الأربعاء 12 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مظلومية صهيونية جديدة.. كيف استعدت «الأوسكار» للترويج لـ«البكائية اليهودية»؟

الأوسكار
الأوسكار

- أكذوبة «شعب الله المختار» شوّهت كارل يونج لمصلحة فرويد.. وأخفت إنجلز ليبقى ماركس.. واحتفت بـ«لا أرض أخرى» ليظل «المعمارى المتشدد» طويلًا فى صالات العرض

- مخرج الفيلم و«مونتيره» اعترفا باستخدام الذكاء الاصطناعى فى مونتاج حوار أدريان برودى باللغة المجرية.. لكن «الزن» وحده قد يقنعك بوجود عبقرية فى كومة مخلفات!

- الفيلم الفائز بجائزة أفضل تصوير يبدأ بحركة عشوائية مرتبكة وكأنها كاميرا موبايل فى يد طفل لا يعرف كيف يوجهها!!

لم تخيب ليلة الإعلان عن جوائز الأوسكار لعام 2025 توقعاتى، ربما لم أنتظرها بسبب يقين حاولت أن أقاومه بشأن فيلم البكائية اليهودية الجديد «المعمارى المتشدد»، وسيطرة الإعلام الصهيونى على مقدرات السينما الأمريكية وفى بعض دول العالم، وقدرته على التأثير فى اختيارات الناخبين سواء بالزن عبر وسائل الإعلام الأكثر انتشارًا، أو عن طريق التحكم فى اختيارات الأكاديمية الأمريكية للفنون لأعضائها من بعض الدول، وإن قيل إن عدد المصوتين على الجائزة وصل إلى نحو عشرة آلاف ناخب من مختلف دول العالم، فمن أصل إحدى عشر ترشيحًا فاز شريط المظلومية الجديد بثلاث جوائز أراها غير مستحقة، خصوصًا جائزتى أفضل ممثل التى فاز بها اليهودى المتخصص فى أفلام المحرقة أدريان برودى، والذى سبق أن فاز بأوسكار مماثلة عام 2002 عن فيلم «عازف البيانو»، وأفضل تصوير، التى تكفينى مشاهد الدقائق الأولى من الفيلم لسحب رخصة عمل مدير تصويره، سواء من حيث اختيار زوايا التصوير أو حركة الكاميرا التى ظهرت عشوائية مرتبكة، وكأنها كاميرا موبايل فى يد طفل لا يعرف أين يوجهها.. ولن أطيل فى الحديث عن هاتين النقطتين، خصوصًا أننى أعرف أنه ما أسهل الكلام والتبرير، وأن من يريد أن يرى عبقرية فى كومة مخلفات لن يعدم وسيلة للتعبير عما يراه أو يريدك أن تراه.

لم أنتظر إعلان اسم الفائز بجائزة أوسكار أحسن ممثل، فقبلها بأيام كانت كل المواقع والفضائيات العابرة للقارات، وغالبية النقاد والصحفيين، ومنهم من نظن أنهم مصريون وعرب، قد احتشدوا خلف أدريان برودى، نجم «عازف البيانو» و«المعمارى المتشدد»، رغم اعتراف المونتير ديفيد جانكسو باستخدام الذكاء الاصطناعى فى مونتاج حواره باللغة المجرية ضمن الأحداث، ورغم بيان مخرج الفيلم برادى كوربيت للرد على مونتير فيلمه، الذى قال فيه إنها «كانت عملية يدوية قام بها فريق الصوت باستخدام تقنية (رى سبيتشر) فى مرحلة ما بعد الإنتاج، وكان الهدف هو الحفاظ على أصالة أداء أدريان بلغة أخرى، وليس استبدالها أو تغييرها»!!

«لا أرض أخرى».. فيلم آخر مثير للجدل فيما يخص الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، تم الإعلان عن فوزه بجائزة أخرى لأسباب أظن ألا علاقة لها بالفن، وهو الفيلم الوثائقى الذى تشارك إخراجه أربعة مخرجين فلسطينيين وإسرائيليين، وارتدى أحد الإسرائيليين المشاركين فى إخراجه ثياب المعارضة خلال خطابه لقبول الجائزة قائلًا: «صنعنا هذا الفيلم، فلسطينيين وإسرائيليين، لأن أصواتنا معًا أقوى، نرى بعضنا البعض. ونرى التدمير المروع لغزة وشعبها، الذى يجب أن ينتهى، ونرى الرهائن الإسرائيليين الذين تم أخذهم بوحشية فى جريمة ٧ أكتوبر، والذين يجب الإفراج عنهم»..

هكذا «أصواتنا معًا أقوى»!!

