المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ثلاث نساء فى غرفة ضيقة.. كيف أرهقتنى هناء متولى بمجموعتها القصصية؟

حرف

- لا أحد يتعاطف معك ولا يفهمك لأنه مجرد جرح صغير «تافه»

- تقتحم هناء متولى العالم الواسع الذى نعيش فيه بكل ما يموج فيه من قضايا

«ثلاث نساء فى غرفة ضيقة».. عنوان موحش لمجموعة قصصية متميزة وكأن الكاتبة تعدنا جميعًا بالعنوان الذى انتقته لما سوف تحكى عنه بصوت ولسان بطلاتها، النسوة اللاتى يشبهن جميعًا وتتقاطع حكاياتهن مع حكاياتنا المسكوت عنها، ويشبه وجعهن وجعنا الذى لا نبوح به حتى لأنفسنا، وننفيه وننكره، فيبقى ثقيلًا راسخًا كندبة فى الروح لا يبارحها ولا يبارحنا حتى ترفع هناء متولى الحجب عن صمتنا بصوت بطلاتها فتعتقلنا جميعًا معهن فى «الغرفة الضيقة» وتفقأ عين العالم المتغافل عما يحدث بحقيقة ما حدث وما زال يحدث.

أرهقتنى هناء متولى منذ خاطبت السيدة «سيلفيا بلاث» فى بداية مجموعتها القصصية، تلك السيدة التى كنت لا أعرفها فبحثت عنها لأعرف من هى بعدما قرأت رسالة هناء لها والتى صدرت بها مجموعتها القصصية، فأحسست أسى وألمًا وحزنًا على تلك السيدة المجهولة لى، وتنبأت بمصيرى مع الكتاب وقصصه وهناء متولى، وكأن العنوان الموحش لا يكفى «هناء شاطرة وبتكتب حلو ومالكة عالمها وتفاصيله، لكن أنا شكلى كده مع الكتاب ده وقعتى سوده»، وكان لى ما توقعته.

لماذا «سيلفيا بلاث»؟ كتبت هناء متولى فى صدر مجموعتها القصصية رسالة للسيدة «بلاث» قالت فيها من ضمن ما قالت «أعدك أننى سأكتب حتى حين تلتهم النار القلم، كما كتبت حين كان العالم بأكمله صامتًا، سأترك خلفى كلمات تقاوم الذبول، تمامًا كما فعلت»، لترسم لنا الكاتبة بكلماتها - وقبلما نسمع حديث وبوح بطلاتها - دربًا سارت فيه «بلاث» قديمًا، وتسير فيه الآن من خلفها ومعها الكاتبة ونحن جميعًا برفقتهن، دربًا يتردد فيه صوت الغضب والوجع عاليًا متحديًا الصمت الثقيل الذى حاولت «بلاث» وحاولت الكاتبة وبطلاتها تحطيمه بالبوح والفضح والتمرد والمواجهة، لماذا «سيلفيا بلاث»؟ سؤال سنجد إجابته مع بطلات المجموعة القصصية التى تخايلهن «بلاث» بالطريق الذى سيعتقهن مما عشنه ويعشنه مهما كان الثمن ثقيلًا وموجعًا..

وهكذا بدأت رحلتى مع «ثلاث نساء فى غرفة ضيقة» لأعيش وقتًا ثقيلًا مع مجموعة قصصية أرهقتنى نفسيًا ببراعتها ووجعها الثقيل، وكلى ثقة أن هناء سعت للعصف بالقراء، وهى تكتب هذه القصص، العصف بهم وصدمتهم، فلن أصحبكم فى نزهة ولا رحلة خلوية ولا فيلم يضحك ولا أغنية شاعرية، بل نحن سنعيش معًا ومع القصص والبطلات والعالم الثقيل ملمحًا ولو صغيرًا من الحياة التى تظنون أنكم تعرفونها، ولو تعرفونها فعلًا، فأهلًا بكم معنا لتعايشوا ألمها وثقلها ووجعها من جديد.

