كشف جديد لـ«حرف» يُنشر لأول مرة
نورس الإسكندرية.. رسائل أعلام الثقافة إلى الموسوعى نقولا يوسف

- نقولا حظى بتقدير العديد من الشخصيات الأدبية والثقافية
فى بدايات القرن العشرين، وتحديدًا عام 1904، فى مدينة دمياط القديمة، حيث تتعانق أمواج النيل مع البحر، وُلد نقولا يوسف، الذى سيصبح لاحقًا أديبًا ومبدعًا كبيرًا، وأحد أبرز الأسماء فى المشهد الثقافى المصرى على مدار سنوات طويلة.
لم يكن نقولا يوسف مجرد كاتب، بل موسوعة تمشى على قدمين، فقد حمل فى روحه وعقله مزيجًا من الإبداع الأدبى والدقة البحثية، لينتقل بشغفه وكتاباته عبر مدن مصر المختلفة، تاركًا أثرًا خالدًا فى كل محطة منها.
رحلة هذا المثقف الكبير، الذى ربما لا يعرفه كثيرون من الأجيال الحالية فى ميدان الثقافة، بدأت من دمياط ثم إلى الإسكندرية، حيث عاش سنوات خصبة من العطاء فيها، قبل أن ينتقل إلى ضاحية المعادى فى القاهرة، ويسدل الستار على حياته هناك.
ما بين تلك الأماكن الثلاثة تجول «نقولا» بإبداعه فى كل مكان على أرض المحروسة. فى البداية دفعه الشغف إلى كتابة القصة القصيرة، ولم يكتفِ بذلك، فتوجه إلى البحث التاريخى والأدبى، ليقدم أعمالًا أصبحت مراجع أساسية، مثل موسوعة «أعلام من الإسكندرية»، وكتابى «تاريخ دمياط منذ أقدم العصور» و«أعلام دمياط».
ولأن روحه مرتبطة أشد الارتباط بالكلمة، برع أيضًا فى الشعر والرواية، فأصدر ديوان «نسمات وزوابع»، وروايتى «الفردوس»، و«إلهام»
أما القصة فكان لها نصيب الأسد فى مسيرته، إذ قدّم 3 مجموعات قصصية هى: «دنيا الناس» و«مواكب الناس»، و«هم ونحن»، وحتى فى الشعر أعاد إحياء ديوان الشاعر الكبير عبدالرحمن شكرى، ليُثبت أن الإبداع يتجاوز حدود النوع الأدبى.
بدأ مسيرته التعليمية فى مدرسة دمياط الابتدائية عام 1912، ثم أكمل رحلته بين مدارس رأس التين بالإسكندرية والتوفيقية بشبرا، ليتخرج عام 1921، ويعمل فى مهنة التدريس. وخلال عمله ترك بصمته فى مدارس القاهرة وأسيوط والزقازيق والمنصورة، ثم عاد إلى الإسكندرية للعمل بمعهد المعلمين.
لم يكن نقولا يوسف مجرد معلم، بل قائدًا تربويًا أشرف على إدارة المدارس، واضعًا بصمته فى كل مكان، كما كان رحّالة بين ضفاف الإبداع والمعرفة، وخلّد اسمه كواحد من أعمدة الثقافة المصرية.
وفى كشف ثقافى مهم، عثرت «حرف» على مجموعة من المذكرات والأوراق الخاصة بنقولا يوسف، ومن بينها رسائل أرسلها كبار المثقفين إليه، طوال رحلته فى ميدان الثقافة، تكشف عن عمق العلاقات الفكرية بينه وأبرز رموز عصره، إلى جانب يوميات كتبها بخط يده، ويكشف فيها تجربته مع نشر رواية «الفردوس» وحكايات أخرى.

عبدالفتاح الجمل: الكتابة فى الصحافة الثقافية بالمجان
يكشف أول الخطابات عن تساؤل مهم حول أزمات الصحافة المصرية، مفاده: هل واجهت الصحافة فى الستينيات تحديات اقتصادية صعبة شبيهة بما تعيشه اليوم؟
الخطاب أرسله الكاتب والناقد عبدالفتاح الجمل إلى نقولا يوسف قبل ٦٤ عامًا، عندما كان مسئولًا عن صفحة الثقافة بجريدة «المساء»، وعبّر خلاله عن تقديره الكبير لطلب الأخير المشاركة بالكتابة فى الصحيفة، لكنه اعتذر فى نفس الوقت عن تقديم أى مقابل مادى بسبب الأوضاع الصعبة التى كانت تمر بها الجريدة حينها.

