الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

السعدني.. المفترَى عليه بالهرتلة والتلفيق والأكاذيب

السعدنى
السعدنى

فوجئت، كما فوجئ غيرى، من محبى «السعدنى» ومَن يقدرونه ويحترمونه بمن كتب ويدّعى بهتانًا أن السعدنى ولا حاجة! وكأنه لم يكن كاتبًا ساخرًا وممتعًا فى كتاباته وتجلياته التى كانت ترسم البسمة وتثير الضحكات والقهقهات لسخرية حروف ما يكتب وانتقاده وبحرفنة أى مسئول.. ولم يكن بالكاتب الحشاش أو المسطول كما ادّعى من كتب وهرتل وظن أنه الناقد وتأكد أنه الحاقد!

ويدّعى هذا الحاقد أنه أثار معركة أدبية لأنه كشف وعرّى السعدنى على حقيقته، التى استطاع أن يخدع بها القراء من تأليفه وفبركته الحواديت والحكايات، ولذلك هو كاتب ليست له القيمة والمكانة، وود هذا الذى لا يعى أن يقول عن السعدنى بأنه الكاتب الساخر الأفاق!

ومن الطبيعى أو المألوف أن تجد شخصًا بلا وزن يكتب ويظن أنه ناقد حصيف ولم يسبق له الجلوس ولو على حافة أى رصيف فيتمادى فى غيه ويتطاول على القامات وكأنه يمارس لعبة التلات ورقات! وهكذا وجدنا من يكتب على صفحات «الدستور» الثقافى مقالة سخيفة وغير موزونة على الإطلاق ويا ليتها كانت نقدًا لأنه لا أحد فوق النقد وكلنا يخطئ ويصيب، ولكن أن تجد مَن يخيب فهذا ما يحزنك وقد يغضبك.. والذى كتب الكلام الجارح عن السعدنى ووصمه بأنه الحشاش وكان يتعاطى الأفيون نسى أن يضيف أنه كان القواد أو القمرتى والنسوانجى!

وقد عاتبت صديقى الدكتور «محمد الباز» على ما نشر على صفحات «الدستور» وأعلم أنه يرحب بالرأى والرأى الآخر ولو كان سعار الخلاف ناريًا ومشتعلًا لتظهر الحقائق ودون رتوش.. ولكن ما كُتب ضد السعدنى لم نألفه، وظننت أن من كتب بالفعل من سكان حارة «سكسكة» بالجيزة وكانت فتواية وخلدها «السعدنى» فى العديد من مقالاته وكتاباته ومن خلال سخريته اللاذعة ولو طالت بعض كبار المسئولين!. ولا أنسى على الإطلاق يوم أن كتب الدكتور «محمد الباز» فى ملحق أصدرته «صوت الأمة» عن «السعدنى» وحده، وشارك وقتها العديد من الصحفيين والكتاب بالمقالات الرائعة عن السعدنى، وكان من حظى أن يكون حوارى معه على أربع من الصفحات وتم «تطعيم» الملحق بصور السعدنى النادرة من أرشيفى وتصويرى.. وفى هذا العدد كتب «الباز» مقالة مطولة وعلى صفحة كاملة واتخذ عنوانًا وهو الحمقرى! لم يقصد الدكتور الباز أن السعدنى اعترف بأنه «حمار» كما فهم الجاهل الذى كتب ضده بل استعرض الباز حدوتة عن السعدنى وقص حكاية صديقه الدمياطى «أكرم»، والذى أهداه السعدنى كتبه وسطر عليها توقيعه، بل تساءل الباز: مين السعدنى ده؟! وسرد بأنه ولأول مرة عرف السعدنى من أوراق مجلة «المصور» وكان السعدنى بطلًا لرسم كاريكاتيرى يهبط فيه على الأرض بباراشوت قائلًا: يا ناس يا عسل السعدنى وصل، «وكان ذلك فى بداية الثمانينيات ولم أكن أعرفه ولا من أين وصل ولا لماذا يحتفل بهذه الطريقة الهزلية لرجوعه إلى مصر».. ويقول الدكتور «الباز» بأنه بحث بعد ذلك عن كل ما كتبه «السعدنى» وتابع مقالاته بدأب وكان يفتش فى كل ما يكتبه عن السر فى قدرته على السخرية من أى شىء وكل شىء.. واستقر رأى «الباز» بأن «السعدنى» كاتب مصرى ابن بلد ويعرفه الحاكم ولكن لا يصادقه، ويدخل أفخم الأماكن وأرقاها لكنه يحن دائمًا إلى الحارة وجلسات قهوة «عبدالله» فى الجيزة ويعشق البسطاء ويصادقهم ولا يجد نفسه إلا عندما يكتب عنهم وعن مشاكلهم.

كان هذا هو الرأى الواعى والمستنير لـ«محمد الباز» عن السعدنى.. بل عاد «الباز» وأشاد به وظهر ذلك واضحًا فى مقدمة كتابه الرائع «مصر من تانى»، وفى هذا الكتاب ظهرت شخصية المؤرخ وجلس إلى مكتبه ليكتب تاريخ مصر.. وعليه هل لو كان «حشاشًا» كما ادّعى من كتب ضده، وبالطبع لن أذكر اسمه لربما يظن أنه الناقد الراحل الدكتور مندور ونتركه ليلف ويدور، فهل الحشاش المسطول يستطيع أن يكتب وهو مسطول أيها السادة؟ والسعدنى كاتب بلا مكياج ولا محاولة تجميل يضع عينيه على الفقراء والبسطاء حتى لو أغضب السلطة بقوتها وعنفها وغشمها.. وما يجذبك إلى ما يكتبه «السعدنى» ويجعلك تهتم به وتصدقه أنه قدم نفسه من خلال كتاباته على حقيقتها.. حكى عن مشوار حياته بإحباطاته وانكساراته وتحدث عن فقره ودون أن يخجل، وسرد مغامراته فى الصياعة والتشرد دون خوف من أن تهتز صورته.. بل أنه جعل نفسه فى كثير من كتاباته هدفًا لسخريته اللاذعة.. فهو ليس كاتبًا متعاليًا بل هو كما قال «حمقرى»، وهى صفة تستطيع أن تجدها عند جميع المصريين على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، فكل منا نصف حمار ونصف عبقرى وتسير الحياة بنا وفق النصف الذى يتغلب فى النهاية.

