الخميس 13 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جريمة اسمها الحب.. الرومانسية فى أدب الجريمة

حرف

بداية يدفعنا العنوان المزدوج المراوغ لرواية «جريمة اسمها الحب» إلى أدب الجريمة لوجود كلمة جريمة بالعنوان.. ووصفها لأجمل كلمة فى قواميس اللغة «الحب» معنى وإحساسًا وحياة، أى أن العنوان الصادم بوصف الحب بالجريمة يحفزك منذ البداية للقراءة، وفك لغز وصمة الحب بالجريمة. 

ووضع هذا العمل تحت العنوان الضخم أدب الجريمة، والذى يمتد فى تاريخ الأدب منذ ألف ليلة وليلة وحكاية التفاحات الثلاث إلى رواية جريمة اسمها الحب ومرورًا بكل الكتّاب العظام فى عالم التشويق والإثارة والألغاز ومباريات الخيال، والأبطال الذين فاقت شهرتهم شهرة الكاتب، فلن يكون آخرهم الضابط ياسين ومساعده عادل فى الإيقاع بسعيد الراجحى الذى قتل زوجته بدافع الغيرة العمياء. 

لغة الرواية ارتقت للشعرفى وصف المواقف العاطفية

نعود إلى العنوان حيث عتبة النص ومدخله وبابه الذى يفضى لدهاليز ومتاهات، وعناوين داخلية كثيرة عبر سرد ممتع ولغة عالية، وعالم يكاد يتناقض مع عالم الجريمة حيث الرومانسية الواقعية الجديدة المعاصرة، والتى شملت أغلب فصول الرواية وتصنع الأحداث والحوارات والشخوص بما فيهم من ارتكب الجريمة فى لحظة طيش وغيرة عمياء ولها مبررها عند علماء علم النفس فى تحليل الشخصيات السيكوباتية وردود أفعالها الحادة والاندفاع كالمنوم لارتكاب جريمة، ليصحو ويظل يعانى ويتعذب بعذاب وعقاب نفسى أقسى من العقاب القانونى، وهو ما ركزت عليه الكاتبة هنا. 

دعاء البطراوى

ما أود الإشارة إليه فى هذه الرواية البديعة.. أنها رغم انتمائها لأدب الجريمة والحبكة المعهودة الكلاسيكية بتطور الأحداث والتشويق رغم معرفتنا الجانى منذ البداية، إلا أننا نجد أنفسنا فى رواية رومانسية جميلة بين البطلة رنا وياسين، وكذلك زاهر العربى الذى يحب من طرف واحد فقط، وهو العالم الذى نسجته الكاتبة بحرفية ولغة وحوارات بالغة العذوبة تأخذ القارئ بعيدًا عن الجريمة التى ارتكبت فى بداية الرواية فى لحظة طيش وغيرة عمياء وسوء ظن ومؤامرة قدرية صنعها فيديو خليع يشى بعلاقة قديمة بين بطلين، فاستغله المنتج للترويج للفيلم، فيراه زوج البطلة مهرة فيجن جنونه بالاندفاع نحو جريمته دون تحقق أو تصديق لزوجته التى تحبه ولا تتصور مطلقًا ذلك الانتقام القاتل، إنها النوازع البشرية التى لعبت عليها الكاتبة وأجادت حبكتها لتجعلنا طوال الرواية معلقين بين مهرة الفنانة الصاعدة بكل طيشها ونزقها وبين أختها الفنانة التشكيلية الجادة الرزينة الرومانسية فى مشاعرها وأحاسيسها نحو كل شىء، الطفولة، الأصدقاء، الحب، حتى فى غضبها من أختها وحبيبها وجارتها جيهان.. إلا أنها تكاد تكون الشخصية المثالية التى بالغت الكاتبة فى جعلها نموذجًا للخير المطلق، حتى فى ردود أفعالها لم تكن مؤذية وحتى فى إصرارها على أخذ حق أختها بالقصاص، بالطبع من حق الكاتبة اختيار شخصياتها لكن الإنسان ليس سوبر مان وحياته ما بين الخطأ والصواب، ومع ذلك فقد أجادت فى رسم شخصية سعيد ومارست عليه عقاب الضمير قبل ارتكابه عملية القتل برجائه لبسيونى كى لا تتم العملية، لكن بسيونى كان مشغولًا بمطاردة ضحيته والنيل منها. حتى فكرة القتل المبررة بالغيرة كما حدث فى أول جريمة قتل فى البشرية حين غار قابيل من أخيه هابيل فتقبل الله قربان الأخير ولم يتقبل منه، وحتى بدون غيرة.. هناك أشهر جريمة قتل عبثية فى رواية الغريب لآلبير كامو، فقط كانت الشمس تلهب الشاطئ، وكان البطل مارسو يشعر بالغضب والضيق، فأخرج مسدسه وأطلق الرصاص على الضحية التى لم يكن بينه وبينها ثأر! 