وجاء فى الرسالة: «الأستاذ الكبير نقولا يوسف، تحية طيبة وبعد، أنا خجلان؛ لأننى لم أتمكن من الرد إلا الآن.. أشكرك على إتمام اسمى فى مقالك الذى سمعناه ولم أتمكن من قراءته بعد، ثم بعثت تسألنى عن مقالات للمساء، والمسائية يسرها بل ويسعدها أن تضم أسماء ذات تاريخ كبير بين أسمائها، لكن نشر الموضوعات اليوم أصبح بالمجان، بعد عمليات الضغط والفصل والنقل، التى لا بد أن تكون قد وصلت إليك. فإن آثرتنا بشىء من كتاباتك مع هذا الأساس المحجف، فنحن نشكر لك فضلك. وتقبل تحياتى وخالص ودى».

وتعكس الرسالة الظروف الصعبة التى كانت تواجه الصحافة الثقافية المصرية فى تلك الفترة، التى أصبحت القدرة على تقديم مكافآت مالية للكتابة فيها شبه معدومة، بسبب الضغوط الاقتصادية والإدارية التى تعانى منها الصحف.
عبدالرحمن شكرى: قصائدى أصابتنى بالشلل.. ولا تنشرها بعد مماتى
يعد عبدالرحمن شكرى من أعمدة الشعر المصرى ورواد الشعر العربى الحديث، وأحد أبرز المجددين فى الأدب، وهو من مؤسسى «مدرسة الديوان»، إلى جانب العقاد والمازنى.
كتب «العقاد» عن عبدالرحمن شكرى، بعد وفاته، مقالًا نُشر بمجلة «الهلال»، فى فبراير ١٩٥٩، قال فيه: «عرفت عبدالرحمن شكرى قبل خمس وأربعين سنة، فلم أعرف قبله ولا بعده أحدًا من شعرائنا وكتابنا أوسع منه إطلاعًا على أدب اللغة العربية وأدب اللغة الإنجليزية، وما يُترجم إليها من اللغات الأخرى، لم أذكر يومًا كتابًا قرأته إلا وجدته على علم به وبخير ما فيه، كان يحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها ولم نلتفت إليها، خصوصًا كتب القصة والتاريخ».
وأضاف «العقاد» عن عبدالرحمن شكرى: «مع سعة اطلاعه، كان صادق الملاحظة نافذ الفطنة حسن التخيل، وسريع التمييز بين ألوان الكلام، ما أتاح له ملكة النقد على أكمل وجه، فقد كان يقرأ الكثير ويميز بين ما يستحسنه وما يرفضه، فيزن الأدب بنظرة سريعة لا تحتاج إلى الجلسات الطويلة».
لكن لا يعرف الكثيرون أن عبدالرحمن شكرى عاش فترات حزينة، خلال سنواته الأخيرة، كما تظهر خطاباته إلى صديقه نقولا يوسف، التى تكشف عن رحلة طويلة من المرض والألم، وانفضاض الأصدقاء من حوله، وعودته إلى مسقط رأسه فى بورسعيد، حيث عاش الوحدة ومرارة الهجر.

