يا عندليب ما تخافش من غنوتك.. إبداعات الجامعات (6)

يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واِحكى على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك.. إنما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك!
فليسمح لنا صلاح جاهين بأن نستعير رباعيته الخالدة، ونحن نعود فى الزمن إلى أيامه، حين كانت الصحف قبلة المُبدعين، خاصة طلاب الجامعات، والدارسين فى مراحلها المتقدمة من ماجستير وغيره، الموهوبين فى كتابة الشعر والقصة والمسرح، والقادرين على سرقة الضحكة من فم الحزن بالكتابة الساخرة، وأيضًا أولئك الذين لديهم قدرة على نفخ الروح فى لوحة خشبية صماء، فتدب الحياة فى أوصالها لوحة تشكيلية أو رسم كاريكاتيرى يسحر الألباب والعقول.
جامعاتنا مليئة بالمواهب الإبداعية فى كل المجالات تقريبًا، من دون أى شك، لكنها فى نفس الوقت تعانى غياب ذلك «الصائغ»، الذى اعتدنا على وجوده فى مؤسساتنا الصحفية، بأنامله الخبيرة التى يمكنها إزاحة التراب عن لآلئ هذه الجامعات، من إبداعات تبحث عن فرصة للظهور، وأسماء لا نريد أن «يقتلها» التجاهل ويوقف مسيرتها، من قبل أن تبدأ.
فى هذه الزاوية من «حرف»، نمد يدنا إلى كل موهوب فى جامعات مصر، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، ننشر لهم إبداعاتهم فى الشعر والقصة والكتابة الساخرة، إلى جانب الفن التشكيلى والكاريكاتير، مُرددين ما قاله صلاح جاهين قبل سنوات طويلة: «يا عندليب ما تخافش من غنوتك».
ريم محمد من جامعة القاهرة تكتب:موت الصبابة

فى أرضٍ واسعة فيها شجر كثير متكاثف، يعيش ليث ذو مهابة يدعى «جبران». كان ذائع الذكر لدى القبائل المحيطة، خفيف الحركة، قوى البنية، جريئًا، رابط الجأش وثابت القلب، لا يستخفُّه الفَزَع ولا يهزه الخوف.
لذا ما لبث الليث- بطبيعة الحال- حاكمًا متباهيًا بحكمه ذا مخلبٍ حديدى، ولذلك أكبره الجميع وأجلَّه.
وكانت هنالك- على الجهة المقابلة- ظبية تدعى «إيزيس كوبيا»، بيد أنها لم تمس كأى ظبية رآها من قبل؛ إذ هى ذات دِعَة وحِلم، تتصف بطول قوام رفيع مع دِقَّة فى الخصر، وخِفَّة فى الحركة ومَظهر رِقَّة وحُسْن، حتى لو ألهمه الله لقال:
إِنَّ العُيونَ الَّتى فى طَرفِها حَوَرٌ .. قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ .. وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا
بينما خافت «إيزيس» ساعة رؤياه، لعلمها نقض الليوث عهودهم ومواثقهم، فمن- بربك- يُضمّد فى آخر الصّيد جُرح الغَزَال؟!
على أنهما كانا على أطراف القدر، وللقدر رأى آخر!
وجد «جبران» نفسه مُتيمًا بها، راغبًا فى رؤياها والتودد إليها، من ثم أمست هى الأخرى- على استحياء بالغ منها- تقتفى أثره وموضع ممشاه...
نمى حبهما معاكسًا فطرتهما التى خُلِقا عليها..
كان يأتى لها بطعامها ويحميها مِن كلِّ مَن يريد بها سوءًا؛ فما انفكّت ظبيًا يحتمى بظلِّ قَسْوَرَة!
غدت «إيزيس»- بدَوْرِها- تجاذبه أطراف الحديث، مغتبطة بجميل رواياته التى يقصها عليها.
مع مرور الوقت، أدرك «جبران» كنه شعوره نحوها، أدرك خفق قلبه وما عادته الخفق!
عَلِم أن ذلك ليس بسديد، أنه خاطئ ومحرّم عليهما. إذ الليث والظبى لا يصح اجتماعهما فى خير؛ ثانيهما مغنم والأول غانم. ناهيك عن أن يصبحا حبيبين!
على أنه مُحِبّ قليل الحيلة أمام حبه، وكذا شأن الفرسان، شجعان فى ميادين الحرب، مستكينين فى ميادين الحُبّ!
كانا يلتقيان سِرًا بعيدًا عن أعين الوشاة، يبث كلٌّ لإلفه ما يلاقيه حديثًا طويلًا بغير شعور لوقت. ينشدها الأشعار ويتغنّى بها.
لكن حبهما لم يقبله قومهما.. حتى لَإنك لَيتخيّل لك أن لو كان لهم أمير للمؤمنين لشكوا «جبران» إليه فأراق دمه!
أى لعمرى!
شَتّ الدهر بينهما، فُرِّقت سبلهما، فُطِر قلبيهما... فقضت نحبها «إيزيس» وجدًا وصبابة، ثم تلاها «جبران» لوعة وأسى!
وكم منّا من «إيزيس» و«جبران»!
لوحة لـ فرحة خالد من جامعة الأقصر

