الجمعة 20 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

على حسن يكتب: الخنافس السوداء

حرف

كالمعتاد.. فى تمام الخامسة عصرًا انصرف موظفو شركتى، جاءنى مدير الحسابات، سلّمته شيكات تستحق الدفع غدًا، وقّعتُ له على كشوف مرتبات العمال والموظفين، لم يبق غير الساعى، الذى أعدَّ عصير الليمون فى موعده، قبل توجهى إلى صالة «الجيم».

تجرَّعتُ العصير المُرَّ دفعة واحدة؛ تحت الكأس الفارغ تركت للساعى مبلغًا من المال، يعينه على علاج زوجته المصابة بالسرطان. داخل حجرة الاستراحة الملحقة بمكتبى، بدّلت ملابسى؛ تركت جميع متعلقاتى الشخصية، حتى مفتاح سيارتى، لست فى حاجة إليه؛ رياضة المشى تغمرنى بالسعادة.

نصف ساعة بين شركتى وصالة «الجيم»، النوافذ الزجاجية التى تحيط بالصالة تتيح أثناء التمرين رؤية شاطئ «محطة الرمل». 

فى السابعة خرجت من الصالة بعد دشٍّ بارد، لم أُرِد العبور إلى الكورنيش تفاديًا للزحام. يلهو الأطفال عراة، يمسكون أمهاتهم بالمناشف، يخرق أذنيك سبابٌ قبيح، ودعوات على شياطينهنَّ مؤلمة! 

طريق العودة إلى البيت رائق، خالٍ من السيارات، عَبْرَ هذا الهدوء رنَّ «الموبايل». زوجتى تسألنى: هل سآخذ حمام بخار ومساجٍ؟ لم تسمع إجابتى!

مَرَّ «توكتوك» كالبرق؛ برزت منه يدٌ خفية انتزعتُ هاتفى! لحظات انقضت، استوعبت خلالها حجم الصدمة، أفقتُ على يدٍ خاوية! ركضت كالريح خلف التوكتوك، تعلّقت به. لكمات عنيفة سددها الجنىّ بيده الغليظة، حاول فكَّ قبضتِى، أحكمتُ قبضتىَّ، تشبثتُ، ثَبتُ التوكتوك، ضاعف السائق من سرعته. تعثرت قدماى، اختل توازنى، كدت ألمس الإسفلت، لم أعد قادرًا على ملاحقة التوكتوك، تمزق حذائى الرياضى، الإسفلت جمر ملتهب، تهلهلَ البنطلون «الأديداس» الأبيض!

متحصنًا داخل التوكتوك، استبدل اللصّ مطواته بقبضته، مزّق يدىَّ وساعدىَّ، ضربات عشوائية كادت إحداها تطيح برقبتى. شىء دافئ يسيل على عينى، ربما رأسى أو جبهتى تنزف، لمحت الدم يقطر على سترتى البيضاء! 

فجأة مال النشّال بجزعه خارج التوكتوك، جذبَ سترتى بعنف، أفلتَ يدَه مع رفسة قوية!

هويت على الإسفلت، ارتطم رأسى بالرصيف، أحسست أن جمجمتى تهشَّمت، ألم أذهلنى عمّا أصاب مرفقَىَّ وركبتَىَّ! خلو الطريق من المارة- ليس كما على الجانب الآخر الموازى لشاطئ البحر- اختزل الكثير من حجم المعاناة والمهانة! أحد أصحاب المحلات الخاوية جاء يمدُّ يده. تجاهلته، نهضتُ معتمدًا على كفىَّ، عدم اتّزان تلاشى تدريجيًا، صرت قادرًا على الانحناء، أنفضُ التراب العالق بـ«التريننج سوت» المهلهل.

اجتزت الطريق إلى البحر منفردًا، شارع الكورنيش واسع رحب، سرب متصل من السيارات المسرعة، رفعت يدى ملوّحًا، هدَّأَ بعض السائقين سرعتهم، بينما لم يلتفت إلىَّ كثيرون، أفزعنى زعيق أبواق سياراتهم، زادنى اضطرابًا! 

أدركتُ الكورنيش منهكًا، جلستُ على سوره العريض، كلُّ جسدى يؤلمنى، تأملت البشر، السيارات، لعنتُ الخنافس السوداء، التى خرجت علينا من البلاّعات دون رادعٍ!

رجلٌ على يسارى يجلس القرفصاء، تنبعث منه رائحة نتنة، أغلب الظن أنه يقضى حاجته! فوق جسده عشرات من السترات القذرة، ألوانها كالحة تميل جميعًا إلى اللون الرمادى. دون أن يقف، زحزح جسده النحيف ناحيتى، وافترش الأرض فى خمول. 

بينى وبين حذائه المتهرئ نصف متر. فى ملل وضجر وضعتُ ساقى اليمنى فوق الأخرى، أتفحّص ما بها من جروح مؤلمة. التفتُ إليه فجأة، وجدته عاقدًا ساعديه تحت رأسه، مصوِّبًا نحوى نظرات حقد عجيب وغضب مخيف. وضع ساقًا على ساق؛ قال فى استعلاء واشمئزاز: «دى منطقتى.. غُور بعيد عن هنا».

خطُّ ماء طويل ينبُع من تحته، يسير نحوى بطيئًا ملتويًا، كأنه ثعبان!