الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حسين دعسة يكتب: كنت أرى ولم أفقد صوتى

حرف

- القصر السرى احتوانى وأخذت كل الوقت فى البكاء

- أتوقف كثيرًا عند صوت هيام حموى فى إذاعة مونت كارلو

 

.. لم تكن مجرد حصاة محدبة، اهتزت اللحظة، غبت عن الوعى.

.. لم أتيقن من الذى يصرخ، يصمت؛ إلى أن يعاود الثرثرة والصراخ.

رأسى، إذا كان هو ما أعرف تفاصيله، انفجر، أتابع لملمة شظايا الرأس الذى سقط.

هناك، من يثرثر ثم يصرخ، ما زلت فى غيبوبتى، أرشح تعب السقوط.

قبل اعتراض الحصاة طريقى، أرجو أن أكون أنا من حاول سحق حصاة على رصيف الشاطئ، التقرير ذكر أن السبب سقوط تداعيات موجة غادرة من صوب البحر، ضربت الرصيف على حين غفلة.

أحمل صحيفة ورقية، ونوعية رخيصة من السجائر، زجاجة مياه معدنية، كل هذا كان فى يدى.

.. وكنت أحمل رأسى، ورأيت قبل السقوط، أن ثقوبًا سرية فتحت وانهارت الأشياء على الرصيف، الموجة صديقتى، حملت حصوات محدبة، ما إن نزلت من رأسى، حتى أهدرت توازنى، غاب الأفق ساعة مغيب شمس شاطئ كامب شيزار.

.. طرقات تفجر مخاوف الوعى، الطبيب يعلن عن أن ثقوب رأسى سليمة، وهى بحاجة إلى الابتعاد عن الثرثرة.

عن أى ثرثرة، قلت فى لحظة صحو، إنهم ينتظروننى، لكى نبدأ الرقص من جديد.

تحسست الشواهد من الموسيقى الفيروزية، مقاطع هزيلة غير متماسكة، وصخب عشاق الشاطئ، وكلام أخير عن السياسة التى أصابت صاحب ذى الرأس المثقوب، الذى غاب طويلًا بعد أن داس على عنق حصاة.

.. أدركت أن الطريق لم يكن لى!

هو طريق صديقتى الموجة، التى تتسلل من عمق البحر، تنسل مثل خيط حرير، تشاغب إلى جوار مصدات الموج الحجرية، تتوقف، لا تتجاوز عشب الحجارة النابت فى مواسم هجرة الطيور.

سألنى صديقى العجوز:

- هل رأيت الحصاة؟ 

- قلت إنى شممت رائحة الموجة، وانقلبت، تحسست الصمت وغبت عن الوعى، أكان ذلك من الحصاة التى حملتها الموجة؟

.. أحسست بالجو الكاتم، أين أنا؟ غبش أصاب مشاعرى، قبل أن اكتشف أن عيونى تعيش فى وهم الرؤية، كأنها نائمة بعد حرث فى مقلة العين التى تتنفس الحرير. 

- سيكون عليك أن تتعايش مع العمى، لا نعلم إلى متى؟

الإصابة نخرت أعصاب دقيقة فى الرأس، سنرى بعد أشهر كيف يجب أن يستقر الحال؟

الجيد، يقول الطبيب الحكيم:

- إنك تجاوزت أى إصابات فى الحركة، لكنك لن ترى خلال الأيام وربما الأشهر المقبلة.

كأن الموجة صدمتنى من جديد، هبط قلبى، انفجرت ثقوب رأسى وتاهت سوائل وخيوط وأوراق وتلك الصور الملونة، العتيقة، ثقوب رأسى انفتحت، رموش عيونى ترمش بسرعة قطار الريف، أو مثل هذيان فانوس البحار يحمله، فجر يوم الصيد فى كانون النوة المهلكة.

.. أضربت عن تناول أى شىء، رفض الأطباء قرارى، قيدونى فى سجن السرير، وربطونى بالأجهزة وكنت أتابع ما يدلق رأسى من تلك الثقوب التى ترى وتتحدث وتنثر خليط الرأس، الخلطة السرية. 

سمعت تأوهات، تمادت الأى، والآى، سخن رأسى وتوقف الهياج واعتصرت رأسى؛ لعلى أشم تلك التفاصيل و.. بقيت مقيدًا أسمع ما ينبض من الآهات، ورأيت أنى عدت فى حضنك، رضيع الملائكة.

.. غيبتى ظل السروات، تعبت يمامات القمة، ناولتنى شريحة تحكى عن القمر المكتمل، كانت ليلة عاشق الحكاية التى أصابت رأسه قيود العصابة، اختفت برودة الربيع، رأيت أنى أتنفس قبلتك الأولى التى ذوبت ضفاف النيل. 