واكتشفت من القصة الأولى فى المجموعة أن كل القصص فيها موجعة وثقيلة وجميلة، فالكاتبة اقتحمت بنا أغوار عالم نعرفه نحن النساء جيدًا كل تفاصيل وجعه وننكره، نعرفه ونرفضه، نعرفه ونفر منه ونتجاهله، لتجىء الكاتبة وتقرر ببراعة وشاعرية وصرامة وعنف أن تصدمنا بوجود هذا العالم، وهى صدمتنا فعلًا وخلعت عيوننا وألقتها فى السرداب الأسود داخل دوامات التفاصيل الصغيرة التى تصنع هذا العالم الموحش المسكوت عنه، فكأنها تصرخ غاضبة وتدعونا لمشاركتها الصراخ والغضب والتمرد، بل وتحرضنا على الرفض والمقاومة والمواجهة، فليس مقبولًا أن نرى كل هذا ونصمت عنه ونتجاهله وكأنه لا يحدث، إنها بحق روح المقاومة العاتية التى تجوب بين قصص المجموعة وعلى لسان بطلاتها تحرضنا على الغضب والرفض واللعنة كل اللعنة على من يرى ويصمت، ويرى ويقبل، ويرى ويرضخ، لنرى وسط القصص والحكايات «سيلفيا بلاث» تدق على الجدران العفنة بيديها العاريتين لتحطمها «حين كان العالم كله صامتًا»، ونرى «هناء متولى» تكتب و«النار تلتهم القلم» لكنها تكتب وستكتب.

فنعيش وقتًا طويلًا ثقيلًا مع «سناء» و«سعدية وليلى» و«نرجس» و «نهى» و«نورا» وغيرهن من بطلات المجموعة القصصية، وقتًا يفجر مع كل قصة وكل بطلة وكل حكاية أسئلة كثيرة ثقيلة تلاحقنى من صفحة لصفحة بين غلافى الكتاب، وهمسًا يطن فى رأسى، أنا للأسف أعرف هذا العالم الذى كتبت عنه هناء ربما ليس بذات السياق المبدع الصادم الذى نسجت به الكاتبة عالم بطلاتها، لكنى أعرفه وصامتة عنه مثلنا جميعًا، صامتة عنه وكأنه لا يحدث فلا أكتب عنه ولا أقترب منه، لكن ها هى هناء متولى تواجهنا بصمتنا بضعفنا بهشاشتنا، بإنكارنا وخرسنا أمام كل ما يحدث، تواجهنا غاضبة تدين سلبيتنا وضعفنا، وترانا شركاء فى الوجع الذى أحسته بطلات قصصها وتحسه كل النسوة لأننا صمتنا وتجاهلنا وخرسنا، وما زال الهمس يطن فى رأسى وما زالت الأسئلة كثيرة بلا إجابات.

فى هذه المجموعة، تقتحم هناء متولى العالم الواسع الذى نعيش فيه بكل ما يموج فيه من قضايا كبيرة سياسية واقتصادية واجتماعية وثروات وثورات وحروب ومؤامرات ومصائب ثقيلة تحطم رأس الكوكب وأهله، وتنتقى لقلمها دربًا قد يبدو صغيرًا، دربًا إنسانيا شخصيًا، دربًا ضيقًا يشبه الجرح الصغير الذى مزقت شفرة الموسى الرفيعه الجلد الحى به فتترك ألمًا حارقًا لاذعًا يتجدد مع قطرات العرق والماء واللمسة مهما كانت طيبة، وذرات الملح وخشن الذكريات، جرح صغير ربما لا تراه لكنه يؤلمك ويؤلمك ولا مفر من ألمه، لكنك لا تصرخ، تشكو بل تصمت وتتعايش وتبكى فى الظلام ولا أحد يتعاطف معك ولا يفهمك لأنه مجرد جرح صغير «تافه» أمام كل مصائب الكون، فعش ألمه وتجاهله وانسه. 

انتقت الكاتبة هناء متولى هذا الدرب الضيق الموجع، وخاضت فيه بقوة وشجاعة وعزيمة القادر على الفضح والكشف والتصدى، عزيمة وشجاعة المحرض على التمرد والمواجهة والتحدى، لتصرخ فى وجه ذلك العالم البليد الذى بقى صامتًا وقتما كتبت «سيلفيا بلاث» قديمًا وما زال صامتًا، تصرخ الكاتبة بصوت بطلاتها، لا يكفينا نعيش ونأكل ونعمل ونحارب وننجح ونهزم وننتصر، علينا أن نسأل أنفسنا سؤالًا كبيرًا، كيف حالنا ونفسيتنا وأرواحنا وسط كل هذا وأثناءه، كيف حالنا نحن النساء؟ ونحن نعيش ونأكل ونشرب ونعمل، كيف حالنا؟ هل نعيش حقيقتنا ومشاعرنا وغضبنا ووجودنا ونعبر عنها؟ أم نصمت ونتجاهل؟ وكأن كل ما يحدث فينا لا يحدث حتى ننفجر فجأة كانشطار نووى عاصف وصفته هناء متولى فى قصصها ووصفت معه حال بطلاتها أثناءه بطرق مختلفة وموجعة وقاسية. 