حمدين دردرة من جامعة كفرالشيخ يكتب: كان يفتح باب الجنة ويدخَّل خلق الله بغير حساب

عم جمال
والاسم بيطبَع ع الصورة
وبيرسم على وشُّه التفاصيل
للضحكة عشان تحيى المخاليق
كان يصحى الصبح يصحّى الشمس
ويعدى عليا فـ أحس نسيم الفجرية
فى عيونُه السعى يبان للكُل
والحُزن يا دوب صفر المِيّة
وفى وقت أمّا يشوفنى بيرمى
على قلبى سلام فـ بيوصلى
وكإن سلامُه بـ إيد قلبُه
مش من إيدُه
وكإن المشهد فيه فلاش باك
وحنين يوميًا.. فـ بأعيدُه
كان يفتح باب الجنة الصبح
ويدخَّل خلق الله تِمًا وبِغَيْر حِساب
وساعتها بندُخل ونلاقى
فيه كراسى بتندَه أصحابها
وكيبورد وشاشة ف عينهُم حُزن
بيروح مع أول لمسة إيد
وكإن الوِحدة صيام طايل
ودخولنا عليهم فرحة عيد
فى الوقت إيَّاه كان عم جمال
مالِك للدُنيا بحذافيرها
من كُتر الأُنس اللى عملناه
لكن دلوقت مايملُكشى
غير بس
كيبورد وشاشة وكام كرسى!
والدنيا اللى ضحكلها يامَه
جت لحظة وضحكت هى عليه
وخَلَفت فى وعودها الزايفة معاه
وعينيه اللى ماحلتوش غيرها
طمعت وخدتها كمان منُّه
وأهو من يومها
الشمس بَقت تصحى بكيفها
ونسيم الفَجر ما عاد بيكون
وأنا من رأيى
أسوء إحساس ممكن عاشُه
كان عايش بيأمِّن فى الخلق والصحة تخون!
عمل فني لـ عمر رجب من جامعة الأقصر


بجاد عبدالرحيم من جامعة القاهرة يكتب: أنا اللى ضاع عمرى فِـ تسطير الورق

زى شايب
عاش بيتسرسب ما بين
برد الإيدين والمطر
وإن كان طبيعى ومحتمل
إن الكفوف ترفض وجوده فـ حضنها
نِيّة فراقه من الجميع واضحة
والعيال فِـ عينيها فرحة الانتصار
أو الانتظار
لمَّا يغيب من حظهم
زى أمَّا شجرة تضلهم
وتضلهم من غير سبب
أنا اللى ضاع عمرى فِـ تسطير الورق
مسجون ما بين سطرين رصاص باهتين
غرقان ما بين الفصلة والفصلة
وبواجه التيار بدون دفَّة
ساعة ما يبقى النط م المركب
أقرب لطوق النجاة من الليالى الكحل
يوم أمَّا أحط النقطة وأبدأ قصتى
م الجِلدة للجَلدة
يا بحر..
مين قالك..
إن اللى مات غرقان
قدره يكمل تيه
فِـ غياهب النسيان؟!
ومنين رصيد الملح فِـ الرئتين..
عدَّى المدى المطلوب بعُمر ونص؟!
علشان كده
لمَّا الشتا بيجى
بجرى وأخبى الروح فِـ حضن إسكندرية
تروى جلدى بعض زخات الشتا
يمكن ألاقى فِـ جسمى تأشيرة
علشان أروح تانى
ألمس فِـ عتبات الفراق
يمكن تحن فِـ مرة.. وتفارق
زى السمك
لو خطَّى ع الأرض الزكية
يموت غَرَق!
وعشان كده برضو
لما بشوف الشايب الحاير
فِـ دنيا كوتشينته
بختاره بإرادتى
مش عطف ولا شفقة
يمكن عشان شبهى
أو يشبه الجوابات من أب لعياله
والحُكم أرحم لى
من إنى أشوفه بيضرب الكفين
ويحس تأنيب الضمير
كل أمَّا أشوف صورته
فبقول لكل اللاعبين تِمًا
خِفوا إيديكم عند آخر حُكم
أحسن ما تصحوا فِـ ليلة
متلاقوهوش
كل اللى ناسى طريق سفر
يفتكره من شكل الوشوش!
دعاء خطرى من جامعة القاهرة تكتب: عصفوران على غصن شجرة توت