فى إحدى رسائله المؤرخة بتاريخ ٢٣ أغسطس ١٩٥٣، كتب «شكرى» إلى «نقولا»، قائلًا: «حضرة الأستاذ الأديب والمربى القدير نقولا أفندى يوسف، بعد التحية، تشرفتُ بتسلّم كتابكم الجميل (مواكب الناس)، ولما كانت يدى اليمنى مشلولة والجانب الأيمن مشلولًا، استعرتُ الكتابة بيدى اليسرى، لم أقرأ الكتاب بعد، إذ تسلمته الآن، ولكن كيف عرفتم عنوانى فى بورسعيد؟ لقد نسينا الأصدقاء، فأشكركم على هذه الهدية النفيسة».
فى رسالة أخرى، كتبها عبدالرحمن شكرى بيده اليسرى، وصف حالته الصحية المتدهورة، واشتكى من «عداوات السُفَل اللئام»، الذين وصفهم بأنهم «أعداء لكل مفكر أو كاتب». كما ذكر أن ليس له تلاميذ يعرفونه فى بورسعيد، وسخر مما قاله البعض عنه بخصوص «جهله بالنحو والصرف».
كما وصف معاناته فى رسالة أخرى عام ١٩٥٥، قائلًا: «أنا الآن بسبب الشلل أشعر بالألم فى جميع أعصابى وفى رأسى.. فتخيل، يا سيدى، هذا الألم الشديد. أعلم أن كل مقال يُكتب عنى فى مجلة يُسبب لى عداءً شديدًا، صحيح أن بعض المثقفين يستحسنون شعرى ومقالاتى، لكن الأعداء أكثر، كتبتُ الشعر والنثر منذ عام ١٩٠٥ حتى ١٩٥٥، أى نحو خمسين عامًا، فكان نصيبى الشلل والألم والعداء، وبعض الناس يحسدوننى ولا أعرف السبب، حتى على العيش لا أنجو من الحسد، ربما كانت لديهم حجج بشأن أخطائى، ولذلك أرجو أن تسامحنى».
رسائل «شكرى» إلى نقولا يوسف لم تكن مجرد كلمات شخصية، بل وثائق حية تكشف معاناة شاعر كبير عاش بين الإبداع والألم، وواجه نهاية مأساوية تليق بحياة أدبية استثنائية.
وفى خطابه المؤرخ بتاريخ ٢٥ يناير ١٩٥٥، كتب عبدالرحمن شكرى إلى نقولا يوسف وصيته قائلًا: «بعد التحية، تسلمتُ رسالتكم وأرجو ألّا تنشروا سيرة حياتى أو شيئًا من شعرى بعد وفاتى، التى أراها قريبة بإذن الله.. لا أعلم كيف يمكن العثور على الشعر الذى نُشر بعد الدواوين أو الذى لم يُنشر بعد».

وأضاف فى نفس الرسالة: «لدى قصيدتان لم تُنشرا، وقد صادف أن طلبت منى آنسة من جامعة عين شمس بالقاهرة ما لم يُنشر من شعرى، فأعطيتها القصيدتين بشرط ألّا تُنشرا إلا بعد وفاتى. أما باقى الشعر المنشور فى الدواوين، فقد ظهر جزء منه فى كتاب (شعر العرب)، الذى طُبع فى المكتبة العبيدية للأستاذ أحمد عبيد، وبعضه نُشر فى كتاب (شعراء الإسكندرية) للأستاذ البجراوى، وأكثره ظهر فى مجلة (الرسالة) بين عامى ١٩٣٥ و١٩٣٨، وكذلك فى مجلتى (المقتطف) و(الهلال) عام ١٩٥١، وفى جريدة (الأهرام)، لكن لا أذكر السنة تحديدًا».
وواصل: «لم يبقَ لدى من شعرى سوى القصيدتين اللتين أعطيتهما للآنسة من الجامعة، صدقنى يا صديقى، أنك لا تدرك ما عانيته من آلام وأمراض وعداوات، إن شئتَ أن يُطبع كتابى (نظرات فى النفس والحياة)، الذى نُشر سابقًا فى (المقتطف)، فأفعل ما تراه مناسبًا».
ويعكس هذا الخطاب عمق معاناة «شكرى» فى سنواته الأخيرة، ورغبته فى صون إرثه الشعرى والأدبى، مع شعور بالمرارة حيال ما واجهه من تحديات شخصية وثقافية.
غالى شكرى: اشحت لى كتاب «جيوبنا» لسلامة موسى
جانب آخر من جوانب هذه الأزمات الاقتصادية تكشفها رسالة أخرى أرسلها الكاتب الكبير غالى شكرى إلى نيقولا يوسف، يطلب فيه مساعدته للحصول على أحد الكتب المهمة.
خلفية هذه الرسالة أنه فى نهاية الخمسينيات، كان غالى شكرى أحد أبرز قادة الحركة الفكرية والنقدية فى مصر، ومع عمله الصحفى، كانت الدراسة الأكاديمية تشغل جزءًا كبيرًا من اهتماماته، خاصة رسالة الدكتوراه التى حصل عليها من جامعة «السوربون» فى فرنسا، وكان موضوعها «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث»، وأشرف عليها المستشرق الفرنسى الشهير جاك بيرك.

