وذكرت له الكوبليه من قصيدة لأحمد شوقى يقول فيها: «توحشنى وأنت ويايا، واشتقالك وعينى فى عنيا، وتعاتبنى والحق معايا، وأجى أعاتبك والحق معايا». فلم يتكلم «رامى»، واندهشت أم كلثوم وقالت لـ«عبدالوهاب»: «إنت جبت المصيبة دى منين؟»، فرد عليها عبدالوهاب: «هذا مرجعى الفنى وناقدى».

وكنت أذهب إلى «عبدالوهاب» ونأكل معًا. ومن المواقف التى تدل على عدم بخله كما يشاع أن نقودًا كانت تخرج من تركته الخاصة لبعض الناس حتى بعد وفاته. وكنت أنا بنفسى أوصل بعض هذه النقود لموسيقيين.

وفى إحدى المرات، كنت فى شارع عماد الدين فمر علىّ على الكسار، وكان يبدو عليه الحزن والهم، فقلت لعبدالوهاب: «على الكسار مرّ علىّ حزينًا ويبدو أنه لا يجد قوت يومه». فسألنى: «هل رأيته بعينيك؟»، فقلت: «نعم، مرّ من أمامى». فأخرج عبدالوهاب شيكًا وكتب عليه مبلغًا وضعه فى ظرف، وطلب منى أن أنتظر على الكسار وأعطيه الظرف. 

وانتظرته يومين ولم يمر، وفى اليوم الثالث مرّ، فأعطيته الظرف. فسألنى: «ما هذا؟»، فقلت له: «هذا خطاب من عبدالوهاب يسلم عليك» ففتح الظرف فوجد فيه ٥٠٠ جنيه، وكتب له عبدالوهاب: «هذا أجرك عن فيلم رصاصة فى القلب». فقال على الكسار: «لكنى أخذت أجر الفيلم!»، فقلت له: «لا أعلم». ثم طلب منى أن أذهب معه إلى البنك، فذهبت معه، وكان مدير البنك صديقًا لى بسبب تعاملاتى الكثيرة معه لحساب «عبدالوهاب». فقلت له: «اصرف هذا الشيك لعلى الكسار»، وصرف الشيك، وقمت أنا بالتوقيع بدلًا من «على». وبعد أن صرفنا المبلغ، طلب منى على «الكسار» أن أوصله إلى بيته خوفًا من السرقة، ففعلت، فبكى.

أما الموقف الآخر الذى يدل على عدم بخله، فهو أنه وجد قصيدة مكتوبة للشاعر أحمد أبوالوفا، فلحنها وغناها فى فيلم «يحيا الحب». 

وبحثنا عن الشاعر فلم نجده، لكننى توصلت إليه فى شارع عابدين. فأعطانى عبدالوهاب مبلغًا وقال لى: «أعطه لأبوالوفا». وبحثت عنه ووجدته يسكن فى حجرة على السطح وكان مقطوع القدم، فأعطيته المبلغ، فبكى.

خطابات نادرة بخط يده: يسعدنى اهتمام الشباب بالفن

كتب «عبدالوهاب» لى خطابات بخط يده وأحب أن أطلع القارئ على نماذج منها خلال السطور التالية: 

«السيد الفاضل محمود حسن

تحياتى لك وللإخوان والأحباب الذين تفضلوا بإظهار شعورهم الرقيق لشخصى، وأرجو أن تتاح لى الفرصة لشكرهم وشكرك شخصيًا عندما تسمح ظروفى بالحضور للإسكندرية، وإنه يسعدنى أن أرى الشباب مهتمًا هذا الاهتمام الكبير الواعى بالفن وأهله، الأمر الذى يطمئننا جميعًا على مستقبل الفن فى الجمهورية العربية، بل فى الشرق بأسره، وختامًا لك صدق مودتى وللإخوان محبتى واعتزازى..

محمد عبدالوهاب

وفى خطاب آخر يقول «عبدالوهاب:

«يسعدنى أن أستقبل مُحبىّ ومنهم الأخ محمود حسن، وأن أرى فيهم الإخلاص والإحساس المرهف وأتقدم بالشكر على مشاعرهم الكريمة»