المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أوليفيا.. رائدة نسوية أُزيحت من المشهد بقسوة

حرف

- هذه «الزهرة» كانت تصول وتجول فى الصحافة النسائية

فى عام 1908 تفجرت قضية الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، وكان هذا بفعل استعمارى محض وواضح للعيان، وهذا ليس مجازًا يستخدمه الساسة والمؤرخون، بل حقائق دامغة ثبتت صحتها عبر أحداث ووثائق وشهود عيان، وكان الاحتلال الإنجليزى يلعب دورًا لا لبس فيه، وذلك لتأجيج تلك الخلافات، وللأسف كانت الأرض ممهدة وخصبة لتفعيل تلك الخلافات، ولديها استعدادات عميقة للتفاعل مع ذلك الدور المشبوه الذى لعبه الإنجليز فى مصر لصالحهم، ولم يكن شعار أى محتل «فرّق تسد» المستتر، نوعًا من الوهم، بل كان حقيقة كاملة، وكانت كل عوامل الجهل والفقر تعمل على الاستجابة لكل ما يقال، إذ كانت الخلافات بين الفرق والأحزاب والساسة والقادة تعمل على قدم وساق، وكان الحزب الوطنى- حزب الزعيم مصطفى كامل- يؤيد مشروع الجامعة الإسلامية، أو الخلافة فى مواجهة الاحتلال الإنجليزى، وكان من ناحية أخرى أحمد لطفى السيد ضد فكرة الجامعة الإسلامية وكل امتداداتها التى تؤدى إلى مشروع الخلافة الإسلامية، وكان الشعب يعانى من جهل مدقع، وفقر مريع، ولذا كانت المشاعر الدينية مجالًا خصبًا لتلقى كل الضربات التى تصيب كثيرًا، وتخيب أحيانًا.

وظلّت تلك الخلافات تعمل بين الساسة والكتّاب والمفكرين دون هوادة، وفى ١٥ يونيو ١٩٠٨ نشرت جريدة «الوطن» مقالًا للكاتب فريد كامل يحمل بذورًا لتلك الفتنة، مما جعل الشيخ عبدالعزيز جاويش يبدأ فى اليوم التالى سلسلة مقالات فى جريدة «اللواء» تحت عنوان «الإسلام غريب فى بلاده»، وحمل فيه حملة شعواء على مسيحيى مصر، وكان حديثه أقسى ما وصلت إليه اللغة فى ذلك الوقت، وتكاثرت الردود فيما بعد عليه بشدة وعدم لين، وجاء فى مقال من تلك المقالات بجريدة «الوطن»: «إن هذا الدخيل الذى قذفته إلينا بلاد تونس أظهر كوامن حقده، وهو ينفث سموم تعصبه ضد المسيحيين المصريين بأقوال مثيرة للخواطر محرضة على الفتن..».

وفى مثل هذه الأمور دائمًا نجد لصوت الحذر مجالًا، إذ إن اللجنة الإدارية للحزب الوطنى بادرت إلى إصدار بيان تتبرأ فيه مما كتبه الشيخ جاويش فى جريدة الحزب، واستنكرت بشدة وجود أو بزوغ أى شقاق بين المسلمين والمسيحيين فى الوطن المصرى، وترددت فى الأوساط السياسية آنذاك جملة الشيخ محمد عبده: «إنه اعتدى على غير معتدٍ، وناضل فى غير حرب»، ودون أن نستدعى تفاصيل تلك المعركة، وحالة الشقاق والشد والجذب التى حدثت على مدى ثلاث سنوات من ١٩٠٨ حتى ١٩١١، فالأمر معروف تاريخيًا، وبالطبع حدثت واقعة الاغتيال المشهورة لرئيس الوزراء بطرس غالى على يد إبراهيم الوردانى، وحاول كثيرون تجديد أشكال الفتنة، بعد استخدام الحادث لإشعال التأجيج بشكل مطلق.