نشر «شكرى» الرسالة فى مصر عام ١٩٧٨، وفى تلك الفترة، قرر أن يأخذ إجازة غير مدفوعة من الصحافة، ليكمل دراسته الأكاديمية. أما الكتاب الذى كان فى أمس الحاجة إليه فهو «جيوبنا» لسلامة موسى، الذى نُشر عام ١٩٣١، وأرسل خطابًا إلى نقولا يوسف، فى عام ١٩٥٩، يطلب منه مساعدته فى الحصول عليه، إذ كانت حاجته إليه ملحة للغاية.
وجاء فى الرسالة:
«أخى الفنان والإنسان، أريد أن أثقل أعباءك وأزيدك تعبًا، فأطلب إليك مرة ثالثة أن تشحت لى كتاب (جيوبنا)، فلعلك لا تتصور مدى حاجتى إليه.. لقد عقدت العزم على أخذ إجازة بدون مرتب بعد الترم الأول، من أجل الانتهاء من الدكتوراه، لذلك يمكنك أن تتخيل سبب الإلحاح فى طلبى، إذ إن حاجتى إليه بالذات، تفوق حاجتى إلى أشياء كثيرة.. وأتمنى أن تحقق رجائى، وأن تكرس يومًا للعثور عليه، أرجو أن تخبرنى بذلك على الفور».
وفى نفس الخطاب سأل عن أخبار الأصدقاء، مثل نجيب محفوظ، إلى جانب توجيه تحياته إلى زوجة نقولا يوسف.
وفى خطاب آخر، طلب غالى شكرى من نقولا يوسف مساعدته فى بحثه حول «تطور حركة النقد الأدبى فى مصر بين عامى ١٩١٩ و١٩٥٢»، خاصة فيما يتعلق بعبدالرحمن شكرى.

وقال «شكرى»، فى الرسالة الثانية: «الصديق العزيز الأستاذ نقولا يوسف، كتبت لكم منذ فترة طويلة قبيل زيارتكم الأخيرة للقاهرة، ولم يصلنى منكم أى رد، وهأنذا أكتب لكم مرة أخرى، راجيًا معاونتى فى البحث الذى أكتب عنه، حول تطور حركة النقد الأولى فى مصر من ١٩١٩ إلى ١٩٥٢، وبخاصة فيما يتعلق بعبدالرحمن شكرى.. أكتب لى متى أستطيع أن أزوركم فى الإسكندرية، للتفاهم بشأن هذه المشكلة الأدبية».
وفى رسالة أخرى، كان غالى شكرى يعبّر عن مدى الصداقة والود الكبيرين اللذين كانا يجمعانه بنقولا يوسف، ليقول فيها: «السيد الأستاذ نقولا يوسف، بعد التحية، فقد تسلمت رسالتك اليوم فقط بعد شهر من وصولها، حيث كنت بعيدًا عن دار العالم العربى، والحق يا أستاذى أننى قد اهتززت لما جاء بين سطورك من رسائل عن مأساة الأدب فى مصر، كل ما أرجوه ألا تطفئ الأمل فى قلبك أبدًا، الناس يكرهونك بعد، وآخر رسالة وصلتنى هذا الأسبوع كانت من السيد محمد زكريا عنان، وفيها دمعة وفاء على المجتمع المخبول بأضواء النيون». ثم أكمل الرسالة طالبًا من نقولا يوسف أن يمده بالمراجع الخاصة بكتبه القديمة والحديثة، ليتمكن من كتابة دراسة موسعة عنه.
تُظهر هذه الرسائل العلاقة الوثيقة بين غالى شكرى ونقولا يوسف، سواء على الصعيد الفكرى أو الشخصى، إلى جانب إبراز التحديات التى كانا يواجهانها فى تلك الفترة.
لم تكن رسالة غالى شكرى إلى نقولا يوسف مجرد تعبير عن امتنان الأول للأخير، بل كانت أيضًا رسالة تحمل فى طياتها تقديرًا عميقًا لأستاذية نقولا يوسف، ومكانته الرفيعة فى المشهد الثقافى المصرى والعربى.
هذه الرسالة أبرزت العلاقة الفكرية والأدبية التى كانت تجمع بين الرجلين، والتى تعكس المسافة الكبيرة بينهما فى مجال الفكر والأدب، إذ كان «شكرى»، رغم ما حققه من شهرة ونجاح، يدرك قيمة نقولا يوسف الأدبية والفكرية، ويعترف بفضل الأخير على تطور المشهد الثقافى فى مصر.
لم يكن غالى شكرى وحده ممن قدروا قيمة نقولا يوسف، فقد حظى بتقدير العديد من الشخصيات الأدبية والثقافية البارزة، من بينهم الكاتب الصحفى والمترجم وديع فلسطين، الذى كتب إليه لاحقًا، وكذلك الشاعر الكبير وأستاذه عبدالرحمن شكرى، فلا يخفى على دارسى الشعر العربى المعاصر، أن لـ«نقولا يوسف» فضلًا كبيرًا، لكونه أول من جمع وحقق ديوان عبدالرحمن شكرى عام ١٩٦٠. وقد جمعته علاقة خاصة بأستاذه، إذ كان تلميذه، وراويًا لشعره ومحبًا له.

