المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مراد العارف.. الخبرة الجمالية والمقترح السردى عند أحمد صبرى أبوالفتوح

أحمد صبرى أبوالفتوح
أحمد صبرى أبوالفتوح

- الكاتب يوظف تقنية الفلاش باك على نحو غير تقليدى

- تبدو «مراد العارف» لعبة جمالية معنية بالنوع الأدبى «الرواية» وحاملة تساؤلات فنية

يراكم الكاتب الروائى المصرى أحمد صبرى أبوالفتوح منجزًا سرديًا يخصه بلا ضجيج أو افتعال، بدءًا من روايتيه «طائر الشوك» و«جمهورية الأرضين»، وينطلق من بيئته المحلية، وتاريخ الجماعة البشرية التى ينتمى إليها مثلما صنع فى «ملحمة السراسوة» بأجزائها المتعددة «الخروج/ التكوين/ أيام أخرى/ شياطين.. ملائكة/ حكايات أول الزمان»، أو يرتحل إلى عوالم هامشية ترتبط بأحداث فارقة كما حدث فى «أجندة سيد الأهل»، أو مقاربة فضاءات مغايرة فى «برسكال» أو المزج بين المقولات الكبرى والتفاصيل الصغيرة فى «تاريخ آخر للحزن»، وقد يرتحل فى «حكايات من جنازة بوتشى» صوب ما هو إنسانى خالص، فى رواية الجدل الخلاق، والأسئلة المتجددة، وفى «صاحب العالم» تلوح مغامرة عبدالحميد دهمش بطله الموزع بين الواقع والهلاوس، الحقيقة والفانتازيا.

وفى روايته الجديدة «مراد العارف»، والصادرة فى القاهرة حديثًا عن «دار الشروق»، يعاين أحمد صبرى أبوالفتوح عالمًا مختلفًا عن تنويعاته الإبداعية المشار إليها، حيث يبدو كاشفًا عن تصوراته عن فن الرواية، منطلقًا من لعبة فنية مركزها السردى بطله مراد العارف، الذى يصفه فى أكثر من موضع داخل النص بأنه «روائى بلا رواية»، ولذا يظل طيلة النص فى حال من مطاردة رواية يكتبها، والمفارقة المؤسية والساخرة فى الآن نفسه أن كراسته التى دون فيها كل شىء لم تعد موجودة، وأفكارها وتيماتها عفا عليها الزمن المتحول باستمرار، وحينما يلتقى كل من ليلى فرحات الباشا أو ليلى « تاتو» كما أطلق عليها، وهبة الله عبدالمقصود الدمشاوى يعتقد أخيرًا أنه قد وجد بغيته، لكن تتسرب الرواية من بين يديه من جديد، مثلما يتسرب كل شىء.

إنها لعبة جمالية مراوغة، جوهرها ما طرحنا، وبدايتها منذ العنوان المخاتل «مراد العارف»، الذى قد يحيل المتلقى على نزوع صوفى فى الرواية تؤشر عليه مفردة «العارف»، الواردة فى العنوان، غير أن هذا التأويل المسبق سرعان ما يزول، عند قراءة الرواية، فالعارف ليس سوى إثبات لاسم البطل داخلها، وهى تمنح العنوان دلالته المراوغة من جهة، وتنفتح على أفق الدلالة الضدية، فمراد الذى اعتقد أنه قد خبر الحياة، وعرفها جيدًا، يبدو وكأنه يتعرف على تحولات الواقع المتسارع من جديد عبر البطلين المشاركين فى السرد «ليلى الباشا وهبة الله الدمشاوى».

ثلاثة خطوط سردية

ثلاث خطوط رئيسية إذن تتجادل معًا فى رواية «مراد العارف»، 

خط قص رئيسى يحيلك على البطل المركزى داخلها مراد سليمان محمد العارف، وخط ثان ترويه هبة الله عبدالمقصود الدمشاوى، وخط ثالث تهيمن عليه ليلى فرحات الباشا، ولكل حكايته، والخيط الجامع بينهم جميعًا جغرافيا السرد وتقاطعاتها الممتدة من جهة «المنصورة بقراها»، ومراد العارف نفسه من جهة ثانية. 

