الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إبداعات من البحيرة.. فضاء مفتوح للكتابة والإبداع

البحيرة
البحيرة

تعد محافظة البحيرة ثانى أكبر محافظات الجمهورية، من حيث المساحة بعد الوادى الجديد، هذا الاتساع المكانى كان له ما يوازيه من الناحية الإبداعية والعلمية، فالمحافظة التى أنجبت الإمام محمد عبده ود. أحمد زويل، وترجع لها جذور عميد الرواية العربية نجيب محفوظ وتحديدًا فى مدينة رشيد، هذه المحافظة قدمت للحركة الثقافية المصرية والعربية عشرات الأسماء المهمة فى الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والنقد على مدار أكثر من قرن من الزمان؛ بداية من الشاعر أحمد محرم؛ الصديق المقرب للزعيم مصطفى كامل، والشاعر الرائد على الجارم؛ أحد المؤسسين الكبار للمجمع اللغوى المصرى وصاحب المؤلفات الشهيرة، مرورًا برائد الرواية الرومانسية فى العالم العربى محمد عبدالحليم عبدالله؛ صاحب رواية «غصن الزيتون»، وأمين يوسف غراب، صاحب «شباب امرأة»، والشاعر فتحى سعيد، صاحب ديوان «مصر لم تنم» وأول رئيس تحرير لمجلة الشعر، التى يصدرها اتحاد الإذاعة والتليفزيون، والشاعر عبدالقادر حميدة؛ مدير تحرير «مجلة الدوحة»، التى أسسها مع صديقه الناقد الراحل رجاء النقاش.

وعلى مدار تاريخها الحديث كانت محافظة البحيرة ملتقى لأدباء مصر كلهم، ساعدها على ذلك وجود حركة أدبية مزدهرة بها منذ ثلاثينيات القرن الماضى، نظرًا لوجود «مقهى المسيرى» الذى كان المكان المفضل لجلوس توفيق الحكيم حين كان يعمل وكيلًا للنائب العام فى البحيرة، وكذلك الروائى خيرى شلبى، الذى عاش لسنوات فى دمنهور للعمل والدراسة؛ ومن أجوائها كتب روايته الشهيرة «وكالة عطية»، وكذلك كان القاص الرائد محمود تيمور يداوم على الجلوس فيها عند زيارته المدينة.

وينسب المقهى لعبدالمعطى المسيرى، المولود فى عام ١٩٠٩ بإحدى حارات دمنهور لأب متواضع الحال يملك مقهى صغيرًا، فاضطر إلى أن يعمل فى المقهى منذ الصغر، وقد نما وعيه من خلال عالم المقاهى الصاخب، حيث زخم مفردات الحياة، فالمقهى كان مصبًا لكل أنواع البشر باختلاف معتقداتهم وميولهم وانتماءاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتفتح وعى الصبى على حكايات الوطن والأحزاب والإنجليز والثورة وغيرها من الأشياء، التى أيقظت قيمة الانتماء بداخله، وقد كتب المسيرى القصة والنقد، فضلًا عن كتابه الأبرز (فى القهوة والأدب)؛ الذى قال عنه المفكر الكبير محمود أمين العالم: «صاحب المقهى الأديب عبدالمعطى المسيرى استطاع بكتابه (فى القهوة والأدب)؛ الصادر عام ١٩٣٦ أن ينتزع من رأسى فلسفة أفلاطون ومثالياته». 

وفى مقال نشر له فى ستينيات القرن الماضى قال الكاتب الصحفى رجب البنا: «عبدالمعطى المسيرى ينتمى إلى طائفة سقراط؛ فأعظم ما تركه ليس كتبه، ولكن عظمته تكمن فى أنه كان صاحب مدرسة فى دمنهور، فمقهاه- كانت حقيقة- مدرسة، وتلاميذ المسيرى اليوم فى كل مجلة وصحيفة، وفى الإذاعة والتليفزيون». وفى مقال له بجريدة «وطنى» نشر فى يوليو ١٩٦١، قال الروائى أمين يوسف غراب إن «رصيف مقهى المسيرى كان ملجأ الأدباء والكتاب، كان البوتقة التى صهرت عقلى ووجدانى وتفكيرى وشعورى بفضل جماعة الأدباء والكتاب هناك». كما ذكر يحيى حقى مقهى المسيرى فى المقالة الافتتاحية لمجلة «المجلة» عقب توليه رئاسة تحريرها فى مايو ١٩٦٢؛ قال «إن ذلك المثقف أو الأديب الذى يفكر فى زيارة مدينة دمنهور- مدينة التاريخ القديم- والتجار الشطار لكى يتعرف إلى صور الحياة وعادات الناس هنا، لا بد أن يجلس على رصيف مقهى المسيرى، الذى يمثل ظاهرة مهمة عند أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين». 