لقد كان أمام السعدنى أكثر من فرصة خلال عمره الطويل لأن يصبح من الأثرياء، فقد صادق رؤساء دول ووزراء لهم كلمة فى الدولة، ورجال أعمال كانوا يتمنون له الرضا لكى يرضى، لكنه ظل حتى النهاية كاتبًا لا يعرف سوى الكتابة مهنةً وهدفًا ورسالة.. وقد ارتضى بما تدره عليه الكتابة من دخل وسمعة طيبة يعرفه الناس بها ورفع شعارًا فى حياته ولم يتنازل عنه وهو: لا تكن إمعة أو بردعة ولا صاحب منفعة! وهذه الأخيرة تمسك «السعدنى» بقوة وقبض عليها كالقابض على الجمر.. فلم يكن فى يوم من الأيام صاحب منفعة ولذلك صدّقه الناس.

وعمنا الراحل «محمود السعدنى» هو من سبق ونام على أرصفة الشوارع وعلى «برش» السجن الخشن، ونام فى أعظم وأفخم فنادق الكون ودخل السجون فى عهد الملك فاروق ثم خرج من السجن أقوى مما دخله، وحدث نفس الشىء فى عهد عبدالناصر وتكررت المأساة فى عهد الرئيس السادات ولم يدخل السجن فى عهد الرئيس مبارك، ومن خلال حواراتى وجلساتى معه، والتى كانت تطول، أبلغنى بأن حياته عاشها مثل «اليويو» وحبة فوق وحبة تحت، وأنا مش عارف إيه إللى بيحصل فى مصر بالضبط.. وكان يقص لى القصص والحواديت ويحكى عن أدق التفاصيل وعن الشخوص التى يتحدث عنها ويتقمصها حتى فى طريقة إشاراتها ونطقها.. وفى جلساته كان يطوف بها العقل وكأنها مشاهد متتابعة لسيناريو رائع بمشاهده ولقطاته وحواراته، ومن يستمع لـ«السعدنى» يا سادة لا يستطيع أن يقاطعه لجاذبية وحلاوة وسخرية كلماته الواعية والناقدة، ورغم ذلك فهو شديد الطيبة ومنبع حنان متدفق ووافر الكرم، وهو «حاتم الطائى» فى شارع الصحافة والأدب وحتى فى حياته اليومية.. ورغم ذلك فهو شديد العصبية ويصل فى حبه وإخلاصه لأصدقائه إلى أقصى مدى، وقد لمست وعايشت ذلك بنفسى وأقسم بالله على ذلك ولو أقسمت بيمين الطلاق! وقائمة أحبائه وأصدقائه لا حصر لها، فهى عديدة ومتنوعة ولا يضمر حقدًا لأحد، وكان لا يتحرج من استقباله المساجين الذى صادقهم فى سجنه، وأذكر والله أنه استقبل أحدًا منهم فى خيمته بنادى الصحفيين وكان الكبار من مسئولى الدولة متواجدين وكان على رأسهم الوزراء، وكان من الحضور الوزيران حسن أبوباشا واللواء عبدالحليم موسى، وزيرا الداخلية السابقان.

والرجولة تتأصل فى وجدان السعدنى ولم يكن بالخسيس أو اللقيط أو الزنديق كالبعض، ولكن كان الكاتب والأديب والحصيف ولم يكن بالسخيف.. «والسعدنى» هو من سبق وكتب عنه الراحل الأديب الأدباتى والناقد «خيرى شلبى»، كم فى حياتنا من أناس يشبهون شجرة الصبار ينتحلون أخلاقياتها أو ربما كانوا من أبنائها الذين تشربوا خصالها باعتبارها الجين الأم لكل جينات الوراثة فى الكون، ولهذا فهى أشد الكائنات قدرة على الاستغناء، وأننا نجد من البشر الأصحاء كثيرين ممن نعرفهم أو لا نعرفهم فى جميع مجالات الحياة وبين العامة من أولاد البلد والفلاحين والعمال والصنايعية ويعيشون حياة غاية فى الصعوبة ومستحيلة على غيرهم عند الزنقة ولا يتدنون، بل إن عزة نفوسهم تمنح وجودهم نضارة أصدق وأعمق وأبهج ممن هم فى رغد العيش.

«إنهم كثر فى حياتى» هكذا يقول ويكتب «خيرى شلبى»، ومؤكدًا أن عمدتهم جميعًا أخى وصديقى ورائدى الكاتب الكبير والفنان المطبوع «محمود السعدنى».. وتلك شهادة من كاتب وأديب كبير اسمه «خيرى شلبى»، وليست شهادة من فرفور أو واحد صعلوك أو كاتب أو أديب مهزوز أو من متسلق أو متطفل ساحة الأدب.. وللحديث عن «السعدنى» بقية أسرد فيها الكثير لو كان فى العمر بقية، لأن عمرى شارف على الـ٧١ عامًا وعايشت الزمن الجميل زمن «محمود السعدنى» الولد الشقى.