.. فى أيام العمى، انشغلت بالسمع، تتحرك أذنى تجاه أى صوت، أسمع الإذاعات، أقلبها من إذاعة موسكو وصولًا إلى إذاعة لندن، أتوقف كثيرًا عند صوت هيام حموى فى إذاعة مونت كارلو. 

ذات مرة تغزلت هيام بأغنية من أغانى ملحم بركات، وقالت:

- لكل أحبتى اسمعوا هذا العاشق وهو يغنى:

.. «وضلى بقلبى، سره الجريح ونامى بقلبى.. تاتتعب الريح» 

لم تكن الكلمات تفتح مفاصل قلبى الكسير، لكننى سمعت الصوت يتغير، يصدع:

.. «خبيتك بعيونى من درب النسيان من درب النسيان». 

أحسست بك تصعدى معى درب شجرات السرو، مختفى بين أغصانها العاشق للشمس والريح. 

تذكرت أن مذيعة مونت كارلو كانت تبكى وهى تردد مع ملحم بركات:

.. «حبيتك وبحبك، تيبطل الغيم، يشرد ورا الغيم، وتخلص الطرقات..». 

طريق السروات وصل إلى اليمامات، سحرته بهديلها أسرارها الملونة، تسلقت الجنون الذى نبت بين طيات الروح. 

.. 

.. «حبيتك وبحبك، تيبطل الموج، يركض ورا الموج، بشمس المسافات».

عاندتنى الموجة السرية التى تعودت أن تخرج من وسط البحر.

أجلسنى أخى بهدوء، أتتبع ما أسمع من هدير الموج.

غافلتنى طيور النورس وسرقت بقايا الخبز، خبز العصافير الصغيرة التى تترقب فتات الحكاية.

فى تلك الليلة، بكيت، قلت لى إن صوتك يغالب البرد، سرقة السرير، وأن السجن قيدك وحيدة، يغيب صوتك ويغيب نور عيونى فى المجهول.

رأيت فيما يرى الضائع بين الحلم.. وسجن السرير، أن المحقق سجل اسمى، قال لى:

- أنت مروان، ابن المختار الشيخ صالح.

قلت:

- أنا الأعمى!

.. طوى أخى أوراق المحقق، سجل إصابتى نتيجة زحلقة وعبث على الرصيف. 

.. وكنت تعودت أن أتحسس رأسى، انهمرت الثقوب تنفث ما خزنته الأيام، أفزعنى حلم تاه عن ثقوب رأسى، بقى يتدحرج فى تلافيف دماغى، يعاندنى، يذكرنى بأن هناك فى عش سجينة السرير، حكاية عن الصوت الذى تاه فى برد النوة.

.. تحسست رأسى، هرشت شعرى المشرد على وسادة السجين؛ ذلك ما كان ينقص سيناريو الحلم، هل يجب أن نصد شجرة السرو دائمًا، ونتوه فى خرائط اليمامات؟

واجهت المحقق وصرخت أمام السجينة:

- أنا أرى، ولكنى سأفقد صوتى، فقد وعدت الموجة أن تقودنى إلى سراديب السندباد البحرى، مقابل أن أقدم لها صوتى، حزنت كثيرًا، إذ تذكرت أننى لن أثرثر عما أسمع من ملحم بركات أو أتحدث عن كيف كان بكاء هيام حموى.

.. فى مكانى على رصيف شاطئ كامب شيزار، أجلس أراقب تدافع الموج، تنال منى موجتى، تتوه الإشارات تندلق من ثقوب رأسى، تغتال الحروف، نتجمع، وهى تتجمل، تأخذنى إلى جزيرة بعيدة، أرتعش فقد رأيت الشمس تنتحر وراء الموج الغريب، سمائى تاهت وأنا أتشبت بذيل الموجة التى تتشكل بأثوابها الذهبية تخدعنى، إلى أن غاب بصرى بين عشب الأعماق، تناثرت الحروف، كتبتها الحروب، سقطت مالحة من ثقوب الرأس،.. ى ا. ل ل روع ه! 

.. وصولى إلى بلاد السندباد البحرى، مناسبة صاخبة، كأنها لعبة كسر الأقفال، عروس البحر، المرأة التى تجند الموج لإغواء البشر من أمثالى، دخلت بوابات مشرعة فى متاهة البحر، تذكرت فندق أنداز اللندنى العريق، قالت الموجة، إن المرأة البحرية هى السبب فى استمرار إعادة قفل الأبواب، أحسست بأن القفل يسد ثقوب رأسى الغريق. 