أما الخيط الأكثر عضوية فى لملمة النثار المتشظى داخل الرواية فيتمثل فى المنطق الجمالى الحاكم للنص، والتماسك النصى بين مكوناته البنيوية من جهة ثانية. 

فثمة روائى بلا رواية، صحافى مغترب تخصص فى كتابة السيرة الذاتية لمن يدفع، وتعجزه أدوات التعبير الفنى، هذا هو مراد العارف، يلتقى على متن الطائرة المتجهة من المملكة التى يعمل فيها إلى القاهرة، وموطن رأسه المنصورة، بليلى الباشا أو «ليلى تاتو»، وتدور بينهما حوارية سردية تعد أساسًا ينطلق منه النص. والحوار جزء أصيل من الرؤية السردية للرواية هنا، ويحتل مساحات لا بأس بها منها. ويبدو كاشفًا عن ذهنية الشخوص وسيكولوجياتهم.

وتعتمد الرواية على التداخلات الزمنية، ويوظف الكاتب تقنية الفلاش باك على نحو غير تقليدى، حيث يدمجه مع خط السرد الأساسى تارة، أو يجعله بمثابة استئناف للسرد من جهة ثانية: «لكن الهموم التى أنا عائد بها سرعان ما اجتاحتنى، واسترجعت من حيث لا أدرى ذلك الحلم الذى افتتحت به طريق العودة، فيه كنت أقف ويداى مضمومتان إلى صدرى، بداخلى رغبة فى الاعتذار، أين كنت؟ مِمّ أعتذر؟ وإلى من أعتذر؟ لا أعرف، ولما استيقظتُ ظللت دقائق وأنا أجهل من أنا، أو أين أنا، وارتعبت، وأغمضت عينى مستسلمًا، ولما جاءتنى أصوات الحياة قادمة من بعيد برق شىء فى دماغى وعرفتنى.

أنا مراد سليمان محمد العارف، الصحافى فى جريدة الشرق وكاتب السِّيَر الذاتية المعروف، والروائى بلا رواية، وأنا الآن نائم فى شقتى بالطابق السادس فى بناية الشمس بميدان التكوير فى المدينة التى عشت فيها أكثر مما عشت فى بلدى، وغمرنى شعور قوى بالأسف.

هذا الحلم لازمنى حتى النهاية، فى كل مرة أستيقظ وأبقى دقائق لا أعرف من أنا، ثم أعود إلى واقعى وقلبى ثقيل، والخوف يتملكنى، ثم تطور الأمر فأصبحت أشعر بالخوف لمجرد أن يخايلنى الوسن، فما إن يخايلنى حتى ينضغط الألم إلى أقصى حد، ثم ينطلق كالرصاصة صوب قلبى، ويكون علىّ إما أن أبقى مستيقظًا حتى يطلع الصبح وإما أن أنام بقلب مثخن بالجراح».

ويحضر الصوت السردى لمراد العارف فى مقاطع عشرة مروية على لسانه، ولتمييزها تأخذ ترقيمًا عدديًا «١، ٢،.. »، وتتناثر فى الرواية وفق استراتيجية بنائية تعتمد على تقنية الاتصال/ الانفصال، وهكذا تعتمد الرواية أيضًا فى بنائها على جدل الاتصال والانفصال، حيث مكونات السرد متناثرة بطريقة الفرش والغطاء، مقطع ممهد لمراد يتلوه مقطع مروى على لسان هبة الله الدمشاوى، يتبعه مقطع مروى على لسان ليلى الباشا، ليعود بعدها خط القص الرئيس إلى مراد العارف، وهكذا.. 