فى ذلك الوقت كانت الأصوات النسائية العاقلة تبدأ فاعليتها بشكل واضح، ومن بين تلك الأصوات أصدرت الشاعرة الشابة أوليفيا عويضة عبدالشهيد «الأقصرية» كتابًا عنوانه «العائلة»، وكان ذلك عام ١٩١٢، ولا يخفى على القارئ أن الكاتبة مسيحية، وكذلك من أقصى الصعيد، فضلًا عن كونها امرأة فى مجتمع ذكورى، ولم يكن للمرأة أى مجال لارتياد عالم الكتابة والشعر إلا قليلًا أو سرًا، أو محدودًا، وكانت المربية الفاضلة نبوية موسى قد أصدرت كتابًا لتعليم الفتيات عام ١٩١١ تحت عنوان «كتاب المطالعة العربية»، وهو فى ظاهره كتاب تعليمى، وفى محتواه كتاب قصصى اجتماعى محض، وسوف نتعرض لذلك لاحقًا، ولكننى أردت الإشارة إلى أن أصواتًا نسائية مصرية قوية كانت قد بدأت تنتزع لنفسها مساحات للتعبير عن نفسها، وهذا الأمر كان منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بالفعل خطوات عملية راحت تتقدم بقوة وثبات.

وفى مجلة «المحيط»، الصادرة فى نوفمبر ١٩٠٨، نشرت إحدى الجمعيات النسائية بيانًا حادًا جاء فيه على سبيل المثال: «المستقبل لهذا الجنس الذى تحتقرونه، أنا فى المنزل أكثر مما للرجل، فليس بعظيم علينا أن يكون لنا خارجًا مثله، نحن نصف العالم فلنا نصفه بلا جدال، نحن نصف العالم فلنا حق إدارته على كل حال، هل نحمل غبار البيوت ولا نستنشق عبير الحقول؟ هل كان سجننا فى المطبخ مؤبدًا؟..»، وهكذا جاء البيان صرخة مدوّية، ليعلن عن أن النساء صارت لهن القدرة على التعبير عن أنفسهن، دون الرجال، بل فى مواجهتهم، وفى مواجهة السلطة القابضة على مقاليد الحياة كلها.

لذلك كان إصدار «أوليفيا عويضة» كتابًا يتخذ عنوانًا اجتماعيًا، وهو «العائلة»، خطوة متقدمة للغاية، خاصة ما جاء فيه من موضوعات وأشعار وقصص فى غاية الجمال، من حيث الأسلوب الراقى، والذى ينطوى على بلاغة ومجاز وثقافة وإحاطة بما يحدث فى البلاد، رغم أنها تقيم فى أقصى الجنوب المصرى، فبعد أن تكتب الكاتبة إهداء الكتاب إلى والديها، تهديه إلى «حضرات القارئات والقرّاء»، وتقول: «أقدم إليكم هذا الكتاب يا مواطنىّ الكرام، راجية أن يعود على هذه الأمة المهيضة الجناح بالخير والفائدة، وإن رأيت ملكتنا (هاناسو) مصورة عليه لمحبتها الفنون الجميلة، ولشهرتها بقوة عقلها وجأشها، كانت فى سالف الزمان ترتع فى بحبوحة النعيم والراحة، وكأنى بتمثالها يشير إلى ذكرى المجد القديم الذى هيهات أن أراه مجسمًا».

وتظل أوليفيا تستدعى مشاهد مصر القديمة، ولا تتوقف عند المشاهد فقط، ولكنها تطرح كل ما هو متحرك وناطق فيها ودال، فتصرخ: «مضى ذلك الزمن وأسدلت عليه الأيام ستارًا كبيرًا من النسيان، ولكنه لم يكن ليخفض ما بقلبى من الألم، بالأمس كانت هذه الملكة سيدة عصرها، ونموذج الإقدام، وها هى اليوم وقد ضمها الثرى على جوانحه ما زالت مدفونة فى أعظم مكان فى فؤادى، إلى هذا الجدار أتذكر تلك الفاضلة وقد وقفت أمامك تحفّها جيوشها الظافرة وكأنى أسمع صدى ضحكاتها الرنانة، فما أنت إلا حسنة البارحة وعبرة اليوم».