جمال قدرتنا على البقاء، مرايا تتمايل مع حركة الموج، سرت فى جسمى رعشة، تأملت الموجة العروس وهى تخفى صدرها الناهد بحزم من أعشاب البحر، يرانى جمهور الأعماق غريبًا، كنت أنظر وأتنفس وأتكلم ولم أفقد نظرى (..) الناس، يحسدوننى أنهم كانوا أكثر قربًا من العروس المرأة البحرية، وكانت تفتح لى أبواب القصر السرى الذى مات فيه السندباد البحرى، فى آخر رحلة بدأت من البصرة، وكشف تجار البر عما قد جمع من الحكايات والمجوهرات. 

على حقيقتى الآن؛ ذلك ما حدث عندما لدغتنى الموجة وتدعثرت بالحصاة.

.. السر فى الأعماق البحرية، أن القصر السرى، احتوانى وأخذت كل الوقت فى البكاء، نمت على بقايا خرائط سيدة سجن السرير، كنت أسمع حشرجة صوتها وغريب تنهداتها، لكنها لم تكن تحلم مثلى، قالت لى:

- أنا فوق شجرة السرو.

.. ليس سرًا أن تتمكن، من أى صعوبة تواجهك، ربط كرافتة، مشكلة، غباء منى، قال لى الكوى إن ربطة العنق يمكن أن تأخذ شكلها إلى الأبد، لم أر ذلك فى أحلامى، مشكلة جعلتنى أكره القاط والرباط.. تعودت أن أضحك على لهجة دارجة فى بغداد، قاط ورباط. 

ثقوب رأسى جعلت الطبيب يؤخر خروجى من المستشفى، وضعونى فى غرفة وحيدًا، إلا من كاميرات وأجهزة موصولة بجسدى، قلت لأخى احتفظ بكل الحصى التى تتناثر على رصيف الشاطئ، ضحك، وقال:

- حاضر. 

تذكرتك، قولى حاضر. 

وتأتى:

- حاضر! 

بعد أيام قرر بعض الأطباء، أن يتركونى بعيدًا عنهم، أشاروا:

اذهب نحو البحر، لعل النوارس تنقر رأسك أو تغرق وتمتلئ الثقوب بالمياه المالحة. 

غرقت مع الموجة. تحولت إلى عروس البحر. أدخلتنى القصر السحرى السرى، شاهدنى السندباد.. لكنى فقدت قدرتى على إخراج سجينة السرير، الآى علقت فى ظلال الكهف السرى، بينما قالت لى الموجة:

- أغار منها، أخاف من عودة صوتها، حينها أتلاشى وأتحول إلى زبد أبيض يختفى وراء الأمواج الحزينة. 

.. بحرية مجنون؛ كنت أراك فى شارع بورسعيد، أتذكر تشابك أصابعنا وصوت البوح العنيد، يغتال الرصيف، ذات المكان الذى أراك فيه، أجعل الرصيف بينى وبينك، تلمع عيناك والتقط مبسم الأرجيلة وأسحب، يعج النفس وسموم التنباك الملوث بالعسل الأسود، قهوة الصعايدة، تجلس كل العائلة، عصابة تراقبنى، تتجسس على ما يخرج من ثقوب رأسى.

قال لى النادل:

- تتطاير الصور والأوراق والحصى من رأسك، عم رضا يضحك ويبكى (..) أحرك رأسى تتناثر الأحلام القديمة، تصل حدود العمارة على الرصيف الثانى. 

تابعت حلمى بك، كنت أعض أطراف أصابعك، تسحق روحى، أقرأ فى بعض المذكرات التى تتابع رذاذها المندفع من رأسى، تجذبها الموجة التى تشعر بالغيرة، تأكل أحلامى بهدوء قطة الشاطئ السعيدة. 

أفتقد الموجة، كأنها اختارت البيات الشتوى، احترت عندما قال لى العطار الذى يبيع التعاريف والحجاب والأوراق، إن النذر الذى يحررنى، يحتاج إلى شيوخ ومسالك وحلل مرصعة وفحم من قرون ثيران رضيع الملائكة. 

أصابنى الرجل العطار، فى رأسى.. 

كنت وسيدة الملائكة نعاتب وهج اللحظة وننشغل فى تفاصيل البحث عن موجة غابت فى يوم شتائى، لرجل عاشق لم يفقد صوته، ولم ينس شغف الآى. 

.. كنت الماء؛ 

أصبحت الموجة

.. واختفى رأسى، تضاحكنا وفى يدك نتف من رسائل ذوبها سرير، يحتوى سجين وعاشق وعطار يلاحق الإنس والجان.