التفاعل بين رواد المقهى بدأ من خلال إهداء الكتب أو الشراء أو الاستعارة، وبدأ أعلام الفكر المصرى يتوافدون على المقهى، ومنهم يحيى حقى، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم ومصطفى صادق الرافعى، وزكى مبارك ومحمد حسن الشجاعى وغيرهم، ومن أهم الأشياء التى جعلت «المسيرى» يهتم بالأدب تلك الطقوس التى كان يقوم بها الشاعر أحمد محرم فى ركنه الخاص بالمقهى؛ حيث يكتب ويعد مادة الجريدة التى كان يصدرها- فى ذلك الوقت- فكان المسيرى يعتمد تجهيز المكان بنفسه للشاعر الكبير ويظل قريبًا منه. وقد اختار المسيرى المكان المجاور للنصبة وخصصه للكتب والمجلات والجرائد.

وحول علاقة الأدباء بالمقهى يقول الروائى الكبير خيرى شلبى: «أذكر أننى قرأت فى مقهى المسيرى أول مرة تحقيقًا أدبيًا كتبه القاص محمد صدقى فى أوائل الخمسينيات بعنوان أدباء على رصيف المقهى، وكنت فى وقت الإجازة الصيفية فى قريتى، وكنت قد سمعت نبأ المقهى قبل ذلك بقليل من خلال أستاذين لى فى معهد المعلمين، كلاهما من مدينة دمنهور نفسها، وهما الأستاذ الأنصارى محمد إبراهيم- مدرس اللغة العربية- الذى كان مفتونًا بالأدب القصصى، فيتوهج وهو يشرح لنا رائعة محمود تيمور «أبوالهول يطير»، التى كانت مقررة علينا، وكان ينتهز الفرصة- دائمًا- ليحدثنا عن أدباء دمنهور والبحيرة بشكل عام، وعن مقهى المسيرى بشكل خاص، التى رفع أدباؤها شأن دمنهور، فلما قرأت تحقيق الأديب محمد صدقى بهرنى وقررت أن أكون من رواد المقهى، فذهبت بالفعل وقدمت نفسى للأستاذ عبدالمعطى المسيرى، الذى استقبلنى بحفاوة كبيرة جدًا، وأوسع مكانًا لى بجواره، وراح يسألنى بعض الأسئلة عن هوايتى ودراستى وعن آخر كتاب قرأته ورأيى فيه وعن كُتابى المفضلين، ولماذا عشقت فن القصة بالذات، وأذكر أننى لم أتلعثم فى الإجابة عليه؛ لأنه شجعنى بحب شديد وأعطانى الألفة والحميمية؛ فأزال الغربة عنى فى الدقائق الأولى فكأنى أعرفه منذ سنوات بعيدة». 

ويضيف خيرى شلبى: «ولما عرف الأستاذ اسم بلدتى البعيدة التابعة لمحافظة أخرى نظر فى زهو كبير، وقال: (المقهى وصل صيتها إلى بلدتكم، إننى والله مسرور بانضمامك إلى رواد المقهى).. وقد تعمقت صلتى بالأستاذ وبالمقهى فعرفت فيها أبًا ومعلمًا وفيلسوفًا ترتاح له النفس وتطمئن، وعرفت فى المقهى بيتًا رحيبًا آمنًا يحتضن أحلامنا وينميها ويحولها إلى حقائق». 

كان عبدالمعطى المسيرى أبًا لكل الأدباء الذين ارتادوا مقهاه، وقاد حركة الوصل بين الأعضاء بعضهم البعض، وكان ينزعج جدًا إذا اكتشف أنه نسى أن يعرف أحدًا بأحد وكأنه ارتكب جرمًا عظيمًا، فكان بأخلاق الفرسان يسرع فى الحال بالاعتذار فى رقة شديدة، ثم يلخص شخصية كل أديب للآخر تلخيصًا دقيقًا فيه ما يحب الواحد أن يعرفه عن الآخر، وإذا ترك أحد الأدباء كتابًا لصديقه فإن المسيرى كان يوصله إليه بود بالغ.