احتوت هذه المجموعة القصصية على أربع وعشرين قصة، لكنى لن أكتب عن كل قصه فيه لن أحكيها ولن أذكر اسم بطلاتها وما عشنه، لن أحكى كل وجع عاشته البطلات ولماذا وكيف، لن أكتب لكم عن «نهى» وكيف قررت تعيش الاحتضار بمنتهى الجدية حتى تكتب عنه وكيف «يسقط القلم على أرضية الغرفة دون أن يصدر صوتًا»، فى «أقراص المنوم الخمسة»، لن أكتب لكم عن «هند» وكيف تشتاق لرجل حقيقى لكنها سعت لـ«زوج مبرمج»، لأنه «لن يخون» حتى عرفت أن «اللصة سرقته» فصرخ فى وجهها «أنت طالق»، «لقد خنتك لأنك تستحقين» فـ«ارحلى بعيدًا يا سمينة»، لن أكتب لك عن «رسائل إلى ميرنا» التى كتبتها شقيقتها اتباعًا لنصيحة طبيبها، وأسئلتها المتلاحقة فى رسالة تلو الأخرى «لماذا قتلت نفسك يا ميرى؟ ألم تجدى حينها حلًا آخر؟»، «لماذا تتحمل الأمهات كل هذا القهر؟» و«هل تألمتِ عزيزتى فى الدقائق التى سبقت مماتك؟» حتى أخبرتها «لقد أنهيت كل شىء»، لن أكتب لكم عن المشاهد الأربعة لـ«دموع الكراميل» التى طالبتنا الكاتبة فى بدايتها بأن نتخيل أننا أمام خشبة مسرح والأحداث تدور هنا والآن لنعيش معها الزمان والمكان، ونرى الديكور ونرى فى المشهد الأول سيدة وقورة حزينة تبكى فى صمت تتقبل العزاء، ونراها فى المشهد الرابع متكورة على أرض الحمام ونسمع صوت نحيبها كحيوان جريح يئن نزفًا، ونراها فى المشهد الخامس تحضر الكراميل وتسقط فيه دموعًا جديدة، فعليكم أن تصاحبوا هناء متولى رحلة دربها الموحش وهى تنقش وجع بطلاتها حرفًا حرفًا لتستعذبوا معها الألم وتعيشوه بكل تفاصيله ووجعه وقهره، وبعدها أمامكم العالم الذى تعيشون فيه، فلتصنعوا فيه وبه وفى أنفسكم ما تريدونه.

أربع وعشرون قصة فى الكتاب، عشنا فيها مع الكاتبة بكل الوجع الممكن، الوجع الذى يتصاعد من قصة لأخرى، أوجه مختلفة للألم النسوى الذى تعيشه النسوة وينكرنه ويتعايشن معه، وتغضب وتفقد صوابها وعقلها وتتحدى وتتمرد وتهزم وتكسب، لكن الألم باقٍ موجع لا مفر أمامها إلا اصطحابه فى رحله حياتها، فمهما نجحت كبرت، فلحت، انتصرت السيدة، أى سيدة، سيبقى جرح الموسى الصغير الحارق «ينغض» عليها حياتها وتتناساه وتنكره حتى تأتى هناء متولى ورفيقتها «سيلفيا بلاث» ليهدما عالم السكون والصمت والتحمل على رءوسنا، ربما وقتها سنبكى وربما نغضب وربما نتمرد، لكن الأمر المؤكد، أننا أبدًا لن نبقى ولن نعود كما كنا قبل قراءه هذه المجموعة القصصية، والأمر المؤكد واليقينى، أن هناء متولى لم تحتجز فقط «ثلاث نساء فى غرفة ضيقة»، بل احتجزتنا جميعًا القارئات والغريبات ومن نعرفهن ومن لا يعرفننا، احتجزتنا جميعًا فى تلك الغرفة الضيقة علنا نقرر ونقوى أن نخرج معًا من هذا الاحتجاز، ونحطم هذا العالم الثقيل بكل ما يحدث فيه وكأنه لا يحدث.

برافو هناء متولى «شاطرة جدًا هناء، شاطرة وعارفة بتكتب عن إيه، عارفة تفاصيل العالم الموحش ده كويس، عاجنة وجعه وخابزاه، سارت فى دروبه على الزجاج حافية وهى تلتقط نثرات وشفرات الزجاج المشحوذ تنسج منها قصصها وتكتب بها وجعنا وإدانتنا ووجعها الثقيل» برافو.