ذلك الاستدعاء القوى، وما أتى بعده من مواقف وشواهد وأدلة على حال المرأة التى كانت قوية ومعتدة بنفسها، ما هو إلا حالة من التحريض المكثف لبنات اليوم، لكى يستطعن استيعاب ما كانت عليه هذه البلاد فى قديم الزمان، وجدير بالذكر أن تلك الفترة التى عاشت فيها أوليفيا عبدالشهيد كان بعض مبدعى الغرب ينهلون من التراث المصرى القديم لإنشاء روايات ومسرحيات حول تلك الحضارة الغابرة، تلك الحضارة التى علّمت الدنيا كلها فصولًا من الحكمة والهندسة والفن والشعر، ومن هذا المنطلق راحت «عويضة» تقيم جداريتها الفكرية والاجتماعية المجهولة، والتى تقف خلفها قصة مذهلة، غابت لأسباب عامة كثيرة معقدة، ولأسباب تخص حياتها فى صعيد مصر.

وكتاب «العائلة» لأوليفيا عويضة، والذى صدر مبكرًا فى ملحمة النهضة النسائية فى مصر، تم تجاهله أو تجهيله بضراوة، ودون أى إشارة له فى أى مرجع من المراجع التى تم اعتمادها لدى الباحثين والمؤرخين المصريين وغيرهم فى مناطق أخرى اهتمت بالحركة النسائية فى مصر وعملت على متابعتها، وانكبت عليها بحثًا ودرسًا ونقدًا وتشريحًا، مما يثير الشك والريبة فى مصداقية تلك الأبحاث ودقتها المعلن عنها، وصيتها الشائع شرقًا وغربًا، تلك الدقة التى تزعم لنفسها الشمول والكمال والإحاطة بكل ما حدث فى ذلك الشأن، وللأسف غابت وقائع وكتابات وشهادات وشخصيات عن غفلة، وربما عن عمد فى مجال العمل النسائى ذات أهمية بالغة، ونحن هنا ندين، بل نرصد ذلك ليكون الأمر واضحًا فى ظل التنافس الجاد على تحيق المصداقية، وتوفير كل ما يدعم الدقة، وبعيدًا أيضًا عن مسألة المظلومية التى لحقت بـ«س»، واستبعدت «ص»، لأن الأمر لا بد أن يأخذ منحى علميًا، بكل ما تعنى مفردة «علميًا» من جدية، ووفرة معلومات، وحياد صارم أمام الأغراض والتوجهات الأيديولوجية والدينية والعنصرية والتمييزية فى أى مجال، والأمر هنا لا يتعلق بأوليفيا عبدالشهيد ودورها وكتاباتها فقط، بل يتعلق بمسار كامل أغفل أو تجاهل عمدًا، أو نسى، أو تكاسل، أو لم ينتبه إلى أهمية ذاك أو تلك من العناصر التى دفعت الحركة النسائية إلى الأمام، أو إلى الخلف.

وبالطبع فكتاب «العائلة» يحمل كل السمات الطليعية التى كانت تسم كثيرًا من كتابات الطليعيين فى مطلع القرن العشرين، تلك الفترة التى كانت مرحلة تأسيسية لتقديم مادة فكرية وحركية تمهيدية، مادة لا تزعم لنفسها أى ريادة مطلقة، ولا سند مؤسسى لها من أى نوع، لكنها مادة كتابية شديدة الإخلاص لما تحمله من أفكار تبدو بسيطة فى مظهرها، لكنها عميقة فى معانيها، ومضمونها، ففى الفصل الأول، الذى جاء عنوانه «المولود والمولودة وطفوليتهما»، تسرد الكاتبة كل التقاليد التى جاءت وتراكمت فى ذلك الزمان، وتهمس قائلة: «أقبض على يراعى لأخط شيئًا عن تأثيرات العادات فى رقينا، فأراه يكاد يقطر دمًا، لأن لنا عادات ذميمة قضت على كثيرين منا، وتقضى وسوف تقضى ما دمنا نستمسك بها، فمتى ولد عندنا غلام- بعكس البنت- انشرحت الصدور، وارتفع أريج البخور، وصدحت الموسيقى، وضربت الطبول إعلانًا بقدومه، وليت الأمر يقف على ذلك بل إنهم يلفونه فى الشالات الكثيفة، والملابس الكثيرة، خوفًا عليه من البرد والزكام»، وتتمادى أوليفيا فى استعراض مشاهد الفرح والبهجة التى كانت ترافق قدوم المولود «الذكر»، وبعدها تستعرض وتسرد وتفكك كل الطقوس الاكتئابية التى كانت ترافق قدوم «البنت» والحرص على إهمالها، ربما ترحل، وتخلّص العائلة من عبئها الثقيل، لأنها تجلب العار والشنّار لأهلها، وبالتالى سنجد أن أوليفيا ترصد سلسلة من الفلكلوريات التى تصلح كمادة خام لدراسة الشخصية الصعيدية فى ذلك الوقت، مع استنكار تلك الفلكلوريات التى تبدو طريفة للبعض.