ومن مظاهر أبوته الفياضة أنه كان يتابع أخبار الشباب المبدع باهتمام يفوق اهتمامه بأى شىء آخر فى حياته، فكان أسعد خبر يمكن أن يتلقاه فى حياته هو ما اختص بنشاط الشبان، فإذا ما نشرت مجلة ما تحقيقًا حول الزجال «حامد الأطمس» تراه يطير فرحًا، وإذا استمع إلى قصيدة نشرتها الجمهورية للشاعر فتحى سعيد يقول: «ما أعظم هذه الجريدة التى تهتم بأدب الشباب، وإذا استمع إلى أغنية للشاعر سعيد أبوالنصر فى إجازته الإذاعية تراه يدعو الله للشاعر «أن يفك نحسه ويأخذ بيده»، وإذا نما إلى علمه أن القاص «رجب البنا»، والذى كان طالبًا- وقتها- فى كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، قد كتب قصة جديدة بادر المسيرى بإقامة ندوة يحضرها جميع الأدباء لمناقشتها. 

وكان عبدالمعطى المسيرى محامى المواهب الفنية والأدبية فى الأقاليم، قبل أن يعرف «مؤتمر أدباء الأقاليم» وقد رتب للمؤتمر الأول لأدباء الأقاليم بدمنهور برئاسة يحيى حقى عام ١٩٥٨، وهو المؤتمر الذى يحمل حاليًا اسم «المؤتمر العام لأدباء مصر»، وللمسيرى مقال نُشر فى الخمسينيات فى جريدة «المساء» بعنوان «الميثاق والثقافة فى الريف» ناقش فيه دور المثقف والفنان الريفى، وتساءل خلاله عن متى تكون عاصمة كل إقليم قاهرة كبرى؟

وفى ظل اهتمام المسيرى بالأدب والأدباء فى دمنهور استطاعت «جمعية الأدباء»، التى كان يرأسها أن تلفت الأنظار بشبابها المبدعين الجدد- فى ذلك الوقت- وأن تقيم الندوات والأمسيات فى القاهرة والأقاليم المختلفة، كذلك كان معظم أدباء القاهرة الكبار يقومون بزيارات متكررة للمقهى، فتقام لهم الندوات والأمسيات.. وظلت «جمعية أدباء دمنهور» تقوم بدورها الرائد فى تشكيل الوعى الثقافى لأدباء المحافظة وما جاورها من محافظات حتى سافر عبدالمعطى المسيرى إلى القاهرة للإقامة فيها حيث عمل موظفا بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وظل يعمل هناك حتى وفاته فى «٢٩ سبتمبر ١٩٧١». 

وتواصلت الحركة الأدبية فى البحيرة، وبرز من جيل السبعينيات مبدعون كان لهم أثر واضح فى الحركة الأدبية المصرية، ومنهم الشعراء «صلاح اللقانى، وصلاح غانم، ومحمد عسكر»، ومن كتاب القصة والروائيين «سعد مكاوى، وإبراهيم العشرى، وعبداللطيف أبوخزيمة»، وفى النقد «السيد إمام، ود. فوزى عيسى». 

ومن جيل الثمانينيات برزت أسماء الشعراء «أحمد شلبى، وكمال عبدالرحمن، وماهر حسن، وأحمد الجندى وأيمن متولى»، وكتاب قصة وروائيون، منهم «رابح بدير، ومحمد رجب عباس، ومحمد اللبودى، وحسن علبة، ورضا إمام». 

وفى التسعينيات ظهرت مجموعة من الأسماء ما زالت تقدم تجارب مغايرة، مثل «طارق إمام، وعيد عبدالحليم، وناصر دويدار، ومحمد خميس، وسعيد عبدالمقصود، وأحمد صلاح كامل، وعبدالمنعم العقبى، وانتصار عبدالمنعم، وبهجت صميدة، وعمرو الشيخ، وكرم الصباغ، وأحمد الخدرجى». ومن الجيل الأحدث القاص عمرو الردينى، والشعراء «هانى قدرى، وعمر مكرم، ومحمد الحناطى، ومحمد القلينى» وغيرهم. لتظل البحيرة فضاءً مفتوحًا للكتابة والإبداع.

لقراءات إبداعات البحيرة كاملة 

مجدى المناديلى يكتب: فض اشتباك بين العصافير والشجر

عمرو الردينى يكتب: مصنعُ الطرشان

محمد خميس يكتب: روح الوقت

أحمد شلبى يكتب: دهشة

محمد محمد السنباطى يكتب: الأسئلة المتربصة بى

بهجت صميدة يكتب: وانشق القلب

محمد الحدينى يكتب: قصتان

عماد عامر يكتب: ناس عصافير

أشرف قاسم يكتب: مواقيت للعشق والحياة

سعيد عبدالمقصود يكتب: للمزِّيكا سِكِّتها