كما أعربت الكاتبة جميلة العلايلى وغيرهما عن تقديرهم الكبير له.
هذه الرسائل لم تكن مجرد تبادل للأفكار، بل مثلت وثائق تاريخية تسلط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ مصر، فهى تقدم وصفًا دقيقًا للأحداث الثقافية والسياسية والاجتماعية التى مرت بها البلاد فى ذلك الزمن.
إلى جانب ذلك، تعد هذه الرسائل شهادة حية على تاريخ الصحافة والثقافة المصرية خلال فترة شهدت تغيرات وتحولات عميقة، ما يمنحها قيمة تاريخية وأدبية بالغة الأهمية.
يوسف السامرائى: على كُتّاب القصة الابتعاد عن المداعبات الجنسية
ربطت علاقة صداقة وطيدة بين نقولا يوسف والدكتور يوسف عز الدين السامرائى، الذى ذاعت شهرته كأحد أعلام الأدب العراقى، وكان شاعرًا وكاتبًا وأكاديميًا، وعضوًا فى المجمع العلمى العراقى، وأستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة بغداد.
وتشهد الرسائل المتبادلة بين المثقفيْن الكبيرين، على حجم ما كان بينهما من صداقة ومدوة. يقول له «السامرائى» فى إحدى هذه الرسائل: «تلقيت بيد الشكر والتقدير والامتنان (هم وهن)، وقضيت معه وقتًا ممتعًا، وتصورتك وأنت تتحدث وكانك أحد هؤلاء (هم)، وساحت بى الذكريات إلى البحر والإسكندرية فعشت مع شحاتة وعزوز، وترحمت على حسن البلطى، والحق أن صورة المجتمع العربى فى مصر ظهرت جلية وكانت واضحة، فكان الكتاب سجلًا أنيقًا صادقًا لهذه الحياة».
وأضاف فى الرسالة نفسها: «كم كنت أتمنى من إخواننا كُتّاب القصة أن يحتذوا حذوك ويبتعدوا عن مداعبات الرغبات الجنسية، ويخلصوا لأدبهم وفنهم إخلاصك له، أرجو لك كل تقدير وخير على تحفتك الغالية واقبل خالص التقدير والإعجاب».

وفى رسالة أخرى يقول «السامرائى» لـ«نقولا»: «أخى الأستاذ الباحث نقولا يوسف تلقيت رسالتك الكريمة وشكرت شعورك الفياض، وقد وصلتنى مجموعتك اللطيفة الرائعة (هم وهن) وكتبت لك شاكرًا ولكن لا أدرى لم لم تصل رسالتى إليك، لهذا أجدد لك شكرى وامتنانى على لطفك، ويؤسفنى أن قصرت فى الكتابة عنها، والعذر عند لزوم الناس مقبول، السيدة نازك وزوجها فى القاهرة والأستاذ هلال عيد فى إسبانيا تحياتى لجميع أدباء الإسكندرية الذين أكن لهم كل حب وتقدير».
وديع فلسطين: دعوت على لويس عوض بـ«العقم»
حكى الكاتب الكبير وديع فلسطين، فى رسالة منه إلى نقولا يوسف، تحمل تاريخ ١٤ ديسمبر ١٩٦٢، تفاصيل زيارة «العقاد» له فى مكتبه، وإهدائه كتابه الجديد حينذاك «التفكير فريضة إسلامية»، ناقلًا صيغة الإهداء التى كتبها «العقاد» له.
وذكر «فلسطين» فى رسالته أسماء أعلام الفكر والثقافة المصرية، ومشروعات مقالات تُرسل لمجلة «الأديب»، ومنها مقالات «مليم مترى» و«أبوالوفا» و«الزماوى» بقلم هلال ناجى، إلى جانب مراجعته هو لكتاب «سلامة موسى وأزمة الضمير».
وحكى قصة القصيدة التى نظمها إلياس فرحات نكاية فى جورج صيدح، ووديع فلسطين، قائلًا: «للقصيدة قصة طريفة لا بأس أن أرويها لك، فمن عادتى بعد قراءة المجلات الأدبية المصرية أن أهديها إلى صديقى الشاعر المهجرى الكبير جورج صيدح المقيم فى باريس، وفى الصيف سافر صيدح فى أنحاء أوروبا، ولما عاد وجد فى انتظاره جبالًا من المجلات الأدبية، فكتب إلى محتجًا، فأشرت عليه بأن يقرأ منها ما يستطيع، ثم يرسلها إلى الشاعر المهجرى إلياس فرحات المقيم فى البرازيل».