وكأى مصلح اجتماعى، نلاحظ أن كاتبتنا الرائدة ترصد كثيرًا من مواطن الخطأ والعوار التى تخترق كل مجالات الحياة وتفسد معانيها، وتستفيض أوليفيا بجدارة فى ذلك، دون الاستشهاد بنصوص دينية، أو مقولات جاهزة من المأثورات، فقط تتعامل مع ضمير يقظ وحى! ونقى، وكذلك تسترشد بالحضارة التى صاغت دعائم الدولة المصرية القديمة، والتى ظلّت حتى الآن مبهرة لأى ناظر لها، وعندما تسترشد أوليفيا بتلك الحضارة القديمة، لا تحلم باستعادتها كما كانت، ولكنها تعى جيدًا جدلية التاريخ، وكذلك تدرك أن التاريخ لا يمكن إعادته كما كان، فهى تطرح أفكارًا ذات بريق وجدوى وتصلح لكى تكون ذات منحى برنامجى أصيل فى كل المشروعات القومية.

تتطرق أوليفيا إلى كل مظاهر الحياة المصرية الحاضرة- آنذاك- فتتحدث عن التعليم- على سبيل المثال- وتخصّص فصلًا كاملًا عن «الأستاذ»، وتبدأه بـ: «العلم من ألذّ مطالب الحياة للمجتهدين الذين يزدادون ولهًا به متى كان الأستاذ لطيفًا حنونًا مطربًا إياهم بدرر ألفاظه وحسن شرحه، ولما كان المتعلم فى أول عهده قاصر الفهم، ميّالًا بفطرته للحركة واللعب والإهمال، تأثر المعلم من ذلك تأثيرًا يذهب بصبره ويحمله على معاملة تلاميذه بالقسوة والضرب..»، ويظلّ هذا هو المنهج الذى تسير عليه أوليفيا، ككل علماء الاجتماع والإصلاحيين الكبار ذوى العلم والتجربة، ترصد مركز المشكلة، دون استفاضة إنشائية، ولكن بتكثيف يكاد يكون ممتعًا لبلاغته، ثم تسترسل فى عرض الحلول البرنامجية دون أى استعلاء أو تعاظم أو استعراض تعليمى وثقافى، ولكنها تناقش المشكلة، وكأنها تحاور كل العقول اختلافها، وفى نسبيتها، وتتوالى فصول الكتاب الممتعة والمفيدة: «الإهمال آفة النجاح، البنت فى المدرسة وبعدها»، وفى هذا الفصل تنشئ قصيدة بديعة بمقاييس تلك الأيام، قصيدة تكاد تكون إرشادية حتى تتناسب مع ذلك النزوع الإصلاحى الاجتماعى، والإرشادى كذلك، وهى قصيدة تخلو من حشوها بمفردات غليظة وثقيلة على السمع، كما كانت سمة شعراء ذلك العصر، تقول أوليفيا فى مطلع القصيدة:

«إلى متفرنجات العصر أهدى حديثى بعد تقديم السلام

وأبعث من فؤادى خير حب أزوّده بملء الاحترام

بنو الأوطان لامونا جهارًا لعمرى قد أطالوا فى الملام

وقالوا إننا صرنا كجن يخاف ظهورنا كل الكرام

لهم فى لومهم حق كبير وللأزياء صرنا فى هيام».

وهكذا تنحو القصيدة، لتعرض فيها أوليفيا المواطن التى تراها نوعًا من العوار فى فتاة اليوم، ثم تستعرض حلولًا وأفكارًا صالحة للتنفيذ دون وصاية، ودون تقريرية مقيتة، إنها مبدعة وكاتبة مفعمة بحب غامر لبلادها، وتتوالى الفصول لتطرح كل القضايا التى كانت حديثة فى ذلك الوقت، حول المرأة وحريتها المغدورة أو المنقوصة أو المهدرة، فتكتب قصيدة «الرجل المصرى»، وتتنقل القصيدة بين الجد والطرافة دون أى هجوم واضح، فنجدها تقول:

«يا أيها الجنس النشيط إليكم خطرات فكر عنكم تتردد

أرجو بها الخير الجزيل ونفعكم ولكى يدوم لكم بذاك السؤدد

إنى كتبت ألوم جهل نسائنا والآن أكتب للرجال وأنقد

لا تغضبوا مما أخاطبكم به والنصح أبغى للجميع وأنشد».