تقنيات النص

يكسر الكاتب أفق التوقع لدى المتلقى، بدءًا من مقطع «هبة الله» الذى يتلو المقطع الأول المروى على لسان مراد العارف، حيث يتوقع المتلقى أن راوى المقطع التالى سيكون ليلى الباشا التى جاء ذكرها فى المقطع الأول، لكن الكاتب يراوغ متلقيه، ويذهب صوب وجهة جديدة بطلتها هبة الله الدمشاوى، التى ينفتح معها مسار سردى جديد، يلوح فيه شخصية مركزية أخرى هى إسماعيل هدهد الشيخ الهرم الذى تزوج من تلميذته فى الجامعة، الفتاة المعدمة «هبة الله الدمشاوى»، وهدهد الذى تقدمه الرواية بوصفه أستاذًا هرمًا للأدب والنقد، والناقد الأشهر، والمسيطر على الواقع الأدبى والثقافى العربى، مدجج بالمعرفة، ومعاد للنزاهة، فيرفع أقوامًا ويهبط بآخرين، حسب هواه، ومصالحه، وشبكات علاقاته الممتدة هنا وهناك، تروى هبة فى مستهل الفصل الذى تتوجه بالخطاب السردى فيه إلى مراد من جهة، وإلى المتلقى من جهة ثانية:

«ضبطنى سرحانة فى محاضرته، نظر إلىّ طويلًا وأنا غير منتبهة، غائبة عن المكان تمامًا، وصمت الجميع، ولما طال الصمت انتبهتُ، نظرت فإذا بالجميع يضعون أكفهم على أفواههم وينقلون النظر بينى وبينه، وأشار إلىَّ لأقف فوقفت.

ربنا ما يُوَرِّيك، مهما قلت فلن تتخيل مدى خزى من يضبطه الدكتور إسماعيل هدهد، أستاذ الأدب والنقد، وهو سرحان فى محاضرته، الموت أهون مما سيلاقيه، لأنه سيُضَحِّك عليه المدرج كله، ويظل مادة للتندر طوال السنة.

فى مثل هذه المواقف كم شعرت بالإثارة، فمهما قلت لن تدرك أبدًا حجم موهبته فى السخرية، ولكى تعرف لا بد أن ترى وتسمع بنفسك، فهو لا يترك شيئًا فيك إلا ويجعله مادة للسخرية، اسمك، بلدك، شكلك، أسبابك، وعندما تظن أن مَعينه نضب يفاجئك ويرتجل سخريات تجعلنا ننام على بطوننا من الضحك، ويا ويله من يضحك بصورة صريحة! فهو لا يتسامح مع أحد يقهقه، يضمه إلى الضحية ويجرى عليه ما يجرى عليها، فقط يتسامح مع تلك الانفجارات التى تخرج من أنوفنا عندما نعجز عن كتم الضحك.

فى النهاية سيكون عليك أن تتوقع العقاب، أقله الحرمان من حضور محاضراته، والأسوأ ألا تجتاز مادته فى هذه السنة، وقد يوضع اسمك فى القائمة اللعينة التى يحملها فى جيبه. أن يحدث معى ذلك فهذا ما لم أتوقعه». 

وتنحو خطوط السرد الرئيسية الثلاثة «مراد/ هبة الله/ ليلى» صوب التعبير الفنى عن ماضى الشخوص فى مقاطع عديدة منها، من قبيل ما ترويه ليلى الباشا:

«لا أصدق أننى كنت تلك الطفلة التى يقول الجميع إنها أجمل بنت فى ميت خميس، اعتادت أمى أن تتفنن فى إظهار جمالى، مرة تجمع شعرى للخلف وتربطه فينزل ذيل الحصان فوق ظهرى، ومرة تصنع من شعرى كعكة كبيرة، وفى الأفراح والمناسبات السعيدة تطلقه حرًّا فيهفهف وأنا أروح وأجيء، وفى كل يوم وأنا ذاهبة إلى المدرسة تقول: يا أرض احرسى ماعليكِ، فإذا تصادف وسمعها أبى يهز رأسه ويقول: ليت الأمر بالجمال يا بنت شيخى!

