الثلاثاء 01 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عشرة من عشرة للدراما المصرية الخالصة

حرف

لا تنسَ وأنت تتحدث عن الدراما المصرية فى أى وقت أنها صناعة كبرى حجم أعمالها الآن يصل لعدة مليارات من الجنيهات، والتقدير من واقع رصد إنتاج نحو 40 مسلسلًا عُرضت فى موسم رمضان هذا العام، بخلاف ما يتم إنتاجه وعرضه على مدار السنة سواء على قنوات التليفزيون أو منصات المشاهدة، بكل أسف على قدر أهمية وحجم الصناعة لا توجد تقارير أو إحصاءات دقيقة، ولا جهات متخصصة تهتم بذلك. 

أيضًا لا تنسَ أنها صناعة متصلة بتشكيل الوعى والوجدان، بل لعلها أكثر ما يؤثر فيهما، فلا يجوز أن تخضع لمعايير التجارة وفقط، ضرورى أن يستشعر صنّاع الدراما على اختلاف أدوارهم خطورة هذه الأدوار، هى مسئولية بكل معانى الكلمة ومفرداتها، لا أميل لفرض الوصاية تحت أى مسمى أو فى أى شكل، فالأوصياء أهواء، ولا مفر من تضارب المصالح، الوعى إذًا هو الحل، وعى الإنتاج قبل وعى التلقى، والقاعدة الذهبية «العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة» لا بد وأن تكون فى النهاية هى الفيصل والحكم. 

فإذا استعرضت موسم دراما رمضان هذا العام فى مجموعه، فلا شك أنه من أنجح مواسم الدراما المصرية على مدار ١٥ عامًا مضت، فالدراما عانت هى الأخرى انفلات سنوات ما بعد يناير ٢٠١١، وأخذت وقتها فى التعافى بقدر ما أصابها وأصاب المجتمع من تقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية، صحيح أن الدراما تعكس الواقع، لكن دورها فى نفس الوقت أن تعمل على تقويم مساراته، ترتقى بوعى المشاهد وتهذب وجدانه وكلاهما لا يتنافى أبدًا مع الترفيه أو التسلية، وكما أن الحرية لم تكن يومًا بلا قيود، فإن الإبداع لم يكن يومًا بلا حلول، أما معايير نجاح موسم رمضان هذا العام فى تقديرى فتتلخص فى تنوع يصادف مختلف الأذواق، وطرح قضايا هامة شديدة المساس بواقع مجتمعنا، وتقنيات الكتابة والإخراج والتصوير، وتألق عدد كبير من النجوم على اختلاف أجيالهم ومساحات أدوارهم، والمكسب الكبير أتى واضحًا فى مجموعة من الشباب نجوم المستقبل.

ومن بين كل هذا الكم من المسلسلات، كنت حريصًا على مشاهدة مسلسل «حكيم باشا» تأليف محمد الشواف وإخراج أحمد خالد أمين وبطولة مصطفى شعبان وعدد كبير من النجوم، والمسلسل دراما صعيدية إن جاز التعبير، وهى تشغل مساحة كبيرة فى وجدان جيلى الخمسينى، ولعله الدافع الأكبر نحو ترقب المسلسل والحرص على مشاهدته، فقد كنا سعداء الحظ بمعاصرة دراما صعيدية تاريخية لا تُنسى، تصدرها فى التأليف والإخراج والتمثيل رواد كبار أسسوا معايير التقييم العصية داخلنا بخصوص هذه النوعية من الدراما، تناولوا فيها الصعيد الممتد جنوب مصر بكل خصوصياته وأعرافه وعاداته وتقاليده وقضاياه، وفى المقدمة منها الثأر وتحديات خروج الشخصية الصعيدية عن إطار صارم لا يُقر أو يعترف إلا بسواه، وقتها كان النص هو البطل، والمخرج هو سيد العمل الفنى، والتصوير لا يبدأ إلا بعد انتهاء الكتابة، والعرض لا يبدأ إلا بعد انتهاء التصوير، وهو ما جعل سيرة الدراما المصرية فى عصرها الذهبى هذا حاضرة حتى الآن بقوة الموهبة والاجتهاد والمهنية والصدق والتأثير. 

