إبداعات الشراقوة
هيثم القليوبى يكتب: صندوق أسود

ذهبتُ إلى صورة أبى المعلقة فى الصالون، أُمعن النظر فى ملامحه الجميلة، فرحة لقرب لقائه، رجعت إلى أمى، سألتها: صِفِى لى أبى، لم أره منذ المهد، تركنى فى أحشائك بذرة، وراح يبحث عن رغد الحياة.
بكتْ أمى وربتتْ على كتفى وداعبتْ شعرى الأسود الناعم، ودثرتنى بحضنها، وأجابتنى بهمسٍ: «عماد» جميل المُحّيا، ممشوق القد، وجهه مشرق كالقمر، حنون وطيب، هو أجمل ما فى عمرى.
قاطعتُها بضحكة بريئة، وسألتُها وأنا أتمايل: أهو جميل مثلى؟!
همستْ: نعم، «هو» جميل مثلك، وأنتِ أخذتِ منه كلَّ شىء؛ لونه الخمرى وخفة ظلِّه، وطيبة قلبه.
نظرتُ إليها وأغمضتُ عينى، وصرخت بصوتٍ موجوعٍ بالشوق: مللتُ الانتظار يا أماه، فمتى نلقاه إذن؟!
ضحكتْ، وأجابتنى: اهدئى يا صغيرتى، سنذهب سويًّا إلى المطار، ونلقاه على خير.
تركتنى وانصرفت إلى حالها، هرولتُ إلى حجرتى، واعتليت سريرى وقفزت فى الهواء مرات ومرات، وجهرتُ بأشواقى المسلوبة على أوتار الغربة، لأعزف بها لحنًا شجيًا يصدح بأنغامه فى حنايا صدرى، وناديتُ على أبى: أحتاجك يا أبى، تربِّت على قلبى، وتؤنس وحدتى وتلملم ما تناثر من أحلامى الصغيرة.
نادت أمى: «حلا.. حلا».
انطلقت إليها مسرعة، وأنا لم أكمل هندامى، وبحثت عنها هنا وهناك، حتى وجدتها فى الصالون تتهامس مع عمى «إسلام»، فهرولتُ إلى عمى وارتميتُ فى حضنه، وضحكت معه، لكنه عبث بهندامى، تنكرت له وأشحت بوجهى بعيدًا عنه، وصرخت فيه: لا تعبث بهندامى، فأنا أريد أن يرانى أبى جميلة، وأنت أفسدت كل شىء.
ابتسم واعتذر، تسلل خالى «أحمد» من خلفى، وأمسك بى وعاث بشعرى وبفستانى وأكمل ما بدأه عمى.. بكيت وهرولت إلى حجرتى ومرآتى أهندم نفسى على عجل حتى نادت أمى: «حلا».
نظرت إليهم من خلف النافذة، فوجدتهم بجوار السيارة، ركضت إليهم وفتحت باب السيارة وجلست بجوار الشباك، تعلقت نظراتى بالحقول، وأنا أحاول كبح جماح نفسى المشغولة بلقاء أبى، فقمت من غفوتى على صدى صوت خالى «أحمد»: وصلنا.
ودون وعى فتحتُ باب السيارة، وانطلقتُ نحو بوابة المطار وناديتُ: أبى.. أبى، أين أنت يا أبى؟
صرختْ أمى بصوتٍ مخيف: «حلا.. حلا». التفتُ إليها، وتسمرت مكانى، فأسرعتْ من خلفى، وأمسكتْ بيدى الصغيرة، ثم تحركنا جميعًا إلى صالة الانتظار.
أعلنوا وصول الرحلة الآتية من «جدة»، فجذبنى عمى «إسلام» وحملنى بين ذراعيه، وهرول بى وهو يصرخ: رحلة «عماد» وصلتْ.
أخيرًا سأرى أبى، تخلصتُ من قبضة عمى وانتزعت جسدى من بين ذراعيه، وهرولتُ خلف خالى «أحمد» حتى وصلنا إلى «الطائرة»، وقفتُ أترقب وأنظر فيها وهى تحط على مهبطها، وانتظرتُ أبى طويلًا، نفضت «الطائرة» ركابها.. سألتُ أمى: أين أبى يا أمى؟
نظرتُ فى وجهها، نظراتها حزينة، فجأة تناثروا من حولى وركضوا وتركونى وحيدة أصارع حنين اللقاء، فهرولت إلى «الطائرة»، فلم أعد بحاجة إليهم، ولم أعد بحاجة سوى أن أرتمى بأحضان أبى، ليرفرف بذراعيه حول جسدى الصغير، ويخرجنى من قفصى الذهبى ويعيد لى أجنحتى المسلوبة لأطير فى سمائه.. انطلقتُ من خلفهم، وركضت أسابق خطوتى حتى تجاوزتُهم، وقفتُ أمام سلَّم «الطائرة»، وناديتُ: أبى.. أبى.
لحقتْ بى أمى واقتربتْ منى؛ كانت شاردة، تركتُها ودنوتُ من «الطائرة»، وظللت أنادى وأنا أتلفتُ من حولى: أبى ..أبى، أين أنت يا أبى؟
سجنت وجهى بين أناملى وبكيت، وأنا أبتهل «للطائرة» لعلَّها تفك أسر أبى، بكتْ أمى وانهمرتْ دموعها، وأنا لا أعى ما يجرى من حولى، ولماذا هى تبكى، أمسكتنى وحضنتنى وهى لا تزال تبكى وكأنها أرادت سجنى بداخلها، أحسست بشىء من الخوف يأخذنى من سعادتى وفرحتى، تعالت أنفاسى المتعبة، واقشعرَّ بدنى الضعيف وكاد قلبى يكفُّ عن خفقانه، سألتها: أين أبى يا أمى؟
أشارت إلى صندوق أسود!!
تركتُها وعدتُ من ذكريات الماضى الحزينة بندباتها المؤلمة، وها أنا الآن بين أحضان أمى، عروس انتظر فارس أحلامى بفستانى الأبيض المرصع بالكريستال، ليأخذنى على جواده، دون أن ألقى أبى، أو يأخذنى فى أحضانه، أو حتى يخرجنى من قفصى الذهبى.