وأضاف: «اتُّفق أن كان إلياس بدوره فى رحلة صيد، فلما عاد إلى مدينة بيلو أوريزونتى أو الأفق الجميل التى يقيم فيها وجد التلال الأدبية قد انتقلت إليه، فبعث إلى صيد محتجًا، فرد عليه بأنه أحال الاحتجاج إلىّ لأننى أصل الداء، فحسب فرحات أننى وصيدح لا نستطيب شعره، وقد تآمرنا على إسكاته بإلهائه بهذه المجلات، وعندئذ نظم قصيدته (أسود اليمن) ونشرهها فى صحف لبنان نكاية فينا، وعندما قرأتها كتبت إليه قائلًا: (زدنى من ناياتك وأتحفنا بسيل من دررك)».
وفى الثالث من نوفمبر عام ١٩٦٦، أرسل وديع فلسطين رسالة أخرى إلى نقولا يوسف، مليئة بالسخرية والطرافة، فوصفه فيها تارةً بـ«الفنجرى» وتارةً أخرى بـ«العنترى»، كما أطلق عليه لقب «البكوية» فى سنوات ما بعد الثورة.
وتضمنت الرسالة تحليلًا لشخصيات قصصية فى كتابات نقولا يوسف، خاصة شخصية «سخسوخ» الموظف فى وزارة الأوقاف، معتبرًا أن «نقولا» يقصد بهذه الشخصية الشيخ الباقورى، الذى كان يعمل بدوره فى وزارة الأوقاف.
ولم تخلُ الرسالة من انتقاد لاذع لـلكاتب لويس عوض، إذ ذهب وديع فلسطين إلى السخرية منه بشدة، بل ودعا عليه بالعقم، بسبب مقطع شعرى أثار استياءه، حين كتب «عوض» على لسان العذراء مريم: «وعالجنى بآلته فذقت حلاوة الوتد!».

وعلق «وديع» بأن هذه «الآلة» و«الوتد» بحاجة إلى «تعقيم سريع» قبل ما وصفه بـ«تفاقم الشر»، مشيرًا فى الوقت ذاته إلى زياراته لكل من الشيخ محمد خلف الله أحمد وعبدالعليم القبانى، بعدما نال الأول درجة الدكتوراه عن أطروحته «الفن القصصى فى القرآن الكريم»، التى أشرف عليها الدكتور أمين الخولى، والثانى يعد أحد رواد الشعر الكلاسيكى والملاحم الكبرى، ومن أبرز أعماله «ملحمة الثورة العرابية»، التى نظمها فى ٣٠٠٠ بيت من الشعر الموزون المقفى، ونُشرت لاحقًا عن الهيئة العامة للكتاب عام ١٩٨٢.
ويكشف أجره عن «الموسوعة المُيسرة»: «الكلمة بمليم»
فى رسالة أخرى، يعبّر وديع فلسطين عن سلسلة من المآسى التى واجهها فى الأيام الماضية، بدءًا من حادثة كادت تودى بحياته، وصولًا إلى ملاحقة الضرائب للكاتب إبراهيم المصرى، بالإضافة إلى ما يعانيه فى عمله بمجلة «التربية الحديثة»، والتى رغم تعيينه عضوًا فى مجلس إدارتها، لم يُمنح منصب رئيس التحرير.
وقال «وديع» إنه اُضطر للتوقيع باسم مجهول، هربًا من ملاحقات رجال الضرائب، الذين وصفهم بـ«الجعانين»، وكذلك هربًا من «القراصنة» الذين يطاردونه، قبل أن ينتقل للحديث عن المصير المؤلم الذى لحق بمكتبة الدكتور أمير بقطر، عميد كلية التربية بالجامعة الأمريكية، بعد وفاته.
وأوضح أن مكتبة «بقطر»، التى كانت تُعدّ من أعظم المكتبات فى علم النفس والتربية فى مصر، تعرضت للسلب والنهب، وانتهى بها الحال إلى البيع بسعر «الدُقة» فى مزاد علنى، طالبًا من نقولا يوسف أن يكتب مقالًا يسلط الضوء على هذه الفاجعة الثقافية.

