الشاعر الكبير جمال القصاص يكتب: كُن لصَّ نفسك
قلت سأعبر من هذا الشّق
مثلَ فأر يحلم
مثل غيمة تحت جناحى عصفور
مثل شجرة أجهدها رسمُ القلب
حاولت أن أتسلقها
أعلمها تحسين الخط.
لم يكن فى البال
أن أعيد الكرَّة مراتٍ ومرات
أن أستفتى ظلى
على من يعبر أولا
يطوِّح العكازَ فى وجه الريح
ويذرف دمعتين على امرأة
نسيت خصرها فى الحانة.
أمس كانت تقاسمنى الفَراش
بنظرة واحدة
تناولنى الكوب
تعرف أن قلبى يتصبَّب عرقا
أن حرارتى تجاوزت
حبالَ الوصل والقطع.
ماذا سأفعل فى هذه السن المضطربة
يا قصيدتى الطفلة؟
أنا على وشك الرحيل
لا أعرف بالضبط
إلى أين أذهب
حاولتُ قدرَ ما أستطيع
أن أكون عصريًّا
ولو بسطرين من الشعر
أشياء كثيرة عبرتنى بخفّة
ولا تزال تفتش فى ظلّى عن قمر ذابل
لم يكن له موقفٌ سياسىٌّ
لكنه كان يضىء
كلما انغرست قدماى فى الغابة
أنا معضلة نفسى
أمشى على أربع أحيانا
ربما أتذكر أننى إنسان.
سأذهب
أنسى أننى كنت هنا
كان لى فمٌ ولسانٌ وقلب
كنت أكتب الشعر
أفرح بالخط المائل فوق السُّرة
أتأمل الحياة وهى تلهو فوق سطحه الأملس
تنقر على بطنه
وتعد على أصابعها:
جيم
ميم
ألف
لام.
كان المذاق حلوا
وأنا أتحسس حوافكَ المرقَّطة
كأنها لحنى الخاصُ
ذاكرةٌ تنمو فى اليد
لذةُ أن أشتهى ما لا أشتهى.
دائما كنتُ مشدودا إليكَ
من بين كل رفاقك الأحرار فى المطبخ
كنتَ طبقىَ المفضل.
تعرف ذلك جيدا
لكن يدى اللصَّة كثيرا ما تخوننى
ترتعش وأنا أدعك فروتك الشقراء تحت الصنبور
وأنا أغازلك بالرغوة
بفقاقيع البياض.
اطمئن يا صديقَ العِشرة
حفرتك طيبة وأليفة
بهدوء ستنام فى الحديقة
ستكون صديقا للعشب والعصافير
للحياة وهى تمر خلسة
كصفحة بيضاء
لم أستطع أن أفض بكارتها
أرشوها بقبلة
دائما تتلكأ فى الفم..
أضحك وهى تلوى ذيلها
وتصرخ:
أنا قطتك المشتهاة
روحك المعطَّرة
خذنى كموجة
أرتفع حتى آخر الغرق
نَم فوق ركبتىَّ
تحسّس التاريخَ
وهو يقضم أظفاره
وهو يبيض فى القفص.
سأذهب
لدىّ مقبرةٌ
هذا كلُّ ما أملك
جميلٌ أن أضع رأسى
فوق ركبة الأبدية وأغفو
أغمض عينىّ للأبد
سيقولون رحل شاعر
كان يعشق مراهقة المنظر
يرى اللونَ أبعدَ من اللوحة
من القصيدة
من لوثة المرايا
من شقشقة البحر فى الوسادة
لا تسألنى:
لماذا انتفض الليلُ من مرقده؟
ثمة روح تتدلّى فى الاناء
ها هو يتأملها
يهمس فى أذنيها:
كونى أمينة على السِّر
علميه كيف يمتطى الأرجوحةَ
يحرث الخطوطَ والفراغ
يفتش فى جيوب الضوء
عن عناق حى
عن ضحكة
نفدَ رصيدُهَا فى البورصة
عن نجمة
لم تعثر على ظلِّها فى محمصة البن
ولا فى مقهى البستان.