رغم انتمائها لأدب الجريمة إلا أننا نجد أنفسنا أمام رواية رومانسية

نعود لباقى شخصيات الرواية، حيث زينة وشهاب والحوار الذى أجرياه، وقد عانيا أيضًا من تأنيب الضمير، وأصبح شهاب الممثل الوسيم بائسًا متهدلًا حزينًا يعانى من نوبات الضمير فى قوله «إحنا اللى قتلناها يا زينة.. أنا وإنتِ وغالى.. كل واحد قتلها بطريقته.. قتلناها لما شوهنا صورتها قدام الناس وقدام جوزها وقدام نفسها... إحنا فعلًا قتلناها قبل ما تقتل نفسها». 

فى قصص الجريمة الكلاسيكية يبحث القارئ مع المحقق سواء كان هيركيول بوارو أو شارلوك هولمز للكشف عن المجرم فى قصص الغموض والظلام كما تسمى، لكن هنا فى الرواية يجد القارئ نفسه مع القاتل وهو يرتكب جريمته مع التشويق فى كيفية الإيقاع به، وهنا براعة الكاتبة فى الحبكة السردية ومنطقة الأحداث والتسلسل المتداخل دون فجوات، حتى بالعناوين الداخلية كما لو كنا فى حلقات متتابعة لرواية متصلة منفصلة يصلح بعضها لا كلها أن تكون قصصًا قصيرة مفتوحة النهاية. 

تأتى شخصية زاهر ممثلًا للخير المطلق وضحية الحب من طرف واحد، وجيهان الجارة الثرثارة الطيبة الحشرية، وأهل ياسين حيث البرجوازية الصغيرة والمثالية، فيما يمثل القاتل الشر بطبقته الاجتماعية وحبيبته صفاء من طينته والتى ضحت به عند أول منعطف حين أوقعت به واعترفت بأن الميدالية دليل الجريمة تخص بسيونى وليس سعيد، فمهما بلغ ذكاء المجرم وحيطته لا بد أن تقتنص منه يد العدالة فى خطأ منطقى يقع رغم أنف القاتل فى نهاية كلاسيكية أيضًا باستكمال القضية والإيقاع بالقاتل، لكننا فى تلك القراءة نوسع دائرة القتل لتشمل المجتمع والبيئات الحاضنة والطموح... جموح الرغبات فى أوساط الفنانين والفنانات، تعدد الزيجات.. صخب الحياة وتأرجحها ما بين الفقر والغنى، مما يجعل المشاعر الإنسانية النبيلة والمشروعة جريمة يجب إطلاق الرصاص عليها. 

ولأن الحب يرتبط بالمرأة والرجل، لكن المرأة هى من تدفع ثمنه بالغيرة والثأر والانتقام ونظرة المجتمع، ويكون الرجل هو الجانى، ومن ثم يتمثل أدب المرأة وتطل النسوية بقهر المرأة وظلمها، إلا أننا فى الرواية نجد ظلم المرأة للمرأة أكثر تجليًا ووضوحًا، إذ تشترك مهرة مع زميلتها زينة فى الكيد لرنا بحجة الغيرة وأنها أحبت ياسين، وأن أختها التى كانت بمثابة الأم بعد موتها استحوذت على حب أبيها وثقته.

وبالعودة للرومانسية التى غلفت قصة الحب بين ياسين ورنا.. وكذلك الحب من طرف زاهر فقط لرنا، ولعل الكاتبة أرادت أن تخفف من وقع الجريمة ومساراتها وتطعيمها بالمشهيات بحب طاهر نبيل ومشاعر فياضة جامحة فى علاقات تتسم بالمسئولية والعطاء والنبل والشرف فى مقابل الجريمة التى سببتها النوازع الشريرة والانتقام والغيرة والتهور والاندفاع. 

لا يفوتنى اللغة التى كتبت بها الرواية. والتى ارتقت للشعر فى وصف المواقف العاطفية الرومانسية وكانت طوال السرد الروائى لغة راقية منتقاة بحرفية لمن يعرف جمال اللفظ ووقعه حتى فى الحوارات التى جاءت بالعامية كانت دالة ورائعة وغير مسفة:

«أغلقت عينيها، تركت نفسها لنفسها، لم تكن تريد أن تستمع لأى شىء من أصوات الدنيا، فلتصمت العصافير.. ولتتوقف موسيقى عمر خيرت التى تعشقها.. ولتصمت الجدات اللائى يقصصن الحكايات.. ولتهدأ ضحكات الأطفال.. يكفى صوته الذى عاد يغرد بين مسامعها»، «ص ١٠٦، ١٠٧». تحية للكاتبة المبدعة دعاء البطراوى، وفى انتظار روايتها الثانية حتى لو كانت فى أدب الجريمة الذى كتبته فى حرفية وتقنية سردية غاية فى الدقة والإحكام والدهشة والإمتاع.