فى الثامن والعشرين من مارس فى العام الماضى، وبكل روح الشباب التى بداخلى، بهذه الروح المفعمة بالحياة، التى يظنُّ أصدقائى أنها لدى، وأظن أنا كذلك، لم أستطع أن أتخطى حدود مدينتى يومًا.
فى الليل، أريد أن أسافر وأرى العالم، أحلم بالأشياء التى أريدها، وأكتبها بين دفات كُتّبى، لأنه كما يقال: «الحلمُ الذى لا يُكتب هو مجرد أمنية»، وتختفى الشمس، ولا أستطيع ترك سريرى.
إن الليل بالنسبة لى هو منبع الأحلام والحياة، أحب ضوء الشمس، وألوان الأزهار المختلفة على الأشجار، لكننى ما زلت أبحث منذ سنوات عن أسبابٍ للاستيقاظ، الأشياء الحقيقية التى تدفع المرء منا للذهاب للعمل أو الجامعة، للاختبار، وحتى الزواج.
هل يعرف كل هؤلاء السبب الذى يدفعهم للعيش؟ المحرك الذى يجعلهم يضغطونَ زر المُنَبِّه فى الصباح، ويجرى كلُّ منهم للَّهْثِ خلف الحياة المريرة، ولم أستطع الحصول على إجابات لأسئلتى التى تأكل فى عقلى عند كل مساء.
عشتُ حياتى كلها كفترات، تارةً أفقدُ الأمل فى الحياة والبشر، وتارةً أخرى أمشى أغنى، فى الطرق والحاراتِ وأمام الناس والعالم، أحادث السماء والعصافير فى الطريق، حتى المكتب الذى أجلس بجواره لم يسلمْ من مُحادثاتى، وأنظرُ إلى السماءِ وأبتسم دون أسبابٍ واضحة، ولكنى أحبُّها هكذا.
فى المدينةِ التى أقطن بها هنا فى القاهرة، تمشيت بضعة أمتار اليوم، رأيت السماء التى أهوى، ووقعتْ عينى على شجرة نخيلٍ وحيدة، تقفُ شامخةً وسط ناطحات السحاب، وقفتُ جوارها لا أقوى على الحراك، وأنا أتذكرُ أيام الصبا، وأشجار التُّوت الأبيض فى مسقط رأسى.
هناك، حيثُ كنا نتسابق أنا وأخى فى التسلق، ومَن منا سيحصلُ على القدر الأكبر من التوتِ اللذيذ، وقد حاولتُ مراتٍ عدة تسلق شجرة التوتِ تلك، كل مرة... كل مرة كنتُ أحاول تسلق فرعٍ جديد، أخاف السقوط، أخاف الارتطام بالأرض والموت، لكن الرغبة فى الحياة وقتها، والحصول على الشىء اللذيذ فى النهاية كانت أكبر من جميع مخاوفى. كنتُ أحاول بكل طفولتى أن أصل إلى الفرع الذى يجلس عليه أخى، ولم أفكر قط فى فارق العمر بيننا وأنا ذات التسعِ سنوات، كانت لدىّ رغبة فى جوفى، وحلم لا يتردد، ولا يقف طويلًا ليفكر.
ظلُّ هذا الوقت الذى قضيتُه وأنا صغيرة فى الريف لا يتزحزحُ عن مخيلتى، الريف الحقيقى:
وأنا أركب الحمار عند كل عشاء، وأصطاد الأسماك و«الأستاكوز» فى الصباح، هذا الوقت هو المفضل لدى من الحياة.
ربما أحبُّ الأطفال لهذا السبب أيضًا، لأنهم يذكروننى بنفسى.
أو لأنّ ما من أحدٍ منَّا لا يشتاقُ إلى طُفُولته، الفترة التى ينبغى أن تكون رقيقةً فى ذهن كلِّ منا، أشتاقُ إلى تلك الطفلة الحرة، التى تلعبُ فى الشوارع ليلًا نهارًا، بلا مسئولياتٍ للحياة.
ربما أشتاقُ إليها، لأننى أدركُ أنها لا تعودُ مجددًا ولن تعود.
ليستْ حدودُ مدينتى وحدَها التى لم أتخطاها، لكن حدود نفسى أيضًا، وأنْ أغيَّرَ شيئًا حقيقيًا داخلى.
وصلتُ أوَّل الشارع الآن، وأمامى مكتبةٌ ضخمة، أقفُ أمامَها مندهشةً من نفسى؛ أنا هنا منذُ شهور، ولم أسمح لنفسى بالخروج إلى أول الشارع!
لا أعرفُ أبدًا متى سأكتبُ أننى قد تخطيتُ حدود غرفتى وحدود نفسى؟