وتأتى هذه المقدمة بهذا الشكل الطريف والمؤدب فى الوقت ذاته لكى ترصد هؤلاء الرجال الذين يعملون على تسييد بعض الصفات الكريهة فى المجتمع، ونجدها بعد هذا اللطف، تنبرى بحماس غامر لكى توجه رسالة حادة إلى الرجال المتغطرسين:

«يتقاعسون عن الرقى جهالة وعلى فعال الطالحات تعودوا

فيروم واحدهم إهانة جاره والتيه ساعده الذى يتقلد

وكأنه ملك البرية كلها أو أنه الفرد الوحيد الأمجد».

ولا ريد أن أستعرض كل فصول وأفكار ذلك الكتاب العظيم، الذى لا يقل، إن لم يزد عن تلك الكتابات التى كانت ترسلها مى زيادة، أو باحثة البادية «ملك حفنى الدين ناصف» فى ذلك الوقت، ولكننى أريد أن أستعرض قصة أوليفيا نفسها التى اختفت تمامًا بعد سنوات قليلة، كانت تنشر بعض قصائدها فى مجلة «الزهور» فى عامى ١٩١٤ و١٩١٥، والتى كان يرأس تحريرها الكاتب الصحفى «أنطون الجميل»، وقرأت لها بعض مقالات قصيرة فى مجلة «المراقب» اللبنانية عام ١٩١٣، ولكننى لم أجد لأوليفيا عويضة عبدالشهيد أى أثر، وكالقصص البوليسية، وأنا أتصفح مجلة كانت تصدر فى القاهرة فى مطلع عقد الستينيات من القرن العشرين، وهى مجلة «الحياة»، وفى العدد الصادر فى ٢٣ مايو ١٩٦١، قرأت حوارًا أجرته معها الكاتبة صوفى عبدالله، تحت عنوان ملفت «رائدات»، وكان عنوان الحوار «أول أديبة بالصعيد.. شابة فى الخامسة والستين»، وانتابتنى دهشة لا أنساها، لتستعرض قصة غريبة الشأن، فتقول: «.. واستيقظت الأقصر لتجد أن فتاة خرجت وتعلمت، ثم فتحت مدرسة، وذهبت لتخطب فى معاهد الرجال، وكنت شديدة التحمس لمصطفى كامل، فأطلقوا علىّ اسمه»، وتستطرد نيابة عنها المحررة صوفى عبدالله: «ومرة ثانية استيقظ أبناء الصعيد ليجدوا اسم أوليفيا عويضة منشورًا فى الصحف، كانت تكتب فى المؤيد، ويزورها الشيخ على يوسف، وأصبحت صديقة قريبة للشيخ مصطفى عبدالرازق، واشتهر اسمها، وبدأت تتلقى سيلًا من الخطابات، بعضها سخيف، وبعضها غزل، وبعضها تهديد»، وتستكمل أوليفيا: «والناس يلوكون اسمى، فآثرت أن يكون لى اسم مستعار هو (الزهرة)، وقلت لماذا لا أكون زهرة لامعة للأدب، وأخرجت عشرين كتابًا وكلها تحمل اسم المؤلفة الزهرة».

لم أستطع إخفاء دهشتى وحيرتى، لأن هذه «الزهرة» كانت تصول وتجول فى الصحافة النسائية التى تواكب صدورها فى القرن العشرين، وعلى رأسها مجلة «فتاة الشرق»، ومجلات أخرى منها «الثقافة» لأحمد أمين، و«الرسالة» لأحمد حسن الزيات، حتى استقرت فى عقد الخمسينيات فى مجلة «روزاليوسف»، ولتثبت أنها إحدى الرائدات النسويات المجيدات، ولكنها اغتيلت تحت عجلات التخلف والغيرة والاستبعاد المتعسف لها ولكل مجهوداتها، وسوف نستعرض بعض مآثر «أوليفيا/ الزهرة» فى الحلقة المقبلة إن شاء الله.