طفولتى فى معظمها رمح، فإذا رآنى أبى ينهرنى، وكذلك تنهرنى أمى، ويتعجب أساتذتى مما أفعل، كمهرة صغيرة لا تكفّ عن الرمح أكون أول من يصل إلى الفصل بعد انتهاء طابور الصباح، وأطيح فى طريقى بمن يعترضنى، وأيضًا أول من يصل إلى حوش المدرسة عندما يدق جرس الفسحة، وأول من يخرج من بوابة المدرسة عندما ينتهى اليوم الدراسى، وأول من يصل إلى قريتنا ميت خميس بعد انتهاء اليوم الدراسى.

فى أحلامى أيضًا كنت أرمح، وأحكى لأبى فيبتسم ولا يعلق، وأقول لجدتى بدر فتقول: بكرة تنْهَدِّى، وإذا قلت لأمى تعبس وتقول إن أباها المرحوم الشيخ مصطفى النمر كان يقول إن الجرى فى الحلم ليس فألًا حسنًا!».

وتتجادل مرويات مراد العارف مع مرويات هبة الله وليلى لتشكل المنظورات الثلاثة بنية السرد داخل رواية معبأة بالظلال والدلالات السياسية والاجتماعية، ومنفتحة على تقاطعات ممتدة بين الرواية المزمع كتابتها، والتى تعلن هبة الله عن رغبتها فى صوغها، والرواية الماثلة بالفعل بين أيدينا، والرواية التى تاهت وسط الركام. وفى كل تلوح رؤية الراوى الرئيسى عبر مساءلة الواقع الأدبى والثقافى ذاته فى أكثر من مقطع كاشف عن المنظور الروائى للكاتب: «عدت إلى ذلك الحلم الذى جعلنى أسخر من نفسى، فلا أحد الآن يعترف بترَّهات مثل السياق والاتساق والعمق والحبكة، لقد سقط كل هذا، وسقطت السرديات الكبرى، حتى لو كان الثمن هو الدفع إلى المقدمة بأكبر عدد من الفاشلين، وحتى لو اكتوينا كل يوم بنار شح الموهبة، فالثمن من أجل فرض اللاشىء هو أن يتوارى الحمقى من الموهوبين وصناع الجمال ليفسحوا الطريق للقادمين من الخلف».

وبعد.. تبدو مراد العارف لعبة جمالية، معنية بالنوع الأدبى «الرواية»، وحاملة تساؤلات فنية، واقتراحات وألعاب سردية تدفع بها إلى مصاف الروايات الساعية صوب تجديد النص الروائى، ودفعه إلى مساحات وازنة بين الخبرة الجمالية، والمقترح السردى فى بنية روائية متناغمة.سُميت السينما الفن السابع، لأنها تحتوى جميع الفنون الستة السابقة عليها، لتصبح هى الفن السابع.

ومن الفنون التى تعتمد عليها الأفلام السينمائية فن الموسيقى، سواء موسيقى بحتة أو الغناء، وبمجرد أن نطقت السينما عمدَ السينمائيون الأوائل- وكانوا مُغامرين بشكل كبير- إلى إنتاج فيلم يحتوى على الغناء، فكان فيلم «أنشودة الفؤاد» من بطولة المطربة نادرة وزكريا أحمد سنة ١٩٣٩، ويؤكد البعض أنه أول فيلم سينمائى ناطق قبل فيلم «أولاد الذوات».

وسواء كان «أنشودة الفؤاد» أول فيلم ناطق أو الثانى، فإنه أول فيلم غنائى فى مصر، ليفتح الباب أم صناع الأغانى فى مصر لدخول عالم السينما، ويأتى بعده فيلم «الوردة البيضاء» لمحمد عبدالوهاب ليكون ثانى فيلم غنائى مصرى، واكتسح فيلم «الوردة البيضاء» ليحقق عام ١٩٣٩ إيرادات خرافية بلغت ربع مليون جنيه.