وقياسًا على هذه المعايير أرى أن صنّاع «حكيم باشا» أجادوا إلى حدٍ كبير، قضايا المسلسل مواكبة تمامًا لخلل القيم السائد على امتداد مجتمعنا فى السنوات الأخيرة، تجارة غير مشروعة فى عدة اتجاهات حققت أرباحًا طائلة، تأسست على السرقة والغدر والخيانة فكان لا بد وأن تتهاوى مهما تضخمت وسيطرت وسادت، كتابة محمد الشواف حية أجاد فيها رسم الشخصيات بكل تركيباتها المعقدة المنطقية، وعلى تعدد الشخصيات بملامحها الثرية لم يفقد استحواذه عليها فى أى وقت، خاصة وأن معظم مشاهد المسلسل جماعية، سيناريو محكم رشيق الإيقاع لا يصيبك بأى ملل، ويفاجئك بدوامات مستجدة من الحيرة والتشويق والتفكير كلما ظننت أنك أمسكت بأصل الحكاية وفصلها، وحواره مزيج من عذوبة الكتابة وقوة المضمون، الاجتهاد فيما وراء الكتابة واضح جدًا خاصة فيما يتصل بكل هذا الكم من الأمثال الشعبية ابنة بيئتها الصعيدية، والآتية على ألسنة الشخصيات على اختلاف أجيالها وملامحها ودوافعها.

يظل الحكم النهائى على السيناريو والحوار مهما كانت براعة المؤلف مُعلقًا إلى أن تراه أمامك حيًا من لحمٍ ودم على الشاشة، وهى مهمة المخرج وحده فى أى عمل فنى بكل تأكيد، وقد تفوق المخرج أحمد خالد أمين فى تشخيص السيناريو على الشاشة بدايةً من اختيار فريق العمل وتوزيع الأدوار وتحديد مواقع التصوير وديكوراتها، وقطعًا فى توجيه الممثلين جميعهم إلا قليلًا من المبالغات فى الأداء من البعض أحيانًا، وهو ما أخذته فى إطار حرص الممثل على إثبات وجوده وسط جمعٍ كبير من زملائه فى عمل أو مشهد واحد، أما مصطفى شعبان فقد أعاد اكتشاف نفسه فى دور حكيم باشا بكل تناقضاته، هو بالأساس موهوب ومجتهد وله حضور وطلة مبهجة على الشاشة، والكتابة والإخراج ساعداه على تجديد حضوره باختلاف وتميز فى تقديم شخصية لها رصيد كبير عند الجمهور ومقترن بأسماء كبار الممثلين فى تاريخنا.

كلما تعددت الشخصيات المؤثرة ارتقى العمل إلى مستوى البطولة الجماعية، وهو أحد أهم عوامل نجاح مسلسل «حكيم باشا» بكل تأكيد، وأخص بالذكر من نجوم العمل أحمد فؤاد سليم فى دور العم نوح أس البلاء القاطن فى صرحه المشيد أعلى جبل وسط صحراء جرداء، وفى المقابل أحمد صادق فى دور الأب رضوان بوابة الخير وطريق الهداية الزاهد فى دنياه قابع قانع يعمل لآخرته وسط حقول خضراء شاسعة على الأرض، وبينهما يعيش حكيم باشا صراعه مع نفسه قبل المحيطين به سواء كانوا قلة أسوياء أحرار أو غَلَبَة أشرار أسرى نفوسهم الخَرِبَة من نشأتها بأفعال كبارها، ومعهم يتألق كل هذا الكم من النجوم كلٌ فى دوره وعلى قدر مساحته، وتُغير من جلدها سهر الصايغ بحضور خاص فى أداء شخصية بنت العم كبيرة القصر برنسة، وقد زادت تترات وفواصل المسلسل بصوت طارق الشيخ كلمات هبة على وألحان خالد سلطان من واقعية أحداثه وصداها على المشاهد، وخاصة نغمات الربابة والمزمار كخلفية موسيقية فى معظم مشاهده.

مسلسل «حكيم باشا» صناعة مصرية خالصة، وهو مع غيره من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية فى رمضان هذا العام، يمنحنا أملًا فى استعادة الدراما المصرية لمكانتها الرفيعة شكلًا ومضمونًا، ولعل توجه الدولة المصرية فى هذا الاتجاه يأتى داعمًا لما طرحناه من ضرورة أن يكون الوعى هو الحل دون سطوة أو وصاية، واختيار الناقدة الكبيرة ماجدة موريس رئيسًا للجنة الدراما مُبشر جدًا وإن كان تشكيل اللجنة فى تقديرى يحتاج إعادة نظر.