الفيلم الذى لم يعرض فى أى من المهرجانات السينمائية العربية البارزة التى تحظر التطبيع مع الاحتلال، ولم يحظَ بموزع رسمى داخل الولايات المتحدة، ولم يعرض على منصات البث العالمية، بدأ تصويره فى ٢٠١٩ واستمر حتى قبل أيام قليلة من هجوم ٧ أكتوبر، وقوبل فوزه برفض إسرائيلى، وترحيب واحتفال فلسطينى، لم أره غير عملية «غسيل سمعة» أخرى كتلك التى تحدثنا عنها فيما يخص إنسانية قاتلة الأطفال جولدا مائير، لا أراه أكثر من غطاء لتمرير جوائز «المعمارى» الذى لم تتوقف آلة الدعاية الصهيونية عن الحديث عن مواطن عبقريته وأهمية مشاهدته والتعرض لرسالته التى تتردد على مدى ثلاث ساعات ونصف الساعة.. عشرات المقالات والموضوعات والحوارات والمقارنات، فيما تضمن له جوائز الأوسكار عشرات العروض، وملايين المشاهدات حول العالم، بما يعنى تعرض ملايين الأشخاص لساعات المظلومية اليهودية، وما يلاقيه اليهود من رفض فى كل دول العالم، وأنه لا مكان آمنًا لهم فى غير «إسرائيل»!!.. وهى الكذبة التى تتضافر معها، وتقف خلفها، أكذوبة أخرى لا تهدأ ولا تتوقف آلة الدعاية الصهيونية عن الإيحاء بها، وترسيخها فى أذهان العالم، حتى أصبحت فى مصاف الحقائق أو البديهيات التى لا تقبل المناقشة، وأغلب ظنى أنه آن الأوان لوقفها، ومواجهتها، وتفنيدها، وهى الكذبة التى تروج لأن أشهر علماء الفيزياء على وجه الأرض هو اليهودى ألبرت أينشتاين!! وأشهر علماء النفس فى العالم هو اليهودى سيجموند فرويد!!

لا يمر أسبوع دون مقال أو تحقيق صحفى موسع عن أسرار وعظمة اليهودى فرانتس كافكا!!

فى الاقتصاد والسياسة لا أحد يضاهى شهرة اليهودى كارل ماركس!!

هكذا.. عشرات الأسماء التى تحملها مع الهواء حملات الدعاية الصهيونية ليل مساء، وكأن العالم لم ينجب سوى اليهود، ولن ينجو من دونهم، فهم «شعب الله المختار»، أفضل عقول الأرض، وأكثرها نبوغًا ومهارة وذكاء.. ولكى يصفو لهم وجه النبوغ، تم اتهام «المسيحى» كارل يونج بمعاداة السامية، لمجرد أن أبحاثه ورؤيته لم تتفق مع عقيدة معاصره اليهودى فرويد، فلم يحصل على المكانة التى كان يستحقها على الرغم من أنه، هو لا أحد غيره، مؤسس علم النفس التحليلى، بينما عاشت الصحف الأكثر تمويلًا وانتشارًا تتغنى بنظريات وتحليلات وأفكار فرويد، فلا تمر مناسبة دون ذكره والتأكيد عليه.. واختفى «البروتستانتى» فريدريك إنجلز خلف وطأة الكتابات المتدفقة عن ربيبه كارل ماركس، رغم أنه هو المعروف بأنه الأب الحقيقى لبيان الحزب الشيوعى، وهو الذى ساعد ماركس ماديًا، ونظم أفكاره، ونشرها!!

وهكذا سيطرت الدعاية الصهيونية على عقل العالم، فشكلته وفق تصوراتها، من خلال وسائل الإعلام التى يقال إنها عالمية، ومن خلال السينما والتليفزيون تحولت الأكاذيب إلى حقائق وبديهيات لا تقبل النقد، ولا يجوز الاعتراض عليها، فإن فعلت فعليك أن تواجه تلك التهمة العجيبة «معاداة السامية»!!

ولعله من المناسب أن أذكر واقعة حدثت معى قبل ما يقرب من خمس عشرة سنة، وتحديدًا فى مايو ٢٠١١، عندما كنت فى رحلة عمل إلى العاصمة التركية الأولى «إسطنبول» لتجريب سيارة جديدة لواحدة من كبرى شركات السيارات الكورية، ممثلًا لجريدة «الخليج» الإماراتية، التى كنت مسئولًا بها عن قسم الاقتصاد العربى والدولى، وكان عدد الصحفيين المدعوين كبيرًا، ومن لغات وجنسيات كثيرة.. المهم أنه فى صبيحة اليوم الثانى من الرحلة كان من المقرر أن يتبادل كل اثنين من المدعوين قيادة إحدى السيارات فى رحلة تستغرق نحو الساعتين، تتخللها استراحة لتناول الغداء فى أحد المطاعم الفاخرة.