ما زلت أحلم
أتعرف على جسدى
على نفسى
على اسمى
على حياة
تركتها خلفى
لم أودعها
فقط..
نزّتْ الدموعُ من يدىّ
وأنا أغلق الكتاب.
سأذهب
أحتفى بأشيائى الصغيرة
أشيائى الحميمية
كم مرةً تفر يدى من يدى
تتسابقان على من يعد الفطور
بملعقة من البن
يضبط وضع الفراشة فوق الرَّف
يمنح التلصّص عينا أخرى
أبعدَ من فجوة فى الكراس
من نهنهة الحلم
من كرمشة الفراغ
وهو يفتش عن مقعد أعزلَ
لم تستر الحديقة عورته
لم يستحم فى حضنها.
الوقت غريبٌ هنا
من أى بقعة سيشع النّورُ
الفجر الأحمق
نسى ساعته فى محطة القطار.
ما أقسى الدراما
حين نعبر النّهرَ
ننسى أن الماء يتغَّير
أن الحصى لم يعد ملائما للعبةٍ
لا تغازلها الشمس.
الحصى الطيب الحنون
لم يعد يتذكر
يومًا ما كنا أطفالًا
نرسم حضنَ الأم
نشبِّكه فى يدينا
نتخيَّله سلطتنَا الأبديَّة
مرآتنا الناصعة البيضاء
كلَّ يوم نقبِّلها
نمسح عن عينيها هالاتِ السواد
برقة نحتضن الصورة
نضع النقطة فى الإبريق
لا فواصل هنا
لا عقدة تلهو فى كف الزمن.
أيها اللص الأعمى
لماذا سرقتنى
مددّتَ يدكَ فارغة فى حقيبتى الطيبة
هل كنت تريد أن تسلِّم على الحياة
هل أعجبك خلخالها المطوّسَ
أغرتك شفتاها المشققتان
وهى ترشَّ الملحَ على العتبات.
أنت قذر
أربكتَ دورةَ النعناع فى فم حبيبتى
لم تتعلّم معنى النعمة
ولا كيف تقرع الروحُ الأبواب
بهدوء تخلع صندلها
وتغفو.
لن أسألك أين أنفقت نقودى
لكنْ أرجوك فى المرة القادمة كن حضاريا
اسرقْ ريشة َالعدل من زنزانة الذل
بسمة َالهواء من قميص الأوبرا
كنْ لصَّ نفسك
قَبِّلْ حافظة نقودى مرتين
احنِ لها الرأسَ
وأنت تركلها فوق ركبة الليل.
الهواء ثقيل
لن أطوى الصفحة
سأحاول أن أكتشف السِّر
ألتقطه من ماضى الزهرة
من امرأة لم تقدم له قربانًا
لم تفك أزرار القميص
تطهو حزنها فى مائة
أعرف أنه يوما ما
سيفور
من شدة العطش
شدة الجوع
سيمزق الغربالَ
يمشى كملاك أبله
يفتش عن شيطانة
تركت آثار أقدامها تتأوه
تستجدى آخر العابرين
ربما يرفرف حول عينيها
كطائر مبتل.
كيف طارت حمالةُ نهديها
تحت أى شجرة فكَّتْ اللغز؟
«شجرٌ يبوح ويختفى
ويميسُ فى غَبَشِ النّهارِ
يظلُّ بين سمائِهَا عطشًا، وَرِىّْ.
نَدَهَتْ على بدنى
وما نَدَهَتْ علىّْ
ثَقُلَتْ مَفِاتِنُهَا علىّْ
حَجَرٌ أنا
وزمَانُهَا ماءٌ ينامُ على يَدَىّْ..!»
من ديوان جديد قيد الكتابة