كانت علاقة وديع فلسطين بـ«نقولا يوسف» تتجاوز حدود الصداقة التقليدية، فهى أقرب إلى علاقة أخوية عميقة، وفى رسائل «وديع» إليه تتدفق مشاعر المحبة الصادقة.
يكتب «فلسطين» عن أيامه وما شهدته من أحداث، ويسرد تفاصيل لقاءاته الفكرية، دون أن يغفل عن ذكر اليوميات والتفاصيل الشخصية، بدءًا من السخرية التى يتبادلها مع أصدقائه حول بعض الشخصيات، وصولًا إلى حوادث السيارات التى واجهها، والتى تتكرر فى رسائله.
فى إحدى هذه الرسائل، يروى وديع تفاصيل حادث سيارة نجا منه بمعجزة كما وصفها، واضطر بسببه إلى الاعتماد على التنقل بـ«الموتورجل» مؤقتًا، حتى تُصلَح سيارته.
وعلى الرغم من تلك التحديات، لم يمنعه ذلك من الانشغال بإعداد عدد خاص عن الدكتور أمير بقطر، إذ يشير فلسطين إلى مأساة بيع المكتبة التى كانت تعد من أعظم المجموعات العلمية فى مجال علم النفس والتربية، كما ذكر فى رسالة سابقة.
كما يطلب وديع فلسطين من نقولا يوسف الإسراع فى إرسال موضوعه بعنوان «خصائص أدب بنت الشاطئ»، لنشره فى مجلة «القافلة».، كاشفًا أيضًا عن إصابة طاهر الطنطاوى بـ«الفالج»، ونقله إلى مستشفى «هليوبوليس» لتلقى العلاج، ويتحدث أيضًا عن مجموعة قصصية جديدة للكاتب إبراهيم المصرى بعنوان «صراع مع الماضى».

ويسرد تفاصيل استقالة الكاتب رجب البيومى من «الشلة»، موضحًا الأسباب التى دفعته لقبول هذه الاستقالة بصفته رئيسًا للمجموعة، قبل التطرق إلى «الموسوعة العربية المُيسرة»، التى ظهرت فى طبعتها الثانية، مشيرًا إلى أن مكافأته عن عمله فى هذه الموسوعة، كانت تُقدَّر بمليم واحد عن كل كلمة، ليصل المجموع إلى ٢٠ جنيهًا، لكنه تنازل عن المبلغ بسبب الضرائب.
ويحكى: وسام العلوم والفنون على «طبلية» محمود أبوالوفا
كان بيت أمير الشارقة، صقر بن سلطان القاسمى، فى القاهرة، مفتوحًا أمام كبار المفكرين والكُتّاب والمُبدعين المصريين والعرب. لم يكن «القاسمى» مجرد أمير فحسب، بل كان أحد كبار الشعراء. وتابعت ابنته، الشاعرة والروائية ميسون القاسمى، المسيرة من بعده، وجعلت منزل والدها ملتقى للنقاشات الفكرية والأدبية.

وفى إحدى رسائله إلى نقولا يوسف، سرد وديع فلسطين تفاصيل زيارته لصديقه القديم، صقر بن سلطان القاسمى، وكيف اطلع خلالها على مجلة «الأديب»، التى كانت تحتوى على بعض المداعبات بين محمد الغنى حسن ومحمود الشرقاوى، وناقشها مع الأمير، الذى كان على علم بها، فى ظل وصول المجلة إليه بالطائرة بداية كل شهر.
وأفاد وديع فلسطين، فى رسالته أيضًا، بأنه قرأ فى الصحف عن مناقشة رسالة أزهرية حول عبدالرحمن شكرى، وأعرب عن رغبته فى حضور مناقشتها، وهى رسالة الدكتوراه المقدمة من الدكتور رجب البيومى.