لسبب لا أعرفه، وجدت نفسى بمفردى فى واحدة من السيارات، فقلت لنفسى «هايل جدًا، لن يعكر صفو الرحلة مجهول»، لم يستمر الوضع على هذه الحال، فقبل التحرك بأقل من دقيقة واحدة وجدت أحدهم يخبط على زجاج سيارتى، ويرجونى بإنجليزية تشبه إنجليزيتى المصرية الركيكة أن يشاركنى الرحلة، مدعيًا أنه كان يخطط للذهاب مع صديقه، لكنه عندما ذهب إليه وجده بصحبة آخر، وبالتالى لن يستطيع تجربة السيارة.. رحبت به، وبدأت الرحلة.

لم تمضِ دقائق على بداية التحرك بالسيارات، التى كان يزيد عددها على العشرين، حتى وجدته يحاول فتح حوار معى، سألنى عن اسمى وبلدى، ثم صمت تمامًا بعدما أجبته بأننى من مصر.. فى البداية لم أهتم، ولم أرد على سؤاله بسؤال مماثل، فلست هنا للتعارف، ولا لتبادل أى شكل من أشكال الخبرات، حتى إن حاولت فلن تسعفنى اللغة.. لكن حالة الصمت تلك لم تطل بيننا، وبمجرد دخولنا إلى الطريق السريع، وزيادة معدل السرعة التى صار الجميع يتحركون بها، وجدته يقول بصوت شبه مسموع ودون أن أسأله: «أنا من إسرائيل»، سمعتها جيدًا، لكننى تحت وقع المفاجأة، التى لم يكن لى أن أتوقعها بأى حال من الأحوال، نظرت ناحيته وسألته: «ماذا قلت؟!» فكرر ما قال.. هنا كان علىَّ أن أركز عينى باتجاه الطريق، وأنا أقول له بنبرة ثابتة، واضحة الحسم، وبإنجليزية سليمة تمامًا: «انظر.. سوف أعتبر نفسى لم أسمع منك شيئًا، وأنك لم تقل أى شىء، وليسر الأمر على النحو التالى.. نحن مجرد شخصين بلا أى تاريخ شخصى، ويجب علينا أن نجلس وحدنا فى سيارة تتحرك بسرعة شديدة، على طريق سريع.. لا أريد أن أسمع منك، ولا أن أتحدث معك حتى نصل إلى نهاية هذه الرحلة اللعينة.. تمام؟!»، فرد بنفس الصوت شبه المسموع: «تمام».

كان يبدو من ملامحه أنه فى نهايات العشرينات، أو على مداخل الثلاثين من عمره، وأنه يريد الحديث، أو أن لديه رسالة ما عليه إبلاغها بأى طريقة، هكذا لم تمض دقائق أخرى حتى بدأ فى الحديث عن القضية الفلسطينية، طلبت منه مرة أخرى أن يصمت، لكنه استمر قائلًا: «حولنا عشرات الدول العربية، وكلها تريد حلًا لهذه المشكلة، وكلهم يقولون إنهم يحبون الفلسطينيين، فلماذا لا يأخذونهم ليرتاح الجميع؟!».

هنا وجدتنى ألتفت ناحيته بكامل جسدى، فيما تزداد قوة الضغط بقدمى على دواسة البنزين، وأقول له بكل هدوء وحسم: «تمام جدًا.. هذا منطق معقول، ولكن دعنى أوضح لك أمرًا بنفس المنطق، أنتم تقولون إنكم شعب الله المختار، وإن الله يحبكم دونًا عن كل شعوب الأرض.. بينما يقول الواقع، وحقائق التاريخ، إن الفرنسيين طردوكم من بلادهم خمس مرات، وطردكم الإنجليز أربع مرات، وقبلها تم طردكم من إسبانيا، والبرتغال والمجر وسويسرا، وبولندا وبعدها من إيطاليا وألمانيا.. ما يعنى بوضوح تام أنه لا أحد يريدكم فى هذا العالم، لا أحد يريدكم على وجه الكرة الأرضية! لهذا فإن المنطق السليم يقول إنه إذا كان الله يحبكم بالفعل كما تدعون، فلماذا لا يأخذكم عنده، فيرتاح العالم كله؟!».

لم ينطق بعدها بكلمة واحدة، ثم اختفى تمامًا فى استراحة الغداء.. ويبدو أنه تخلى عن تجربة القيادة، فعادت سيارتى خالصة لى وحدى.. وعادت لى، فى رحلة العودة، متعة القيادة دون زن، ودون روائح كريهة لم أذكرها فى الحديث عن رحلة الذهاب.